الدكتور العثماني يكتب: طبيعة المرض النفسي
هوية بريس-الدكتور سعد الدين العثماني
تنتشر كثير من المفاهيم الغامضة وغير الدقيقة عن المرض النفسي، فيحاط لدى كثير من الناس بالتخوف، وأحيانا بالعار أو بالخرافة، وينظر إليه في حالات كثيرة نظرة سلبية أو دونية، مما يجعل كثيرا من المصابين بالاضطرابات النفسية يعزفون عن استشارة جهة طبية مختصة أو يترددون عن طلب العلاج، وهذا بدوره يؤدي إلى بقاء المرض واستفحاله. ويحدث هذا مع الأسف في وقت تطورت فيه المعرفة العلمية بالأمراض النفسية بشكل غير مسبوق، وأصبحت أسبابها وتفاعلاتها معروفة أكثر من ذي قبل. كما أنها أضحت اليوم في الغالب قابلة للعلاج، أو على أقل تقدير قابلة للتحسن. لكل هذا فإن للتوعية على نطاق واسع بطبيعة المرض النفسي دورا هاما في تحسين الصحة النفسية في المجتمع.
ونبدأ أولا بتعريف المرض النفسي. فنقول: إنه حالة صحية تتسم باضطرابات تؤثر على تفكير الشخص أو مزاجه أو سلوكه، وتسبب له الضيق والألم النفسي، وتربك أداءه الأسري أو الدراسي أو المهني أو تؤثر سلبا على اندماجه الاجتماعي.
ويمكن ملاحظة هذه الاضطرابات من قبل الشخص المعني نفسه أو من قبل أسرته وأصدقائه. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يلاحظ المقربون من الشخص أنه ينعزل على غير عادته أو أنه توقف عن القيام بأنشطة مهمة أو معتادة له. كما قد يلاحظ الشخص المعني أنه أصبح يعاني من صعوبة في التركيز أو يشعر بالحزن أو القلق في مواقف لا تسببهما في الحالة الطبيعية.
وتستند النظرة السليمة إلى المرض النفسي أساسا على الوعي بالحقائق التالية:
1 ـ إن الأمراض النفسية ذات طبيعة موضوعية مثل الأمراض العضوية، كالسكري وضغط الدم وقرحة المعدة والتهاب اللوزتين وغيرها. فهي تشبهها من حيث العموم في طبيعة مسبباتها وفي تفاعلاتها، ولها عواملها التي قد تكون متعددة ومتداخلة. وقد نكون، في فترة معينة أو بالنسبة لحالة محددة، غير قادرين على إدراكها أو فهمها، لكنها موجودة وقابلة للدراسة، ولا مجال لنسبتها إلى قوى غيبية من جن أو غيره.
2 ـ إن الأمراض النفسية حالة لا إرادية، تبرز دون رغبة أو إرادة من الشخص المصاب، وهو لا يتحمل في الغالب مسئولية الإصابة بها، إلا في حالات محددة مثل إصابة متعاطي المخدرات، أما الباقي فينتج عن تفاعل عدة عوامل وراثية وعضوية وبيولوجية ونفسية وبيئية، وذلك مثل أي مرض عضوي. واستجابتها للعلاج مشابهة لاستجابة الأمراض العضوية له.
3 ـ إن الخوف من المرض النفسي والشعور بدونية صاحبه ناتج في الغالب عن عدم المعرفة به أو قلة تلك المعرفة. ولذلك كلما ازدادت هذه المعرفة كلما قل سوء الفهم، وبالتالي قلت المخاوف والنظرات غير السليمة. فمن الطبيعي أن نخاف من أمور لا نفهمها، ولا نفهم طبيعتها وطرق معالجتها. ومن الطبيعي أيضا عندما لا نفهم تفسيرها أو لا نستوعب طبيعتها أن نلجأ إلى تفسيرات غير واقعية ولا موضوعية، نسد بها ذلك النقص، ونسكت به مخاوفنا وهواجسنا.
4 ـ إن الأمراض النفسية نوعان. فمنها أمراض حادة، يمكن علاجها بسهولة، وعندئذ يمكن أن تشفى إلى غير رجعة تلقائيا أو بعد معالجتها. ومنها ما هو مزمن، يحتاج إلى علاج قد يمتد سنوات أو عقودا من الزمان. وهذا مثل العديد من الأمراض العضوية المزمنة، التي تحتاج إلى علاج يمتد في كثير من الأحيان طول عمر المصاب. وذلك مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وغيرهما من الأمراض التي تحتاج إلى علاج طول العمر، ولا يسبب ذلك مشكلة ولا يعتبر عيبا. وبالتالي فإن هذه الطبيعة المزمنة يجب ألا توهم بأن المرض النفسي شيء غريب وغير موضوعي، أو تجعل صاحبه يخجل منه أو من نفسه.
هذه مقدمات حول طبيعة المرض النفسي يجب أن تتكامل مع معطيات سنتطرق إليها إن شاء الله، وخصوصا حول تصنيف الأمراض النفسية وطرق علاجها لتصبح الصورة متوازنة بإذن الله.