الدكتور لطفي الحضري يكتب: الأمن الأخلاقي

هوية بريس- د.لطفي الحضري
لا شيء يهدد المجتمعات الحديثة أكثر من غياب الأخلاق، ولا شيء يصون استقرارها ويعزّز تماسكها أكثر من الأمن الأخلاقي. فحين تنسحب القيم من المشهد، يبدأ الانهيار.
في ظل الفضاء الرقمي المفتوح، لم تعد التهديدات الأخلاقية تقتصر على مصادر خارجية تقليدية، بل أصبحت تتسلل مباشرة إلى العقول والنفوس من خلال مضامين هدامة تُقدَّم في قالب ترفيهي جذّاب. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ما حدث في مدينة طنجة خلال عيد الفطر، حيث بثّت في شوارع المدينة إحدى الأغاني الهابطة، المحمّلة برسائل تمجّد الإدمان والانحلال، وسط أجواء من الرقص والمرح شارك فيها حتى الأطفال، وكأنها مشهد بريء بينما هي في الحقيقة تسويق مموّه لثقافة مدمّرة. ومن تلك العبارات: “أن نشرب الطاسة، أن نسكر، ونسى، أنا وراني مريول…’ وبوسة وتعنيقة وطيحة في البحر، ومعانا بنات الجامعة”.
وغيرها من العبارات التي تروّج لثقافة السُكر، والانحلال، واللامبالاة القانونية.
ما يحدث ليس مجرد ترفيه سيئ، بل هو تسلل ناعم إلى وجدان الأجيال، وتشويه تدريجي للمعايير الأخلاقية. حين يُعرض الانحراف على أنه “فن”، ويُروَّج له كـ”حرية”، فإننا نكون أمام معركة وعي حقيقية، تتطلب يقظة الأسرة، وحزم القانون، وفعالية التربية، قبل أن نفيق على جيل مشوّش، لا يميّز بين الحرية والانفلات، ولا بين المتعة والهدم.
فهذه العبارات لا تمثّل مجرد كلمات، بل تكشف عن انهيار عميق في المعايير، وتشكّل خطرًا حقيقيًا على الوعي الجمعي، وعلى الأسرة، والمدرسة، والمجتمع بأكمله.
مظاهر الخطر:
1. تشجيع الإدمان: تصوير السكر كوسيلة للهروب من الواقع، وهو ما يهدد الصحة النفسية والجسمية، ويزيد من احتمالية ارتكاب الجرائم والحوادث المأساوية.
2. العلاقات غير الأخلاقية: استهانة واضحة بالعفة والزواج الشرعي، مما يؤدي إلى تفكك الأسرة وغياب المسؤولية.
3. الاستهانة بالقانون: الترويج لفكرة أن هذه الأفعال مقبولة قانونيًا يكشف عن جهل أو استخفاف خطير بالأنظمة، ويفتح الباب لفوضى تشريعية وأمنية.
النتائج المباشرة لغياب الأمن الأخلاقي:
• تنهار الثقة بين الناس، فلا أحد يطمئن للآخر في البيع والشراء، أو في العلاقات اليومية.
• يسود منطق القوة، حيث يستطيع صاحب النفوذ أن يظلم دون خوف من المحاسبة.
• يُستغل الضعفاء: المرأة تُهان، والطفل يُهمل، والعامل يُظلم، والفقير يُنسى.
• تتفكك الأسر، وتُهدم الروابط، وتصبح الخيانة أمرًا عاديًا.
• تنقلب المفاهيم: يُحتفى بالحرام ويُهاجم المعروف، ويصبح الفاسد قدوة.
• يُدفن الإبداع، ويصعد أصحاب الولاءات لا أصحاب الكفاءات.
في مثل هذا الجو، لا يمكن لشعب أن ينهض. يضيع وقته في النجاة لا في البناء، في التخفي لا في الإنجاز، وتتحول الحياة إلى صراع يومي للبقاء.
ما الذي يضيفه الأمن الأخلاقي للمجتمع؟
حين يحضر هذا الأمن، تبدأ المجتمعات في التنفس من جديد:
1. تنمو الثقة الجماعية: حين يكون الصدق والعدل هما القاعدة، تزدهر العلاقات، ويصبح التعاون هو الأصل لا الاستغلال.
2. تُحترم الكرامة الإنسانية: لا يُهان أحد بسبب ضعفه أو فقره، لأن الأخلاق تُعيد لكل إنسان قيمته.
3. يُعاد تعريف النجاح: لا يُقاس فقط بالمال أو النفوذ، بل بالنزاهة والعمل الشريف.
4. تُدعم العدالة الاجتماعية: تُصبح المصلحة العامة مقدّمة على المصالح الفردية، ويُمنع احتكار الخير لفئة على حساب أخرى.
5. تُعاد للحياة معناها: حين تكون الأخلاق هي المحور، يشعر الإنسان بأنه يُعامَل ككائن ذو كرامة، لا مجرد أداة استهلاك أو رقم في معادلة.
كيف نحصّن مجتمعنا؟
• بالتربية: زرع القيم في النشء منذ الصغر، وربطها بالهُوية والدين والانتماء.
• بالتشريع الرادع: سن قوانين تُجرّم ترويج المضامين التي تهدم الأخلاق.
• بالحضور الواعي للأسرة: لأن غيابها يترك الفراغ مفتوحًا أمام كل ما يُسمم الفطرة.
• بإعلام مسؤول: يعيد الاعتبار للصدق والجمال، ويكفّ عن تسويق التفاهة والانحلال.
الخلاصة:
لسنا في معركة ترف فكر أو جدال ثقافي، بل في معركة وجودية على هُوية الإنسان وكرامته. إن غاب الأمن الأخلاقي، غابت البوصلة، وفقد الإنسان اتجاهه، وأصبح مجرد أداة في يد من يملك المال والإعلام والنفوذ.
لكنّنا لا نملك ترف اليأس.
فكل موقف تربوي، وكل قرار قانوني، وكل كلمة واعية، وكل قدوة حسنة، هي لبنة في جدار الحماية، وقطرة في نهر الصلاح.
فلنبدأ من دوائرنا الصغيرة: من البيت، من المدرسة، من الكلمة التي نقولها، ومن الصورة التي نشاركها، ومن النموذج الذي نقدّمه لأطفالنا. لأن الأمن الأخلاقي لا يُفرض من فوق، بل يُزرع من الداخل.
وكل نهضة تبدأ من القيمة.


