الدّيموقراطيّة وحالة عدم اليقين!
هوية بريس – عادل بنحمزة
تعيش الديموقراطية اليوم حالة واسعة من عدم اليقين، وهي حالة تهم على حد سواء الأنظمة السياسية المصنفة ديموقراطية والشعوب التي لم تعد تملك رهانات و”أوهاماً” كبيرة بخصوص الديموقراطية التي كان يُنظر إليها كخلاص، وأصبح يُنظر إليها اليوم بكثير من الشك والتوجس والريبة، بخصوص مصيرها ومآلها في المجتمعات المعاصرة التي تبدو أقرب إلى تحقق تخوفات وهواجس موت الديموقراطية…
هذا التوصيف شكل عنواناً لكتاب جان ماري جيهينو الذي بشّر فيه بنهاية الديموقراطية، مؤكداً أننا مقدمون على عصر إمبراطورى جديد لا يعرف الحدود ولا الحرية، ويرى أن عام 1989 وضع حداً لعصر الدولة القومية، وقضى على القيم العتيقة كالأسرة والعفة.
يقدم الكتاب قراءة استشرافية لذلك المستقبل الإمبراطوري. عام 1989 كان هو زمن سقوط جدار برلين، إذ ارتفعت بعده أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما.
موضوع نهاية الديموقراطية، تناولته دراسات وأبحاث كثيرة، ويمكن اعتبار حوادث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 حافزاً دفع العديد من الباحثين إلى إعادة طرح موضوع الديموقراطية في بنائها التقليدي من زاوية المساءلة النقدية، بخاصة في ضوء الممارسات التي أقدمت عليها دول ديموقراطية على شاكلة الولايات المتحدة الأميركية لمواجهة ظاهرة الإرهاب، وذلك بإصدارها قوانين واتخاذها إجراءات مشدّدة اقتربت من حالة الطوارئ ونظام الأحكام العرفية، وربما حالة الحرب على المستويين الداخلي والخارجي. كل ذلك تحت عنوان “مكافحة الإرهاب” في حملة دولية، خصوصاً بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1373 في 28 أيلول 2001، وهو ما أدى إلى تعريض العدالة إلى نقص فادح وتجاوز خطير، لا سيما تصدّع الحق في المحاكمة العادلة.
وكان الرئيس الأسبق جورج بوش قد أجاز في قرار سابق له إجراء محاكمات عسكرية سرّية، وضمن قواعد خاصة، وقراراتها غير قابلة للاستئناف، وهو ما فسّره بعض القانونيين الأميركيين بأنه تجاوز لسلطة الجهاز القضائي، وكذلك ضد قواعد القانون الدولي والمعايير الدولية بشأن المحاكمة العادلة، وما جرى في غوانتانامو وأبو غريب والسجون السرية الطائرة التي تحدث عنها الإعلام طويلاً، إنما يثير الكثير من علامات الشك حول الديموقراطية “المفقودة”!
لقد اعتبر كثيرون أن هذه الإجراءات تعدّ انقلاباً تقوم به السلطة التنفيذية على الدستور الأميركي، كما ذهب إلى ذلك البروفيسور بويل (Boyel) الذي قال إنها تتجاوز اتفاقيات جنيف لعام 1949، لا سيما الاتفاقيتين الثالثة والرابعة، وفي الفترة نفسها شرّعت الإدارة الأميركية المحاكمات اعتماداً على أدلة سرية، وهو ما يعني إخلالاً واضحاً بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة، والاتجاه نفسه – وإن كان بدرجة أقل – عرفته بريطانيا بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت لندن، وهو ما يمكّننا من القول إن عدداً من قيم الديموقراطية تم تجاوزها بدعوى محاربة الإرهاب، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة، أن هذه القيم الديموقراطية عجزت عن مواجهة أساليب الإرهابيين التي نجحت في استثمار مجال الحريات، إلى أن نفد صبر الأجهزة الأمنية والاستخبارية للدول التي عجزت موضوعياً عن التوفيق بين إعمال القوانين المنفتحة، وفي الوقت نفسه حماية المجتمع وإحباط المشاريع الإرهابية، وهذا أمر يهدد استقلال الدول ووحدتها.
التحدي الثاني الذي يواجه مسألة الديموقراطية، هو التحدي الاقتصادي، إذ صارت المؤسسات والدول رهينة للبورصات والمصارف والشركات العابرة للقارات واللوبيات الاقتصادية، وتحولت العملية السياسية والانتخابية إلى دورة بليدة لا تؤثر في صناعة السياسات العمومية، ولا تجرؤ المؤسسات المنبثقة منها على مخالفة التوجهات الكبرى لاقتصاد كوكبي، يعيد إلى الخلف مبادئ الدولة الوطنية القطرية ومصالحها، لفائدة هويات هجينة تصنعها شركات الاتصال العالمية وشبكات التواصل الاحتماعي، وعبرها مؤسسات صناعة الرأي العام، وأضحت تلك الهويات والمعلومات المرتبطة بها سلعة للتسويق، ونجحت مؤسسات الاتصال في صناعة وجوه سياسية وتقديمها لشعوبها على أنها البديل الذي لا محيد عنه، فيما هي لا تشكل سوى وجوه جديدة لخدمة مصالح المؤسسات المالية الكبرى ورعاية مصالحها وامتداد صريح لأزمات تلك الدول والشعوب.
إن استمرار الشك في الاختيار الديموقراطي، واستمرار الإصرار على اختزال الديموقراطية في مجرد عملية تصويت “حر” في انتخابات دورية، واستمرار هيمنة الشركات الكبرى على القرارات الاستراتيجية والاختيارات التنموية للبلدان في حدودها الوطنية، فتحت العالم لسطوة الخطابات الشعبوية العدمية التي تقدم أجوبة سهلة لكثير من القضايا والأزمات العميقة، خطابات سوف نعاني منها نحن في البلدان المتخلفة بصفة أشد، وهو ما أصبح اليوم ظاهراً في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تطرح في وجهنا كل القضايا دفعة واحدة، فنحن مطالبون بالنجاح الاقتصادي لتحقيق السلم الاجتماعي، وفي الوقت نفسه مطالبون ببناء مؤسسات ديموقراطية عبر آلية الانتخابات، والجميع يعلم أن الانتخابات النزيهة والشفافة ليست بالضرورة ما سيصنع فوراً الرخاء الاقتصادي، ما دامت المسألة الاقتصادية تخضع لحسابات ورهانات تتجاوز قدراتنا كدول وشعوب.
السؤال اليوم هو: كيف نطور الديموقراطية كي تتحقق كحقيقة اجتماعية، وليس مجرد نصوص قانونية تؤطر الحرية والتنافس السلمي على السلطة كفرضيات… وفي الوقت نفسه نحقق النجاحات الاقتصادية التي تضمن الكرامة وتعيد الاعتبار للدولة والمؤسسات ومن خلالها للفرد كعنصر فاعل في المجتمع؟ وأساساً كيف يستطيع المجتمع أن يتخلص من الخطابات العدمية أو الحالمة التي لا تملك أي جواب على الإشكالات التي أدمنت توصيفها وتشخيصها، وتعتقد أن سياسة العلاقات العامة والتركيز على الحلول التقنية، كفيلان بتعويض غياب الرؤية السياسية والمشروع المجتمعي المؤسس على أفكار كبرى، وليس مجرد جمل إنشائية عابرة؟…