الربا.. وزير الأوقاف يتجاسر في الدرس الحسني على المجلس العلمي الأعلى
هوية بريس – د. رشيد بنكيران
ليس الغرض من هذه المقالة الوقوف مع ما جاء في الدرس الحسني، الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية د. أحمد توفيق يوم الجمعة 4 رمضان لسنة 1445هـ، والذي كان بعنوان “تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين”، لكن لفت انتباهي مسألة خطيرة لا تحتمل الانتظار، ولا يحل السكوت عنها بحال، تعرض لها الوزير معلنا أن الفوائد البنكية ليس ربا، ونص كلامه كالآتي:
“القضية الثالثة عشرة:
وهي التعامل مع الأبناك؛ ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك.
أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار، وما يتم أداؤه من الفوائد يتعلق بثمن الأجل ومقابل الخدمات، فيما الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصادي في البلد”. انتهى
لدينا على هذا الكلام ملاحظات ننثرها في الوقفات الآتية:
◆ الوقفة الأولى:
يعلم الجميع أن الوزير أحمد توفيق تخصصه العلمي ومساره الأكاديمي بعيدان كل البعد عن مجال الفقه والفتوى، فهو حاصل على شهادة في علم الآثار عام 1967، وإجازة في الآداب تخصص تاريخ عام 1968م، وشهادة في تاريخ المغرب 1969م، وشغل مهمة أستاذ مساعد في شعبة التاريخ سنة 1970م، إلى أستاذ محاضر في نفس الشعبة إلى سنة 1979م بكلية الآداب بالرباط، وله بحوث في مجال التاريخ الاجتماعي، كما له روايات…
ولهذا يمكننا أن نجزم دون تردد أن المسار العلمي للوزير لا علاقة له بالفقه ولا بالفتوى، فهو ليس عالما شرعيا ولا فقيها متمرسا، وغير مؤهل لذلك، ورغم ذلك اقتحم مجال الفقه والاجتهاد على خطورته، وأصدر رأيه في مسألة فقهية بعيدا عن المجلس العلمي الأعلى وشاردا عن أدبياته وأعرافه المقررة.
والعجيب في الأمر أن الوزير أشاد في الدرس نفسه الذي ألقاه أمام ملك البلاد باختصاص مؤسسة المجلس العلمي الأعلى بالفتوى على المستوى الرسمي للدولة، وأن ذلك من محاسن التجديد الذي أقدمت عليه مؤسسة إمارة المؤمنين، لكن كان الوزير أسوأ نموذج يضرب به المثل؛ إذ لم يحترم هذه المؤسسة وتجاسر عليها وهو من أشاد باختصاصها بالفتوى والاجتهاد على المستوى الرسمي للدولة، فكان “كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا”.
◆ الثانية:
وصف وزير الأوقاف من يخالفه الرأي في مسألة الفوائد البنكية بـ”المتكلمين في الدين”، ولا أدري ما مقصوده بلفظ “المتكلمين” أهم علماء الكلام الذين يتحدثون عن الإلهيات والنبوات والسمعيات!؟
أم مدرسة الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) في علم أصول الفقه الموسومة بالمتكلمين في مقابل مدرسة الفقهاء للأحناف!؟
أم المقصود بذلك العوام المتطفلون على مقام الاجتهاد في الدين، ولهذا استحقوا التنكير والإبهام!؟
أم أن هؤلاء المتكلمين لما خالفوا رأي الوزير استحقوا عنده أن يُبهِم أوصافهم العلمية وألقابهم المميزة!؟ فإذا كان كذلك -وهو الأقرب إلى الواقع- فهذا لا يليق بالوزير.
وعلى كل حال، يجب أن نعرف أن فقهاء المغرب وعلماءه متفقون على أن الفوائد البنكية هي الربا المحقق والمحرم بالإجماع، ومن بين هؤلاء العلماء الفقيه الدكتور محمد الروكي، والعالم الموسوعي الدكتور مصطفى بن حمزة، والعالم الأصولي والفقيه المالكي الدكتور محمد تاويل رحمه الله، الذي له مؤلف بعنوان: (وأخيرا وقعت الواقعة وأبيح الربا: الفوائد البنكية)، وقصة تأليفه للكتاب يعلمها المتتبع للشأن الديني ودور هذا الوزير في ذلك الذي خاب فيه وخسر!!؟
◆ الثالثة:
جرى الفقهاء على اختلاف مذاهب الفقهية أن الحكم الشرعي يناط بالعلة، التي هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب والمعرّف لحكم الشَّارع، ولا يناط بحكمة التشريع لخفائها وعدم انضباطها، فالحديث عن حكمة القرآن بالظن!! وإناطة تحريم الربا بها تلاعب بالدين.
أما علة تحريم الربا في النقود فهي الثمنية على الراجح، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأشياء كالسلع والخدمات والعقارات…، ولهذا يتوسل بالأثمان إلى معرفة مقادير تلك الأشياء وقيمتها، ولا يقصد الانتفاع بعين الأثمان أو النقود؛ فلا منفعة في ذلك، فمتى بيع بعض النقود ببعض إلى أجل مع الزيادة، وقُصد بها التجارة كما تفعل الأبناك التقليدية اليوم فسد المقصود من النقود ووقع فساد كبير وظلم شديد في المجتمع، وشملها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “فَمَنْ زَادَ -أَوِ اسْتَزَادَ- فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ”، وكذلك كثير الربا وقليله سواء، وعليه الإجماع.
◆ الرابعة:
لم يختلف علماء الإسلام أن الضرورات تبيح المحظورات، وهي من القواعد المقررة في جميع المذاهب الفقهية، فمتى تحققت الضرورة بمعناها الشرعي وحقيقتها الشرعية، فإن المحرمات -ومنها الربا- لم تعد محظورة، والضرورة تقدر بقدرها كما هو معلوم، وأهل الفتوى هم المؤهلون لتقدير ذلك، ولهذا كان إقحام الوزير أصحاب الضرورة فيما عابه على بعض المتكلمين في الدين مغالطة منه واضحة وقبيحة يتنزه عنها المنصفون العاقلون، فالعلماء أحق من يقدر أحوال الضرورة وأصحابها، وأحرص على رفع الحرج في الدين والتيسير فيه، لكن يسيرون وفق ضوابط شرعية محكمة حتى لا يقع الناس في تمييع الدين.
◆ الخامسة:
تعرضت المجامع الفقهية في العالم الإسلامي لمسألة الفوائد البنكية وخلصت إلى أن تلك الفوائد محرمة شرعا لأنها صورة من صور الربا المجمع على تحريمه. من هذه المجامع الفقهية:
مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف الذي عقد عام 1965، الذي حضره ممثلو 35 دولة إسلامية، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة، الذي حضره ممثلو جميع الدول الإسلامية مع أكثر من 70 خبيرا في الفقه والاقتصاد في سنة 1985، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ ابن باز، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث..
وغيرها من المجامع الفقهية التي يمكن من خلالها الجزم أنه حصل شبه إجماع أو اتفاق واسع على تحريم الفوائد البنكية، والمخالف لهم في هذه المسألة محجوج بالأدلة القوية والقطعية التي ساقوها وكانت مستند الاتفاق الذي وقع.
وقد سبق لمفتي مصر السابق شيخ الأزهر محمد سيد الطنطاوي أن زلت قدمه في مسألة الفوائد البنكية، لكن رد عليه كبار العلماء الأزهرين قبل غيرهم، وبينوا ضعف قوله وشذوذه، ومن الردود التي اشتهرت كتاب للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بعنوان: “فوائد البنوك هي الربا المحرم”.
◆ وأخيرا:
تبين مما سبق ذكره أن الوزير أحمد توفيق بإعلانه المذكور أعلاه وأمام ملك البلاد شوش على المغاربة دينهم، فإن للمجلس الملكي هيبته وتأثيره، وتحريم الفوائد البنكية متفق عليه بين الفقهاء، وبات تحريمه معلوما ومستقرا في ضمير المغاربة منذ عقود، ولهذا تجد منهم من يقترض بالربا عن طريق البنك من غير ضرورة، إلا أنه يعلم في قرارات نفسه أنه تعامل غير مشروع واقترف محرما من الكبائر.
وبناء على هذا التشويش الذي حصل من الوزير في ذلك المجلس، ومن باب الأمانة التي يتحملها المجلس العلمي الأعلى، وفي إطار مشروع التبليغ من أجل حياة طيبة الذي يسهر عليه، فإنه ينبغي أن يصدر عن المجلس العلمي الأعلى ما يزيل هذا التشويش.