«الرقص الصوفي».. تجارة بائرة في سوق «السكينة»
هوية بريس – ذ. طارق الحمودي
فقد كان بعض الباحثين وفقه الله من المنتسبين للتصوف قد نشر كتابا عن تصوف المتقدمين والمتأخرين دون تمييز بينهما، ثم أعيد طبعه مرة ثانية، وتلقفته بعض الأيادي الأكاديمية، حاول فيه التأصيل له من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وفي الكتاب جوانب إيجابية طيبة ومهمة تخص فقه المعاملة مع الله يشكر صاحب الكتاب على إيرادها، وقد استفدت منها جزاه الله خيرا، لكنه هداني الله وإياه لم يخل كتابه من غرائب في الاستدلال وعجائب في القراءة، وقلة تحقيق وتوثيق تقلل من قدر الكتاب، فقد لاحظته يمارس انتقاء مخلا بالعلمية في الوصف والتحليل.
كان مما توقف عنده الكاتب ما سماه “الرقص الصوفي” -الذي يعد نوعا من “الدخول في العمل” عند بعض المفكرين- حاول أن يوهم أصالته في الشريعة الإسلامية، فوقع في تكلف معيب، ولم يفلح في ما قصده، فلم تسعفه الأدلة، ولا مواقف المحققين، فعمد إلى وسائل غير لائقة بالباحث الجاد، فلم يوفق في التأصيل وفقه الله، وسأعرض معالم ما استنكرته عليه واحدة واحدة مع بيان وجه الانتقاد والدفع.
استشهد الباحث بحديث لعب ورقص وزفن الحبشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: “وفي الحديث دليل قوي على إباحة الرقص في المسجد وأثناء مدحه صلى الله عليه وسلم“، وليس فيه دليل فضلا عن أن يكون قويا لسبب ظاهر، وهو أنهم لم يكونوا في حالة وجد وذكر، بل كانوا يرقصون ويلعبون لعبا حربيا وعسكريا كما نبه عليه الحافظ في فتح الباري، وقد كان لعبهم على نحو ما تفعله فرق “البواردية“، ففي صحيح مسلم: “وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب“.
واستشهد بحديث “حجل” و”نط” زيد بن ثابت على قدم واحدة كما تفعل الفتيات الصغيرات عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أنت أخونا ومولانا“، ثم نقل عن البيهقي قوله: “والحجل أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى من الفرح، فإذا فعله الإنسان فرحا بما آتاه الله تعالى من معرفته أو سائر نعمه فلا بأس“، لكنه لم ينقل قول البيهقي منتقدا سند الرواية: “هانئ بن هانئ ليس بالمعروف جدا، وفي هذا إن صح دلالة على جواز الحجل“.
فالبيهقي يعلق الحكم هنا على صحة الخبر لما وقع في نفسه من جهة هانئ! وحق له ذلك، فإن هانئا هذا لا يروي عنه إلا أبو إسحاق، فهو على هذا مجهول، ولذلك قال فيه الشافعي: “لا يعرف، وأهل العلم بالحديث لا ينسبون حديثه لجهالة حاله“، ولم يتردد ابن حجر إذ نقل هذا عنه في التهذيب في تضعيف هانئ في التقريب، ورواية الحجل هذه عند البيهقي وغيره من طريق أبي إسحاق السبيعي، وكان ممن اختلط، فهي على هذا ضعيفة.
قلت: وقد انتقى الكاتب من كلام البيهقي الذي في “الآداب” وترك الذي في “السنن الكبرى” إن كان قد وقف عليه، مع أنه تجنب اعتماد قول البيهقي في نفس الكتاب الذي أحال عليه وهو “الآداب” في حديث زفن الحبشة السابق الذكر: “وفي هذا دلالة على جواز اللعب بالحراب لما فيه من الاستعداد لحرب العدو“.
ثم استشهد بقول علي رضي الله عنه في الصحابة: “كانوا يصبحون صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى،قد باتوا سجدا وقياما يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح” لجواز التمايل رقصا عند ذكر الله تعالى خلاف ما تقتضيه الشريعة فيه من السكينة والطمأنينة والتأمل، وهذا الخبر متهالك، إذ مداره على رجل مجهول غير معروف اسمه أبو أراكة! والاستشهاد بمثل هذا طريقة غير مرضية في أدبيات التحقيق والتدقيق، وعلى فرض صحة الخبر، فإن “ميدهم” أي “ميلهم” كان بسبب آخر كما هو نص الخبر، فقد كانوا يبيتون سجدا وركعا يتلون كتاب الله تعالى كما قال الله تعالى فيهم، لا يرقصون وينطون كما قصده صاحب الكتاب، فميدهم كان بسبب تعبهم، وحسبي الله ونعم الوكيل!
ثم انتقل الكاتب إلى ما كان ينبغي عليه تجنبه والابتعاد عنه، وهو نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرقص الصوفي، وهذه إساءة للأدب مع شخصه الكريم عليه الصلاة والسلام، فقد استشهد برواية ابن عمر لقول النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: ‹‹يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده، وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها، ثم يقول: أنا الجبار أنا الملك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ قال: ويتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله..›› ونسب الرواية إلى مسلم، وهو خطأ فادح، فليس عند مسلم قوله: ‹‹ويتمايل رسول الله…››.
وأصل الحديث دون هذه الزيادة عند البخاري أيضا، وهي عند ابن ماجه مع الزيادة بإسناد حسن، فعبد العزيز بن أبي حازم صدوق، وليس في لفظة “يتمايل” -وفي رواية أخرى عند ابن ماجه “يتميَّل” وفي رواية عند الطبري في التفسير “يميل“- ما يشير إلى مقصد الكاتب، بل كان تمايُله ميلا إلى الجهتين ليُسمع كلامَه للجهتين كما يفعل الخطباء اليوم لا رقصا صوفيا، فليس المنبر محلا للعب.
ثم ارتكب الكاتب ما لا ينفع، وهو الاستدلال -كما فعل اليافعي في المرآة وغيره- بفعل من ليس بحجة في دين الله تعالى، فنقل عن الذهبي أن العز بن عبد السلام كان يحضر مجالس السماع ويرقص، وليس هذا بشيء ولا فيه شيء، فالحجة كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فلا عبرة بما فعله الكاتب هنا، فإنه إن استدل بالعز ابن عبد السلام استدللنا بعشرات غيره على ذم الرقص الصوفي، وكما قال ابن القيم -كما في رسالة في حكم السماع-: ‹‹فإن احتججتم بالرجال كاثرناكم بالواحد ألوفا مؤلفة…››.
ثم استشهد بكلام لابن القيم في ما يقع للناس من تأثر وجداني ينتج عنه البكاء موهما أن ابن القيم يجيز مثل هذا الرقص، ولست أرى وجه استشهاده، فلا علاقة له بالموضوع، لأن ابن القيم نفسه يذم الرقص الصوفي بإطلاق كما في “إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان“، وقد استنكر الرقص الصوفي علماء المالكية كالقرطبي وابن عطية والشاطبي وغيرهم.
وقد استكمل الكاتب محاولته الفاشلة بالهزيل من الاستدلال، فقد استدل للرقص الصوفي باضطراب جبل أحد، واهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، وهو لغو لا قيمة له، ولا يصح صدور مثل هذا الاستدلال عن فقيه، وقد ذكر الطرطوشي المالكي أن هذا الرقص التعبدي فعل يهودي.
وقد نصت عليها كتب اليهود مثل ما جاء في سفر المزامير عندهم:‹‹سبحوا بحمد اسمه رقصا، وله إيقاعا وطبلا!››، وفيه أيضا: ‹‹سبحوا بحمده نفخا في الصور، سبحوا بحمده إيقاعا على الأوتار، سبحوا بحمده رقصا وطبلا، سبحوا بحمده إيقاعا وزمرا، سبحوا بحمده بالصنوج المدوية، سبحوا بحمده بالصنوج المجلجلة!››.
ولا يزال يهود الحسيديم على ذلك كما في “اليهود الحسيديم، نشأتهم تاريخهم عقائهم وتقاليدهم“، فالسكينة السكينة عند ذكر الله تعالى كما هي سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم ملاحظات كثيرة جدا وخطيرة على ما يكتبه أمثال هؤلاء، أستبقيها لوقت الحاجة إن شاء الله تعالى، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المرسلين.
مستغرب جدا من استاذ يشتغل بالبحث الاكاديمي ان لا يحترم ابسط ابجدياته وهي التوثيق في النقل ،فهو لا يذكر لا اسم صاحب الكتاب ،ولا عنوان الكتاب ولا صفحات موضع النقل ،وهذا لعمري من اشنع ما يتصور في البحث العلمي !!
يا اخي اذا كنت متاكدا من صحة ما تقول فلماذا تخشى من ذكر اسم الكتاب !?
اذا غاب التوثيق فالمكتوب لا يساوي المداد الذي كتن به