الرقية الشرعية.. بين العبادة والتجارة
هوية بريس – إلياس طلحة
نعيش اليوم في زمن الفتن والمشاكل والخروقات، لذا من البديهي أن يبحث المرء عن الحلول والمخرجات، ويكون شغله الشاغل البحث عن تفسير منطقي لما يسميه الكثيرون بـ”سوء الطالع”، إذ قلما نجد شخصا لا يشكي ويبكي حاله ويعدد هذه “العكوسات” التي تؤرق ليله وتعتم نهاره.
مؤخرا صرنا نسمع كثيرا عن الرقية الشرعية وكيف أنها أضحت السبيل المثالي الوحيد للقضاء على هذه المشاكل وتطهير النفس من الشرور وعبث الشياطين، صار الكل يتحدث عن فعالية الرقية الشرعية المعاصرة، وبراعة الرقاة وضرورة قصد أحدهم، لكن ألا ينبغي أن نقف قليلا عند هذه الظاهرة ونخول لأنفسنا حق طرح مجموعة من الأسئلة: لماذا الرقية الشرعية؟ وما علاقتها بالشرع؟ وهل لها ضوابط وحدود؟ وكيف يصير المرء راقيا “شرعيا”؟
انتشرت عبارة الرقية الشرعية لدرجة أنها استحالت عبارة مسكوكة يلوكها كل شخص في فمه، لكن نادرون أولئك الذين يفهمون معناها ويدركون علاقتها بالدين والدنيا، فعوض أن يذهب المرء إلى الصلاة وقراءة القرءان والأذكار والأوراد، وملأ الفراغ بالرياضة والمطالعة وممارسة الهوايات النافعة، للتخلص من كدر الدنيا وأوبئتها، يرمي بثقل أعماله على الرقية والرقاة. أصبح في كل مشكلة سواء كانت صغيرة أو كبيرة يسارع إلى الرقية الشرعية، فمن تأخر في الزواج، ومن لم يتوفق في الحصول على العمل، ومن خسر فريقه الكروي الذي يحبه حتى النخاع، ومن فشل في دراسته، و من غلبه النعاس ولم يذهب إلى عمله، بل حتى من استيقظ صباحا فوجد نفسا جنبا يكون الحل هو الرقية الشرعية، دون أن يكلف أي أحد منهم نفسه عناء التفكير في حل واقعي أو التوقف للتفكير والنظر فيما يعيشه إن كان يستحق ذلك أم لا! بل صار الحل الوحيد هو الرقية ثم الرقية ثم الرقية ولا شيء سواها.
حينما نحى الأمر هذا النحو، تفشت هذه الظاهرة واستفحلت حتى صار من النادر ألا تسمع شخص يسألك عن الرقية، ويتراوح استفساره بين سؤالين: هل تأخذ حصصا في الرقية؟ ومهما كانت الإجابة سيضيف السؤال الثاني: هل تعرف راقيا جيدا؟ بل يمكن أن يستمر ويعرض عليك “أمهر” و”أشهر” الرقاة داخل المغرب وخارجه.
وبما أن الأمور تطورت بهذه السرعة، أصبحت الرقية الشرعية فرصة على طبق من ذهب استغله الكثيرون فسموا أنفسهم رقاة شرعيين، لتصبح عندهم حرفة يحترفونها ومهنة يمتهنونها وتجارة يتاجرون فيها، متناسين أنها من الدين والقيام بها بالوجه المطلوب شرعا يحسن الظن بالدين، فأخرجوها عن معناها الحقيقي وأعطوا بذلك نظرة ناقصة على الشرع باعتبارها من الشرع والله المستعان، وطبعا لا أتكلم عن الجميع لأنني واع بأن لكل قاعدة استثناء وأن الخير لا ينقطع من الأمة مهما استفحل الشر.
أخي القارئ؛ يكفيك أن تترك لحيتك تنمو وتتجاوز ذقنك قليلا، وأن تلزم ارتداء الجلابيب أو “القنادير”، وتتصفح وريقات من “الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار” أو “وقاية الإنسان من الجن والشيطان”، وتستمع لبعض أشرطة الرقية الشرعية من اليوتيوب، وتسمي نفسك إسما مركبا على وزن “فلان أبو علان”، وتشتري محفظة تضع فيها ميكروفونا وإناء مملوءا بماء ممزوج بأوراق شجر معينة، وتذيع عملية صرعك للجن عن طريق فيديوهات تنشرها في قناتك على اليوتيوب أو تنقلها بالبث المباشر من صفحتك على الفاسبوك، وها أنت ذا راقي مفواها، لن تلبث ويذيع صيتك بين من يتلهف على أخذ الحصص في ذلك.
إنني في هذا الموضوع لا أود مناقشة مشروعية الرقية الشرعية لأن هذا أمر مفروغ منه، بل إنه لا يخفى على الجميع أن الرقية مستمدة ومأخوذة من الدين، ومن ثمة فنحن نسلم بها كوسيلة رئيسة للعبادة أولا قبل الشفاء، فالرقية عمل شريف الهدف منه تحصين النفس بالأذكار والأدعية وإعانة المسلمين بعيدا عن الشعوذة والخرافات، وقد ورد في ذلك غير ما حديث، فقد روى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك قال: (كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك) ومن ثمة فإن مشروعية الرقية لا تشوبها شائبة شريطة أن يلتزم الراقي بالأحكام الشرعية.
إن التصور الحقيقي والمعنى الأصلي للرقية الشرعية قد حرف وأضحت تعني التجارة بعد أن كانت في الأصل تعني العبادة، حتى أن الأمر تجاوز حدوده فعليا حين أصبح الرقاة لا يتنافسون فقط على جلب الزبائن، بل وصل بهم الأمر إلى الشجار و سب بعضهم البعض وسفك الأعراض وانتهاك الحرمات فيما بينهم، ليكون هذا هو السبب الفعلي لكتابة هذا الموضوع المتواضع لأحدد من خلاله بعض الأخطاء والمخالفات الشرعية التي سأضعها في ميزان الشرع والعقل.
إن ما نراه اليوم من رقاة آخر الزمان يخالف أهم ما جاء في محددات الرقية الشرعية الحقيقية التي ترتكز على ثلاثة شروط: أولها أن تكون الرقية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والثاني أن يكون الكلام باللغة العربية الفصحى، و الثالث ألا يعتقد الراقي والمرقي معا أن الرقية الشرعية تشفي بذاتها، وهذا ما ذكره الحافظ بن حجر العسقلاني في كتابه “فتح الباري في شرح صحيح البخاري’، في حين أن الراقي والمرقي معا يضربان بهذه الشروط عرض الحائط ويصير الشفاء هو الرقية والرقية هي الشفاء.
ومن بين أبرز الأخطاء التي يقع فيها رقاة آخر الزمان تجاوزهم في علاج النساء وتهاونهم الكبير في ذلك، بحيث يسمحون جلهم -إن لم أقل كلهم- بدخول المرأة عليهم متبرجة بل في غاية جمالها وتجميلها، ليعالجوها بدون محرم أم مع مجموعة من النساء، وهذا حرام مطلق، ومخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “إذا اختلا رجل بامرأة كان الشيطان ثالثهما” وغير ذلك من الأدلة الكثيرة في هذا الباب التي لا يسع ذكرها.
إضافة إلى ذلك جهلهم أو تجاهلهم المركب إن صح التعبير لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والذي فيه “أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا هل معكم من دواء أو راق، فقالوا إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا…” فتبين من خلال هذا أن الحديث فيه دلالة على معاملة المثل وليس على اشتراط قيمة مالية معينة، لأن سعيد الخدري رضي الله عنه رفض أن يرقي لهم إلا بجعل، وذلك لأن أهل ذلك الحي أبوا أن يضيفوهم، فتعامل معهم أبو سعيد بالجزاء من جنس العمل، كما أن أهل القرية اشترطوا عليه أن لا يعطوه شيئا حتى يحصل الشفاء، وكذلك كان، بخلاف ما نراه الآن من رقاتنا النصابون في فرض أثمان خيالية على المريض، مستهزئين بقواعد الشرع، ومتناسين لمبادئ الإنسانية، وضاربين كل ذلك عرض الحائط.
ومن المخالفات الشرعية في هؤلاء المحتالين إدعاؤهم القدرة على الشفاء وصرع الجن، وإقحام انفسهم فيما لا يحمد عقباه، إذ إن عالم الجن يدخل في عالم الغيب، وعالم الغيب بدوره مقصور على الله عز وجل دون غيره، وبالتالي عندما يتأخر المريض في شفائه ويظل مسكونا بالجن، يتساءل ذووه عن سبب خروج الجن مثلما وعدهم الراقي، ليدخل هذا الأخير في دوامة من التبريرات الفارغة، كما يقومون بتحديد عدد الحصص للمريض فيقول له: تحتاج حصتين أو ثلاثة أو عشرة… وهذا أمر غير صائب لأن تحديد عدد الحصص يتطلب أمرين: معرفة الراقي بقدرته ومعرفته بقدرة الجن وقوته، ولنفترض جدلا أن الراقي يعرف قوته لكن هل يمكن أن يعلم قدرة الجن؟ وما هذا إلا تحايل ونصب حتى ينمو برقيته التجارية وينجح في ذلك.
إنني كلما ألقيت نظرة على كثير من صفحات الرقاة الذين يسمون أنفسهم شرعيين وماهم بذلك في الفاسبوك وقنواتهم في اليوتيوب، إلا وأجد جميعهم بدون استثناء، لم يحافظوا على فرضية قواعد التجويد في تلاوة القرءان، وكلهم يقعون كثيرا في اللحن الجلي الذي يؤثم صاحبه، وهذا خطأ جسيم لا يساويه خطأ، يقودنا إلى طرح الكثير من الأسئلة، من بينها هذا السؤال الرئيس: كيف تلحن في قراءتك للقراءن وتدعي شيخوختك و أستاذيتك في الرقية الشرعية التي تستمد من القرءان؟
في هذا الموضوع أريد أن لا تفوتني الإشارة إلى قضية الطب النفسي الذي ينكره رقاتنا ولا يدعون إليه أبدا، لأنه في رأيهم يدخل في نطاق المنكر والمكروه، و لأنه عندهم يقتصر عمله على إعطاء “القارقوبي” للمرضى بغية تهدئتهم ولا يساهم أبدا في عملية الشفاء، لكن الأمر ليس كذلك! فهناك عدة تجارب حقيقية تشهد بعكس هذا، وقد عشت تجربة كتب لها الشفاء بوساطة الطب النفسي والرقية الشرعية السليمة بعيدا عن هذا الدجل الذي يحيط بنا اليوم، ثم إن هؤلاء الذين ينكرون هذا النوع من الطب لماذا يلهثون وراء المستشفى والصيدلية حين يمرضون؟ ولماذا لا يداوون عائلتهم بالرقية أو الأعشاب التي يملكونها؟ ولماذا يصبح الطب حراما حين يتعلق الأمر بالرقية الشرعية فقط؟ أما ما عداها فهو حلال! أسئلة كثيرة لا نجد لها جوابا سوى أن الطبيب النفسي يضايقهم ويأخذ منهم زبائنهم.
وبعيدا عن ما ذكر من أخطاء يقع فيها الرقاة تثيرنا مسألة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها؛ ألا وهي الصبغة القانونية التي يلجأ إليها الرقاة، ونتحدث هنا عن ما يسمى بالمراكز أو الحوانيت، إذ لا نكاد نمنع أنفسنا من التساؤل عن الترخيص الذي أعطي لهم، أو عن الجامعات التي تخرجوا منها، أو الشهادات الأكاديمية التي تثبت كفاءتهم المهنية في ممارسة هذه المهنة، وغير ذلك من التساؤلات الكثيرة التي حيرت العقول والأفهام. فعلى الدولة خاصة مؤسساتها الدينية أن تضع حدا لهذه الظاهرة التي تفشت بيننا كتفشي النار في الهشيم، و لأن الوضع ينذر بكل سوء ولا يبشر بخير، ومن هنا أدعو إلى نقاش حاسم ونهائي للحد من هذه الظاهرة.
ختاما إنني أتحسر على مجتمع حول الرقية الشرعية من عبادة وذكر، إلى نصب واحتيال بطرائق عصرية وأنيقة، كما أبين أن هذا الموضوع أكبر من يحصر في بضعة فقرات، لأن جذوره دينية وامتداداته اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى، لذا يصعب حصر جوانبه كلها والتي سأحاول التطرق إليها في مقالات مستقبلية إن كتب الله لنا البقاء إن شاء الله.