في حربه المتواصلة ضد ثوابت الهوية الوطنية في المغرب، يسعى الفاعل العرقي إلى تهديم المقومات الوطنية الجامعة لكل المغاربة، وفي نفس الآن يحاول بناء تصور إيديولوجي عرقي مختزل ينهل من معين التصور الثقافي والسياسي الكولونيالي.
وفي حربه المعلنة هاته ينطلق الفاعل العرقي من تصور استراتيجي متكامل يستدف من خلاله تحطيم كل الرموز الوطنية الجامعة للمغاربة، من علم وطني ودين إسلامي ولغة عربية. وهذه الرموز، في اعتبار الفاعل العرقي، هي الحواجز الحقيقية أمام المشروع العرق-فرنكفوني الذي خصصنا له بحثا كاملا من قبل.
وهذا المشروع، في جوهره، يعتبر بمثابة إعادة إنتاج reproduction لفلسفة الظهير البربري التي حاربتها الحركة الوطنية ووأدتها في المهد، ويقوم تصور الظهير البربري على أساس التحالف بين المنظومة الاستعمارية، وبين المنظومة العرقية التي تمت صناعتها في مختبرات السوسيولوجيا الكولونيالية ليتم نقلها بعد ذلك إلى الميدان المغربي من أجل التطبيق على أرض الواقع العملي.
في مقال سابق أمطنا اللثام عن المؤامرة العرقية الكبرى في مواجهة الرموز الوطنية، في علاقة بالعلم الوطني المغربي الذي لا يعترف به الفاعل العرقي، ويقدم بديلا له علما عرقيا مصنوعا بين أروقة الاكاديمية البربرية بباريس.
وفي هذا المقال سنحاول إماطة اللثام عن جانب آخر من المؤامرة العرقية التي تسعى إلى استهداف الانتماء الإسلامي للمغرب، بادعاء العلمانوية العرقية تارة، وبادعاء حماية التعددية الدينية في إطار مشروع تنصيري متكامل تارة أخرى.
من العلمانية laïcité كتصور فكري وسياسي حديث إلى العلمانوية laïcisme كتصور أصولي عرقي
تتميز الإيديولوجية العرقية بنزوع أصولي لا يختلف في شيء عن الاصوليات الدينية والقومية، لذلك نجد الفاعل العرقي يتعامل مع منجزات الفكر الحديث بانتقائية عمياء قد تصل به أحيانا إلى معاندة تاريخية الأفكار، مما يسمح له بالركض في كل الاتجاهات متحديا اتجاه البوصلة ! وهذه الآليات في التفكير، لا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى القيم الفكرية الحديثة التي تنتصر لمفاهيم الدولة والمواطنة والتعددية والاختلاف… وجميع هذه المفاهيم تعتبر ثمرة النضال ضد الفكر العرقي المنغلق الذي جسده (أدولف هتلر) في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا … وأدى إلى كوارث خربت أوربا عن آخرها.
يصرح الفاعل العرقي بأن العلمانية هي الحل، على شاكلة التصريح السلفي ( الإسلام هو الحل). لكن، الهدف المرسوم يتجاوز المشروع العلماني الحديث الذي يفصل بين السلطتين الروحية والمادية ويحافظ، في نفس الآن، على استقلاليتهما ودورهما الفاعل في المجتمع، إنه يتخذ مفهوم العلمانية، فقط، كشعار يخفي صراعا من نوع آخر لا يعلن عنه الفاعل العرقي صراحة، ولكنه يوجد بين ثنايا الخطاب العرقي. إن العلمانية تحضر باعتبارها أفضل وسيلة لتصفية الحساب مع الانتماء الحضاري العربي الإسلامي لأقطار المغرب العربي، وفي نفس الآن تعتبر أفضل وسيلة لربط المغرب العربي بالامتداد الاستعماري الفرنكفوني، عبر ادعاء الانفتاح على قيم الفكر الحديث !
ولعل هذا، هو ما رسخه البحث السوسيولوجي الكولونيالي، في المغرب العربي، حينما تحدث عن (الديمقراطية الأمازيغية) قبل ظهورها في الفكر الحديث !!!! في تناقض واضح مع تاريخية الأفكار. فمن خلال دراسته للتشكل القبلي في المغرب، يخلص (روبير مونتاني) إلى كون القبائل البربرية المدروسة هي، في نظره، عبارة عن جمهوريات بربرية تشبه، في تشكيلتها، الجمهوريات ذات الطابع الديمقراطي العسكري.
Robert Montagne : Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc- essai sur la transformation politique des Berbères sédentaires (groupe cheluh) Ed Alcan, Paris 1930.
وقد تم التعامل مع ( العلمانية الأمازيغية) باعتماد نفس المنظور اللا تاريخي حيث راجت؛ في عدة كتابات، دعوى الفصل بين الدين والدولة، في وقت مبكر جدا، وقبل ظهور مفهوم العلمانية في الثقافة الغربية نفسها ! وذلك على الرغم من أن تاريخ الأفكار يؤكد على أن المفاهيم، كل المفاهيم، هي، في الأخير، نتيجة تراكم معرفي يؤدي إلى طفرة اصطلاحية، تظهر على شكل مفهوم دال على تشكل فكرة أو رؤية جديدة للعالم بتعبير لوسيان كولدمان.
لكن الفاعل العرقي، لا تهمه تاريخية الأفكار هاته بل يغريه، أيما إغراء، أن يتماهى مع الأطروحة الكولونيالية، لكن من دون أن يمحص أساسها المعرفي الذي يوجهها. فالدرس التاريخي والسوسيولوجي الكولونيالي يتناقض مع روح البحث العلمي الأكاديمي، الذي يعتمده الباحث الفرنسي نفسه حينما يتعلق الأمر بقضاياه التاريخية والاجتماعية الخاصة. فالثقافة الأمازيغية؛ حسب بعضهم، تقدم عراقة الممارسة العلمانية، على مستوى شمال إفريقيا، وذلك من خلال القبيلة الأمازيغية، فهذه الأخيرة كانت قائمة على تنظيم اجتماعي وسياسي تتولى فيه الجماعة تدبير أمورها بشكل جماعي ضمن قانون عرفي يضعه أفرادها، فالجماعة الأمازيغية كانت تتشكل من “أمغار” القائد الذي كان يتولى تنفيذ قرارات الجماعة في شقها السياسي، في حين كان “الفقيه” يتولى تدبير الأمور الدينية المرتبطة بالصلاة والأذان وتعليم القرآن للأطفال.. حيث لم يكن الأول يتدخل في شؤون الثاني والعكس صحيح، وهذا الفصل بين السياسي والديني هو الذي رسخ استقرار أفراد الجماعة.
هكذا، بجرة قلم، يتم التنظير للعلمانية، رغم أننا نعلم جيدا المسار الشاق والمضني، الذي مر به هذا المفهوم قبل تشكله نظريا وقبل خضوعه للممارسة العملية، منذ الإصلاح الديني، ومرورا بالثورة الفرنسية، والثورة الإنجليزية… كل هذا، لا يهم الفاعل العرقي لأن الأهم عنده هو إثبات الأوهام على حساب الحقائق التاريخية والاجتماعية، فهو لا يكتفي بإثبات أسبقية التنظير للعلمانية خلال العصور الغابرة، بل إنه يتعدى ذلك إلى التأكيد على ممارستها كتجربة اجتماعية وسياسية من طرف القبائل البربرية!!!!
هذا ما يقوله ظاهر الخطاب لكن، عمق الخطاب يقول شيئا آخر لا علاقة له، بالتمام، مع مفهوم العلمانية، سواء كنظرية أو كممارسة، إن ما يقوله جوهر الخطاب هو نفسه ما جسدته السوسيولوجيا الكولونيالية، في علاقة بتنظيرها للخصوصية الأمازيغية التي تحضر كتعارض مع الخصوصية العربية، وكل ذلك ضمن ما أطلق عليه ” السياسة البربرية في المغرب العربي” ، هذه السياسة التي بلغت قمة نضجها مع إعلان الظهير البربري، في تناغم تام مع دعوى العلمانية الأمازيغية، هذه العلمانية التي تقوم على توظيف القوانين العرفية كبديل للقوانين المغربية المستندة إلى روح الشريعة الإسلامية.
إن العلمانية هنا، تتحول إلى شعار إيديولوجي يخفي أكثر مما يعلن، وذلك لأن الفاعل العرقي، وهو يروج لهذا الشعار، لا يقيم وزنا لشحنته الفكرية الحداثية؛ في بعدها الكوني، بل تصل به النرجسية العرقية إلى تبشير العالم كله بالمنجزات العلمانية التي تحفظها الأعراف البربرية الأصيلة ! وهكذا، يكشف دون أن يدري عن أهدافه الحقيقية من خلال ترويجه لشعار العلمانية، إنها أهداف ذات نزوع إقصائي يسعى إلى استئصال المكون الحضاري العربي الاسلامي؛ من منظور أحادي ومنغلق للهوية، وتعويضه بالأعراف الأمازيغية القديمة، باعتبارها التجسيد الحقيقي للأصالة والخصوصية المغربية! ونحن نتساءل هنا، عن أية علمانية يتحدث الفاعل العرقي إذن ؟ هل العلمانية كإنجاز حداثي يجسد الفصل بين السلطتين الروحية والمادية مع المحافظة على فعاليتهما الاجتماعية؟ أم إنها لا تتجاوز عرفا/تقليدا (من منظور سلفي/رجعي) يجب استعادته كبديل للشعار السلفي (الإسلام هو الحل) ؟
إن الفاعل العرقي؛ وهو يربط العلمانية بالأعراف الأمازيغية القديمة؛ لا يجسد طموحا تقدميا وحداثيا؛ كما يدعي، ولكنه يعبر عن نزوع سلفي أصولي دون أن يدري. ولذلك، نجده يفكر في المفهوم ليس باعتباره من منجزات الفكر الحديث؛ بل إنه يعتبر أن العلمانية هي مكون أصيل من مكونات الأمازيغية كهوية وحضارة.
ولتأكيد نزوعه الأصولي الماضوي؛ فهو يقدم قراءة انتقائية لتاريخ المغرب تتماهى مع الرغبة وتتجاهل الواقع لتنتج حقيقتها الخاصة المسكونة بهاجس الفصل، في الهوية المغربية، بين ما هو أمازيغي أصيل إيجابي دائما، وبين ما هو عربي دخيل وطارئ لم يحمل معه إلا ما هو سلبي من القيم والتمثلات. وعليه، فحسب هذه القراءة العرقية، فإن الأمازيغي بطبعه وفطرته متفتح متسامح مناصر للديمقراطية، والعربي منغلق متعصب مساند للاستبداد ومكرس له. الأمازيغي أيضا، حسب هذه القراءة العرقية، يميل إلى ممارسة دينية معتدلة تفصل بين الديني والسياسي، والعربي يميل إلى الغلو والتطرف والجمع بين مجالي الدين والسياسة. الأمازيغي، تبعا لذلك، يناصر العلمانية والعربي يناهضها. هذا، إذن، هو المسكوت عنه في هذه القراءة، التي تقرأ التاريخ حسب رغبتها وهواجسها كتعبير عن تطلعات وطموحات وغايات.
من وهم العلمانوية العرقية إلى التبشير المسيحي في المغرب
النسق الكولونيالي الخفي
إن المسكوت عنه في الخطاب الإيديولوجي العرقي، وهو يروج لوهم عرقي يسميه العلمانية، هو النسق التاريخي والسوسيولوجي الكولونيالي الذي يحضر بين ثنايا الإيديولوجية العرقية، ويفضح بالتالي كل الشعارات الجوفاء التي يروجها الفاعل العرقي، إما عن وعي تآمري أو عن جهل معرفي. لهذا، نجد الخطاب الإيديولوجي العرقي، في مجمله، يستقي منهجه ومادته المعرفية من المتن التاريخي والسوسيولوجي الكولونيالي، في بعده الفرنسي، باعتباره أول من أسس للتصور العرقي في المغرب قصد توظيفه في تقسيم المغرب، جغرافيا وثقافيا ولغويا، وذلك بهدف تيسير مهمة السيطرة العسكرية المباشرة خلال المرحلة الاستعمارية، وتيسير مهمة الهيمنة الثقافية واللغوية المفضية إلى الاستغلال الاقتصادي والسياسي بعد المرحلة الاستعمارية .
لقد حضر المغرب، في المتن التاريخي والسوسيولوجي الكولونيالي، باعتباره مستوطنة رومانية سابقة، تمكن العرب المسلمون من احتلالها بعد طرد المستوطنين الرومان. لذلك، فإن مهمة الاستعمار الفرنسي هي وصل ما انفصل، واستعادة الارتباط بين المستوطنة الشمال-إفريقية وانتمائها الروماني، ولا يمكن تحقيق هذا المشروع إلا من خلال التوجه مباشرة إلى استئصال كل ما يمت إلى الإسلام والعروبة بصلة:
على مستوى الإسلام، تم الترويج للانتماء الديني المسيحي لشمال إفريقيا، فساكنة هذا الامتداد الجغرافي، حسب التصور الكولونيالي، كانت تدين بدين المسيح الذي فرضته السلطة المركزية في روما باعتباره الدين الرسمي للإمبراطورية ومستوطناتها. ولذلك، فقد حضر الاسلام باعتباره دينا دخيلا وغازيا يجب استئصاله من الجذور.
على مستوى العروبة، تم الاستناد إلى المتن الخلدوني من خلال ترجمة إيديولوجية لمفاهيمه، وذلك بهدف تحقيق الخلط بين مفهومين مختلفين في بعدهما الاصطلاحي وفي مجالهما التداولي. الأول هو ” العروبة” كإحالة على حضارة إنسانية متعددة المشارب الثقافية تتجاوز البعد العرقي إلى البعد الثقافي والديني. والمفهوم الثاني هو ” الأعراب” كإحالة على نمط اجتماعي يقوم على الترحال وهو لا يخص العرب بل يتجاوزهم إلى باقي الشعوب الصحراوية عبر العالم . ومن خلال هذا الخلط بين ” العرب” و” الأعراب” في الترجمة الإيديولوجية للمتن الخلدوني تمكن المتن الكولونالي من ربط العروبة كحضارة، بخصائص اجتماعية وسياسية تقوم على أساس النهب والاستغلال والقتل. ومن خلال ذلك تمكن المتن الإيديولوجي الكولونيالي من رسم صورة استعمارية غازية للعرب الفاتحين المؤسسين، في شراكة مع إخوانهم الأمازيغ، لأول دولة مغربية مستقلة في تاريخ شمال إفريقيا، وذلك في أفق صياغة أسطورة الشعب البربري الأصلي المستعمر.
هكذا، لا يمكننا استيعاب الكثير من الأوهام العرقية إلا من خلال ربطها بالأصل الكولونيالي الذي صنعها في مختبراته ووظفها في حربه العسكرية والثقافية. فالفاعل العرقي لا يضيف جديدا حينما يروج للتنصير في المغرب بادعاء التعددية الدينية وحرية المعتقد الديني، ولا يضيف جديدا كذلك حينما يتحدث عن الاستعمار العربي للمغرب، وذلك لأنه ينهل بشكل أعمى من المتن الإيديولوجي الكولونيالي الذي صنع هذه الأوهام وروجها.
إعادة الإنتاج العرقية للنسق الكولونيالي الخفي
بعد أن عجز الفاعل العرقي في فرض تصوره العرقي للعلمانية، باعتباره تصورا كاريكاتوريا لا يمت إلى التصور الفكري والسياسي الحديث بصلة، نجده يغير الخطة مع المحافظة على نفس البعد الاستراتيجي. تغيير الخطة من الترويج للعلمانوية العرقية إلى الترويج للتنصير العرقي، مع المحافظة على نفس البعد الاستراتيجي المتمثل في استهداف الانتماء الحضاري العربي الإسلامي للمغرب.
ولعل ما يثير الانتباه، بحدة، هو التوجه الجديد للفاعل العرقي أحمد عصيد الذي تحول إلى مبعوث رسمي لدولة الفاتيكان في المغرب. فهو، كعادته، يوظف المرجعية الحقوقية الحديثة من أجل استهداف الأمن الروحي والثقافي للمغاربة، كما وظف من قبل المرجعية الفكرية الحديثة من أجل الدعاية للمشروع الاستعماري في المغرب بدعوى الانفتاح والعلمانية .
هذا التوجه التنصيري الجديد لشيخ الأصولية العرقية في المغرب، ليس صورة متخيلة أو موضوع مزايدات رخيصة، ولكن تكشف عنه عدة مقالات وتصريحات، أعلن من خلالها عصيد عن وجهه التنصيري الواضح:
ومن خلال الاطلاع على ما كتبه عصيد في الموضوع، نجد الإعلان صريحا عن الدخول تحت لواء المشروع التنصيري الذي يستهدف الأمن الروحي للمغاربة, فالأمر هنا لا يتعلق بحرية رأي وتفكير يمارسها فاعل ثقافي موضوعي، ولكنه أكبر من ذلك بكثير، فهو يرتبط بالتحالف بين المشروع التنصيري والإيديولوجية العرقية، وذلك لمواجهة خصم مشترك بينهما هو الإسلام كمشترك ديني وثقافي بين المغاربة .
وهذا التحالف ليس أمرا طارئا على المغرب، بل هو فقط استعادة للمشروع الكولونيالي الفرنسي الذي صنع الإيديولوجية العرقية في مختبراته، ووظفها من أجل استهداف الهوية المغربية في أبعادها الثقافية واللغوية والروحية. وذلك من منطلق أن المغرب جزء لا يتجزأ من شمال إفريقيا كمستوطنة رومانية قديمة ورثتها فرنسا، ولذلك فمن واجب الحملة الاستعمارية أن تعيد الرموز الدينية والثقافية واللغوية إلى المستوطنة الرومانية السابقة. وفي هذا السياق الإيديولوجي الملغوم، فقد تم الترويج للأصل الأوربي للبربر قصد تسهيل المهمة الاستعمارية، فالنظرية القائلة بأن أصل البربر من أوربا –حسب عبد الله العروي- روجها عسكريون وموظفون فرنسيون بإعانة بعض المترسلين. ويعلق العروي: هذه نظرية متفرعة، في الحقيقة، عن سياسة إدماج إفريقيا الشمالية في المجموعة الفرنسية.
عبد الله العروي- مجمل تاريخ المغرب – المركز الثقافي العربي – ط: 5 – 1996 –ص: 47
ويوضح الاستاذ عبد الله العروي، بالاعتماد على الكتابات التاريخية المعاصرة، العلاقة بين السيطرة العسكرية الرومانية على المغرب، وبين دخول الدين المسيحي، حيث يعتبر أن المشروع التنصيري في المغرب بدأ أثناء القرن الثاني داخل جماعات شرقية في المدن الساحلية، ثم نقلها الجنود إلى المدن الداخلية الصغيرة، وقوة الامبراطورية الرومانية في أوجها واستغلال شمال إفريقيا على أشده. لكنه يعقب، موضحا طبيعة التنصير الذي مورس في المغرب: اعتنق المسيحية في شمال إفريقيا الرومان قبل البربر، والأغنياء قبل الفقراء، وسكان المدن قبل سكان الأرياف.
عبد الله العروي- مجمل تاريخ المغرب – ص:66.. 82 .
هكذا يبدو أن المشروع التنصيري، الذي يسعى الفاعل العرقي إلى استعادته في المغرب المعاصر، هو جزء لا يتجزأ من المشروع الكولونيالي الذي كان يهدف بدوره إلى استعادة السياسة الاستيطانية الرومانية. فقد حاولت الأطروحة الاستعمارية تحقيق التماهي بين الاستعمار الروماني القديم للمغرب، وبين الاستعمار الفرنسي الحديث, ولذلك لجأ المؤرخ الاستعماري إلى الترويج لأطروحة النموذج الحضاري الذي أسسه الرومان في المغرب، وذلك من أجل إضفاء الشرعية على حركته الاستعمارية باعتبارها جزءا من النموذج الروماني القديم.
وإذا كان النموذج الاستيطاني الروماني القديم، قد ارتبط ببعد ديني، حيث تم توظيف حركة التنصير من أجل تحقيق تبعية شمال إفريقيا للامتداد الروماني، فإن نفس الأمر تم مع الحركة الاستعمارية الفرنسية الحديثة في المغرب، فقد اتخذت طابعا دينيا، في البداية، من خلال محاربة الدين الإسلامي من جهة، ومن جهة أخرى عبر فسح المجال أمام الكنيسة المسيحية لقيادة مشروعها التنصيري. ورغم المجهودات الجبارة المبذولة، منذ الاستيطان الروماني، ومرورا بالاستعمار الفرنسي، فإن المغرب ظل عصيا على الاندماج ضمن المشروع الاستعماري الغربي. ويوضح الأستاذ العروي ذلك، باعتبار أن الكشوف الاثرية الأخيرة جعلت من السهل الدفاع عن شرقية أصل الحضارة المغربية القديمة .
عبد الله العروي – مجمل تاريخ المغرب – ص: 92
ولعل هذا هو ما يفسر نجاح الشراكة العربية-الأمازيغية التي أثمرت دولة مغربية مركزية مستقلة عن السلف الاستيطاني الروماني القديم، ويفسر في نفس الآن فشل الحركة الاستعمارية الغربية الحديثة في إلحاق المغرب بالمتربول الاستعماري. وهذا مؤشر مهم للمستقبل يوحي بأن المغاربة اكتسبوا، عبر التاريخ، قدرة خارقة على الممانعة في مواجهة المشروع الاستعماري الغربي، سواء اتخذ طابعا عسكريا، أو دينيا، أو ثقافيا.
فليطمئن شيوخ السلفية العرقية في المغرب ! الإسلام شَكَّل الانتماء الروحي والثقافي للمغاربة، على امتداد قرون، ودروس التاريخ تؤكد لهم ولغيرهم أن المغرب حصن إسلامي حصين صعب الاختراق. وما يجري من محاولات تنصيرية لا يمكن تفسيره إلا في سياق استغلال البؤس الاجتماعي والتردي الاقتصادي لبعض الفئات الاجتماعية. وهذا ما أكده الدكتور محمد السروتي الخبير في قضايا التنصير، فقد اعتبر أن التنصير في المغرب يجري في القرى النائية، وفي المناطق التي تعرف أعلى مستويات الهشاشة، ويستهدف بشكل خاص الأطفال والأيتام، والشباب الواقعين تحت طائلة الفقر والحرمان، ويتخذ من الإغراء والتغرير أداته الفعالة لتوسيع نفوذه.
وهذا ما ذهب إليه الأستاذ عبد الله العروي، في حديثه عن التنصير الذي مورس في المغرب خلال العصور القديمة، حيث يؤكد على أن التنصير كان يستهدف الجماهير المحرومة التي كانت تبحث على مبرر لما ينوبها من بؤس وحرمان.
عبد الله العروي- مجمل تاريخ المغرب – ص: 82
عود على بدء
هذا التحليل يفسر، أخيرا، المؤامرة الكبرى التي يقودها التحالف العرق-فرنكفوني في المغرب، فهو يقود مشروعا خطيرا يستهدف زعزعة مقومات الهوية المغربية. وضمن هذا السياق التآمري لا يمكن الفصل بين استهداف اللغة العربية ذات المكانة الرسمية دستوريا، وبين استهداف الانتماء الإسلامي للمغرب الذي ينص عليه نص الدستور. ولعل ما يثير في هذ المؤامرة العرق-فرنكفونية هو أنها تستهدف، في وقت واحد، الأمن الثقافي واللغوي والروحي للمغاربة، وفي نفس الآن فهي تتحدى الإرادة الشعبية التي يمثلها دستور المملكة المغربية.
وسواء تعلق الأمر بالجناح العرقي، أو بالجناح الفرنكفوني، فالأمر يتعلق بكائنات هلامية تستمد قوتها ليس من خصائصها الذاتية، ولكن من الدعم النيو-كولونيالي الخارجي الذي يستهدف الاستقرار السياسي والاجتماعي للمغرب، من خلال توظيف قضايا العرق والهوية. وضمن هذا السياق فإن التحالف العرق-فرنكفوني مستعد لخدمة كل الأجندة الخارجية المعادية لاستقرار المغرب، وذلك لأنه يعي تمام الوعي أنه كائن هلامي لا وجود مادي له على أرض الواقع، ولو تم الاستناد إلى المنهجية الديمقراطية في مقاربة قضايا الهوية الوطنية لوجد نفسه على الهامش. لذلك، نعتقد أن مواجهة الأجندة العرق-فرنكفونية، تدخل ضمن برنامج بعيد المدى للنضال من أجل ترسيخ المنهجية الديمقراطية، باعتبارها تجسيدا للإرادة الشعبية. وهذا هو المدخل الرئيسي الذي يمكنه أن يضع كل مشروع سياسي أو ثقافي في حجمه الحقيقي، بعيدا عن المنشطات التي تعدم مبدأ تكافؤ الفرص بين القوى السياسية والثقافية. هذا، طبعا، إذا كان ممكنا الحديث عن احتمالية ممارسة ديمقراطية نزيهة في المغرب.