الروايات القصصية وأثرها في التنشئة الاجتماعية

الروايات القصصية وأثرها في التنشئة الاجتماعية
هوية بريس – د. أيمن المزكلدي الشرعي
سبق وأن وقفنا -في مقال سابق، بطريق غير مباشر- على مزايا الاعتماد على الكتب الأصول والقراءة في المطولات؛ تنمية للمعارف، واكتسابا للخبرات، وصقلا للملكات ..
وإن مما كثر تداوله اليوم، بحيث غزا حقولا معرفية كثيرة، سواء التعليمية منها أو التربوية أو الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية- ما يعرف بالروايات الأدبية أو القَصص الروائي، التي لم تعد حِكرا على الأدب نفسه.
والرواية جنس أدبي يأخذ بيد القارئ النهِم إلى عوالم تندمج فيها الحقيقة بالمجاز، ويسرح فيها الخيال آخذا بتلابيب الروح؛ فلا تزال النفس منهمكة في القراءة حتى تقضي وَكْدها وأَرَبها؛ أو تفضي إلى آخر فقرة من المكتوب دون أن تشعر بمضي الوقت وتعاقب الملَوان.
لذا؛ فلا غرو أن نلاحظ إقبال طلبة الجامعات على هذا النوع من التأليف وولعهم به، خصوصا في ريعان الشباب وعنفوانه..
ومع هذا كله، فإن حسن اختيار الكتاب يبقى عاملا حاسما في نجاح فعل القراءة؛ لأن سوء الانتقاء سينعكس سلبا على وجدان القارئ المبتدئ، واعتقاداته وتصوراته، ومن ثم على سلوكاته وتصرفاته وردود أفعاله تجاه محيطه ومجتمعه.
وهذا ما دعاني في هذه المعاقد المترادفة أن أقارب مثالب هذا النوع من التأليف ومناقبه؛ ليكون الطلاب والموجهون التربويون على دراية مسبقة بخطورة هذا النوع من المقروءات؛ إذ الكتاب لابد أن يترك في أذهان القراء حُفرا وأخاديد؛ كما قال بعض الحكماء[1].
هذا، ويمكن معالجة هذا الموضوع ومقاربته في ثلاثة مباحث أو رسوم؛ كما يلي:
أولا: مناقب الكتابات الروائية
1-صنع القدوات: تمتلك الرواية بنفَسها الأدبي قدرة هائلة على استمالة القارئ، وتحبيب القدوات إليه، وتقريب أفكارهم، مهما كان مستواه الذهني متواضعا، وهذا يعود بالنفع العظيم على القارئ ونفسيته، خصوصا إذا كانت الرواية تستوحي أبطالها من واقع التاريخ الإسلامي، وتمتح أفكارها من نبع الشريعة الغراء.
2-تنمية الرصيد اللغوي والثقافي: تعمل الرواية الأدبية على صقل ملكة اللغة، ومد القارئ بمعجم لغوي وثقافي مهمين؛ لأن الكاتب المتمكن من ناصية اللغة، والمقتدر على الكتابة والإنشاء، والماتح من الثقافة الإسلامية العالية؛ ينفذ برِسل إلى سويداء القلب؛ فينفث في وعي القراء وأقلامهم سحر البيان، ويترك في نفوسهم بصمات ثقافية لا تنمحي.
3-الوقوف على حقائق التاريخ بلغة مشوقة: من أعظم الأبواب إيلاجا إلى عالم التاريخ، وأكثرها رسوخا في نفس القارئ هو القصص الروائي؛ لأن الكاتب يستجمع قواه في معالجة أحداث التاريخ في نسق موحد مترابط ومتسلسل، يفضي بك أولُه إلى آخره، ولا ينسيك آخرُه أولَه، مع لغة مشوقة، وأساليب رشيقة، وأحداث متسقة.
4-الإمتاع والمؤانسة: تتميز الروايات الأدبية بترابط الأحداث، واتساق الوقائع، وشد الانتباه، ومؤانسة الفؤاد، وتشنيف الأسماع، وتحريك العواطف، والإمتاع المرهَف، وإجمام العقل، وتفريج الهموم، وانبعاث السعادة، وترويح النفس، وهذه أمور تبعث القراء على الإقبال على هذا النوع من التآليف ومتابعتها.
5-أخذ الدروس والعبر: وهذا –لعمري- من أهم مقاصد القصص والروايات، إذ الكاتب الإسلامي موجه تربوي، يروم زرع القيم الإسلامية النبيلة، والأخلاق النبوية الرفيعة، وجني الدروس والعبر من أحداث التاريخ الصادقة، أو القصص المستوحى من الواقع المعيش؛ وقد جاء في الأثر: “السعيد من وعظ بغيره“[2].
ثانيا: مثالب الكتابات الروائية
1-سيف ذو حدين: رغم المحاسن التي رسمناها في المحور السابق، تبقى الروايات الأدبية مطية لكتاب آخرين أو قُل: مرتزقة الكتابة Un plumitif –على حد تعبير بعض الكتاب[3]-، ممن رهنوا أنفسهم لخدمة أجندات مُقرِفة، هدفها تزييف الحقائق، والإسفاف بلغة القرآن، ومحاربة الفضيلة، وإذكاء نار الرذيلة، والإغراق في الحزن والكآبة، ونثر الإيحاءات الجنسية[4]، والطعن في خاصرة الإسلام، وإثارة الفتن؛ بألوان من الخطاب المبهرج، والزندقة المكشوفة.
2-تزييف حقائق التاريخ: فتجد عددا من الكُتّاب المزيفين، يسكبون أوهامهم المتراكبة، وقراءتهم السياسية المعوجة للتاريخ الإسلامي، في قوالب لغوية ماكرة، وأساليب تعبيرية ساخرة، مستغفلين جمهور قرائهم، مستغلين جهل الناس بالتاريخ وصدوفهم عن القراءة، متناسين أنهم بهذا يكشفون عن سوءاتهم ودناءتهم، ويزجون بأنفسهم في أتون النقد والتقريع، وقد قال صاعد البغدادي[5] -قديما-: تصنيف المرء مِجلاة عقله!
3-الأدلجة والديماغوجية: يستغل بعض المأجورين من الأدباء -والأدب منهم براء!- متعة القراءة الروائية للعب بأفكار القراء، واستدرار عواطف الجمهور لتقبل الهجين من الرؤى، واستمالة النفس للإيقاع بها في أوحال الاستغراب، والعمل الحثيث على غسل الأدمغة وقلب الحقائق.. ومن ذلك ترويجهم للإلحاد بألوانه وأنواعه[6]، إذ البلاء بهذا الأمر قد استشرى ضرره على الشباب والمثقفين، للجهل المقيت بأبجديات العقائد الصحيحة وأمور الإيمان الصادقة، خصوصا بعد أن طرق الإلحاد أبوابا أخرى من التحريف باسم الإسلام ومناصرة المسلمين، وهذا من المثالب العظيمة للرواية الأدبية إذا لم تستقر بأيد أمينة، وقلوب صادقة، ونفوس غيورة على عقائد الناس وأديانهم.
4-تقبيح الحسن، وتحسين القبيح: قل من الناس من يحاورك بعقله أو يتقبل حوارا منطقيا بالمعنى العلمي للكلمة، إنما السواد الأعظم على تقديم الخطابات العاطفية على الحجج العقلية، وهذا ما يسمح لبعض المتسللين من مرتزقة الكتابة من النفوذ إلى مراكز التفكير لديهم، فيحسنون لهم القبيح، ويقبحون لهم الحسن، أسوة بشيطانهم الأكبر حين أخرج آدم -عليه السلام- من جنة الخلد بزخرف من القول، ووسوسة في صورة نصح.
5-تمييع اللغة الفصحى: يَعمل بعض الروائيين على تهجين اللغة وثقافتها العربية الإسلامية حال الكتابة والتأليف، أو يُعمل قلمه الفصيح في ذم اللغة بما أوتي من سحر بيانها، أو الإسفاف بها وتحقير قدرها وبيان عدم الحاجة إليها، متغافلين عن كونها وعاء القرآن ولغة الوحي الخالد، وهذا الأمر إن لم يواجه بطرق صارمة قد يُحدث في خَلَد الناشئة هزات ارتدادية قد لا تبرء جراحها إلا بعد لَأْيٍ وتعب وكبير معالجة؛ فوجب الحذر والتوقي، وإلى الله المشتكى وهو المستعان.
أخيرا: الحلول والمقترحات
وإذا كان الأمر بهذه الخطورة والأهمية؛ فلابد من التنبيه على أمور قد تحد من تلك الآفات، وتسهم في نجاح فعل القراءة:
أولا: التوجيه المبكر: لا ينكر عاقل ما للنصح والتوجيه المبكر من أثر عظيم في تنبيه الناشئة وانتشالهم من الوقوع في مثالب الرواية، ومكائد المرتزقة من الكَتبة، والوقوف صدا منيعا في وجه مخططاتهم ومشروعاتهم الهدامة، ولذلك يتوجب على الجميع القيام بالحِسبة الشرعية؛ لكشف عوار هؤلاء؛ نصحا للأمة وحفظا لأمنها وعقائدها وتصوراتها من الانحراف والانجرار، وإلا فسيقع ما لا يحمد عقباه -لا قدر الله-.
ثانيا: حسن اختيار الكتب: وهذا أمر يقع على عاتق الآباء والموجهين والمعلمين على السواء، فعلى الآباء مراقبة مقروءات أبنائهم ومشورة المختصين في هذا المجال، وعلى الموجهين أن لا يألوا جهدا في تتبع معروضات السوق وبذل النصح في حسن اختيار الكتاب بما يتوافق وإدراكات المتعلمين وعقائدهم.
ثالثا: التحصين العقدي للناشئة: وهذا أمر ضروري لحسم مادة الفساد في الروايات الأدبية، فكلما كان الشاب محصنا في عقيدته مطمئنا لصفائها، ازدادت نسبة التعافي وانحسر الخطر، إذ صاحب العقيدة لا يهزم، ويشق على مرتزقة الكتابة اختراقه.
رابعا: مشاورة المختصين والأمناء: قد قيل قديما: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، فلا تبخل على نفسك أيها القارئ الكريم من الاستشارة قبل اقتناء الكتاب وتمنيه؛ لتكون على بينة من أمرك وأنت تجوب عوالمه، وتمخر عُبابه، وتقف على ضفاف أنهاره، وإلا كانت مغامرة منك قد لا تسلم عواقبها في أنف الأوان ومستقبل الأيام.
خامسا: تملك الناشئة للضروري من علوم الآلة: وأخص بالذكر هنا قواعد الإثبات للأخبار، وقواعد الاستنباط وضوابط الفهم؛ لأن القارئ يؤتى من جهتين: من جهة الفهم والتصور، وجهة الحكم والتصديق، مع عدم إغفال أهمية المطالعة والسؤال في انقشاع سحب الجهل وتبدبد ظلمات الغواية.
وبعد، فهذه أخماس مثلثة اقتضاها المقام وواقع الحال، والأمل معقود على التربويين والعقلاء في ترسم المقترحات وإبداع الحلول، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – هو مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله-، وليس المصدر بين يدي الآن.
[2] – أخرجه مسلم في صحيحه (2645) موقوفا على ابن مسعود -رضي الله عنه-.
[3] – هو مصطلح ورد على لسان الأستاذ محمد شفيق الأمازيغي؛ كما في “رَواء مكة” (ص:41) للمفكر حسن أوريد، وإن كان ثناء الأستاذ المقرئ على الكتاب ومؤلفه اندفاعا غير محمود، ومجازفة كبيرة.
[4] – ذكر لي الأستاذ الباحث سفيان الحمري بحكم تجربته في الشعب الأدبية في المراحل الثانوية التأهيلية، أن الكتاب غالبا ما يركزون على الأمور الوجدانية التي يبحث عنها المراهق خصوصا الأنثى. قلت: وهذا -لعمري- إشارة مهمة تستكنه مكامن النفوس في مثل هذه المراحل العمرية، فالمراهق يبحث عما يثير ولا شك، فهو صاحب غريزة متدفقة، لكنها تحتاج لمن يهذبها ويحسن تصريفها، لا من ييرها ويعبث بها؛ كما هو حال الروايات المقررة في المراحل الثانوية ببلادنا.
[5] – “كتاب الفصوص” (1/ 43) لأبي العلاء صاعد الربعي البغدادي (ت417هـ)، تحقيق: د. عبد الوهاب التازي سعود، ط. سنة 1414هـ/1994م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية.
[6] – ومن ذلك ما أخبرني به بعض الثقات أن أخاه قرأ رواية ذكر فيها الكاتب أنها مستوحاة من الكتاب والسنة، فإذا بها تحتوي على بعض أساطير الإغريق وخرافات الصين ..!!



