الروح العالمة بين أفلاطون وطه عبد الرحمن
هوية بريس – ذ. طارق الحمودي
من الأساسات التي يقوم عليه فكر الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن -وفقه الله- أن الطريق إلى المعرفة بالله تعالى هو ممارسة لعملية استرجاع للمعرفة السابقة عن طريقة التذكر بتحفيز “الذاكرة” الفطرية عن طريق الدخول في المجاهدة الصوفية والاتصاف بصفات الله تعالى لأن الأرواح سابقة الوجود على البدن بمراحل زمنية مهمة، وأنها تنتمي إلى عالم سماه عالم الأمر يخالف عالم الخلق، أو قل عالم الملكوت لا الملك!
يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن حفظه الله: ‹‹العالم الغيبي هو محل الأمر الإلهي، وهذا الأمر قد يكون واحدا من الأوامر كما في صيغة “كن فيكون” أو يكون واحدا من الأمور، أي عبارة عن كائن لطيف غير كثيف، وفي كلتا الحالتين يكون الأمر سابقا على الخلق،علما بأن الخلق محله العالم المرئي، وهو عالم الأجسام الكثيفة،والروح التي هي منشأ العروج الإدراكي عبارة عن أمر إلهي تواجد بالعالم الغيبي قبل النفخ في الجسم الإنساني››.س
فعالم الأمر الإلهي عند الفيلسوف طه إذن هو العالم الغيبي لا المرئي الجسمي، والروح في هذا العالم إما من الأوامر فتكون قديمة عند من يقول بقدم أمر الله، أو من الأمور أي كائن لطيف وليست من الخلق لأن الخلق عنده متعلق بالمرئيات!!! وهو موافق في أصل هذا لما كان عليه الفلاسفة الأوائل من أفلاطون وبعده أفلوطين في “التاسوعات” والذي تابعهم عليه كبار المتصوفة، ومنهم أبو حامد الغزالي في “الإحياء” و”النفخ والتسوية” و”الروضة” وابن عربي الحاتمي في “الفتوحات“، وقد احتجوا بقوله تعالى ‹‹وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي››، والشاهد عندهم أن الله تعالى جعل الروح من أمره، على اعتبار أن المقصود بالأمر عندهم هنا “خطاب الإيجاد والتكوين“، فيفرقون بين ما أوجده الله بقوله “كن” وبين ما خلقه!!!
وهو أمر خالفوا فيه فقهاء المسلمين وعلماءهم، فإن كل ما سوى الله يدخل تحت مسمى الخلق -عند المسلمين- بالأمر الكوني المتصل بالإرادة الكونية “كن“، لقوله تعالى: )إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(، وقال تعالى )خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ( والروح شيء بلا خلاف، وليس معنى الأمر عند علماء المسلمين وفقهائهم في الآية “خطاب الإيجاد” بل “الشأن” الذي يخص الله تعالى.
وليس يخفى أن فقهاء المسلمين تحرجوا غاية الحرج من الخوض في حقيقة الروح ابتداء، وأن يكون ذلك بمثل هذه الطريقة خاصة، ومنهم العلامة والفقيه أحمد زروق المالكي محتسب الصوفية رحمه الله في “عدة المريد الصادق” الذي استعظم الخوض فيها بمثل هذه الطريقة، واستنكر عدها من عالم الأمر وراء عالم الخلق على ما يقوله الفلاسفة والمتصوفة فقال: ‹‹وقوله: )مِنْ أَمْرِ رَبِّي(، أي: ليس للقياس ولا للنظر فيها محل، بل هي من شأن الربوبية، لا ما يقوله بعض الناس، وأن عالم الأمر وراء العوالم››، وقصده بالربوبية الخلق والملك والتدبير.
بل وصل الأمر بالفقيه الكبير أبي بكر ابن العربي المعافري المالكي إلى الإنكار على شيخه الغزالي في ذلك وعدِّ مقالته في ذلك تحليقا حول القول بالحلول ووحدة الوجود فقال في “القانون“: ‹‹وتابعت الصوفية الفلاسفة في شيء من أغراضها فيها، فقالوا: العالم عالمان، عالم الخلق وعالم الأمر، والروح من عالم الأمر، وأشاروا إلى أن الخلق من العالم ما كان كميا مقدرا… ويكاد يكون هذا القول تحليقا على مذاهب الحلولية… ولقد عجبت من مذهب الطوسي له››، ويقصد بالطوسي أبا حامد الغزالي، فقد قال منكرا عليه في “المسالك“: ‹‹وأما الذي ذهب إليه الطوسي أبو حامد، فهي عبارة فلسفية، وهي عن سبيل الشرع قصية، وقد حام على الكلام عليها في أكثر كتبه فقال: إنه من عالم الأمر، ولله عالمان: عالم الخلق وعالم الأمر››.
هذا ما يخص نظرية “العالمين” عند الفلاسفة والمتصوفة وموقف الفقهاء والعلماء المسلمين منها، فما الذي يقصده الفيلسوف طه عبد الرحمن وفقه الله بالذاكرة الأصلية الفطرية؟ وما هي المعرفة التي يمارس لها “المتصوف” أو “طالب التخلق” المجاهدة والتزكية ليستخرجها ويتذكرها دون الحاجة إلى تعلمها بالمطالعة والنظر العقلي والتلقي؟
تنبني نظرية “الذاكرة الأصلية” عند الأستاذ طه عبد الرحمن على فهم خاص لقوله تعالى: )وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(، فإنه يرى أن الآية تدل على أن الله خلق الأرواح قديما، ثم تعرفت هذه الروح على ألوهية الله وربوبيته وصفاته عن معاينة وقرب ومصاحبة ومشاهدة، وكل هذا دعوى ليس عليها دليل، فوفق نظرية الأستاذ طه فإن ‹‹الأرواح كانت بجوار ربها تعاينه، ولم يكن إشهادها إشهاد إقرار فقط بل ومعه المشاهدة››، وأنها تلقت المعارف الدينية أو قل معاني الدين التي ‹‹لا تعدو كونها الحقائق الروحية التي تحفظها الذاكرة الأصلية››، لكن هذه الروح حينما نفخت في البدن نسيت، وحجبت بكثافة البدن عن تلك المعارف والمعاني، وهي تستطيع الآن بالدخول في العمل الصوفي أو ما يسميه الأستاذ طه ‹العمل المؤيد›› استرجاعها من جديد دون الحاجة إلى تلقيها من الخارج عن طريق التعلم المعروف عند علماء المسلمين، وهو ما يسميه “الشرع الداخل“.
وليست هذه النظرية جديدة، بل هي عينها النظرية الفلسفية الباطنية عند المتصوفة اليونانيين مثل إمباذوقليس وفيثاغورس وأفلاطون، والتي استمر وجودها عند الفلاسفة بعدهم مرورا بأفلوطين في “التاسوعات” وغيره، وهي أن الروح سابقة الوجود على البدن، وأنها كانت عارفة عالمة حتى اتصلت بالجسم، ولا يمكنها تذكرها إلا بالانفصال عن كثافة البدن وحجابه بالممارسة الغنوصية والمجاهدات الثيوصوفية كما تجده مبينا عند “Etienne Couvert” في ” la Gnos Contre la foi ” وعبد الرحمن بدوي في “أفلوطين عند العرب” وغيرهما.
لست معنيا هنا ببيان وجه التشابه أو التأثر والتأثير، فإن لذلك موضعا آخر، لكنني ملزم ببيان أوجه الانتقاد العلمي لنظرية الأستاذ طه حفظه الله، والوجه الأول أنه ليس في الآية إلا الإقرار بالربوبية المقتضية للألوهية بقولهم: ‹‹بلى›› فقط، والثاني أن الأستاذ طه فوت على نفسه فرصة ثمينة لتبين حقيقة العهد الذي أخذه الله على بني آدم، وأن ذلك لم يكن على الروح وحدها، والفرصة المفوتة لم تكن سوى مراعاة السياق العام القرآني والنبوي!
روى الترمذي وأبو يعلى في المسند والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ‹‹لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم…››، فواضح أن الله أخذ العهد على أرواح في أجسام لها عيون وجباه خلقها خلقا خاصا، ولذلك قال ابن العربي في “عارضة الأحوذي”: ‹‹في بعض الحديث “كهيئة الذر” إخبار عن صغر أجسامهم، لكن أحياهم وجعل فيهم العقول، وألهمهم إلى ذلك وأنطقهم به››، ففي الحديث ‹‹إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر›› كما يقول صاحب “مرقاة المصابيح”، وأن الاستنطاق كان للأجسام والأرواح معا كما يقول ابن منده في “الرد على الجهمية“، أي أن أخذ العهد كان في عالم الأجسام المرئي لا الغيبي كما قال الأستاذ طه حفظه الله.
والثالث أن الأرواح ليست متقدمة الخلق على الأبدان، وأنها تخلق في أجسامها جاهلة مؤهلة لاكتساب المعرفة، فتتعلم عن طريق الحواس والنظر لقوله تعالى: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون(، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ‹‹إنما العلم بالتعلم››، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا الأنبياء.
الله هو الاول و الاخر وهو الخالق لكل شيء روحا و بدنا بعيدا عن سفسطات و هرطقات الصوفية و الفلاسفة