الروض المعطار في تربية وتهذيب الأبناء والبنات
هوية بريس – دة. صفية الودغيري
علينا أن نتحمل أبناءنا وبناتنا في هذا الزمن الصعب، زمن ضعف القوى وخَورِها، وامتداد فصول الفترات، وسكون الحواس، وتلاشي الأفكار، وخفوت أنوار البصائر، وغروب مشارقها، وقصور الآباء والأمهات عن أداء واجبهم المنوط بهم، وتبليغ رسالتهم التربوية والتعليمية على أكمل الوجوه وتمامها..
فحين تضيع الفضائل والقيم في مزابل المدنية الزائفة، تجتث جذور مكارم الأخلاق من منابتها، وحين لا يُفْرش مهاد الأمن والأمان في قلوب البراعم الصِّغار، ولا يُنْشر شعاع اليمن والبركات على جيل يتمثَّل الإيمان في الأقوال والأفعال، ولا تُقام قناة الدين، ولا يُمَد رواق حُكم الشريعة الأمين في الآفاق، ولا يُذاع في النفوس الصغيرة، فإنها لا تشِبّ على صفات الكبار العظماء في المجاهدة والاصطبار، وتألف نيل المطالب بالتمني والرَّجاء، وبذل الأنفاس العليلة في طريق قصير الذهاب والإياب، وإدراك الغايات في زمن الراحة والسَّعَة واليَسار، ولكن شتان بين الغايات الساقطة والغايات العظيمة، التي تأبى أن تمد إليهم ذراعيها بالأحضان، أو تبسط إليهم أكف العطايا بالنَّوال والسَّخاء، لتقول لهم هيت لكم، وعبُّوا من كؤوسها ما شئتم بلا تعب ولا مشقة ولا عناء..
بل لا بدَّ للآباء والأمهات من تجديد عهد الوفاء بأبنائهم وبناتهم، وتجديد رسوم العلم في ذاكرة الأجيال، فقد نسج عنكبوت الجهل شباكه على عقولهم، وترك أذهانهم خالية من الاشتغال بجلائل الأعمال والمهام، والإنجاز المتواصل الطَّامِح لبلوغ أسنى المراتب والمقاصد..
كما يجب عليهم أن يحيوا في قلوبهم الإقبال على أنواع العلوم والفنون والآداب، فقد كادت أن تموت من فرط إقبالهم على الأجهزة والآلات بجهل وسوء تدبير وغباء، فأفسدت فطرتهم وطبيعتهم، وأضعفت قريحتهم وهمتهم، وانحرفت بسلوكهم ومنهجهم عن سلوك طريق العلم الصحيح..
كما يجب على الآباء والأمهات أن يزرعوا في نفوس أبنائهم وبناتهم حبَّ استجلاب المنافع ودفع المضار عنهم، واصطياد الدُّرَر من العلوم والأخبار، وتتبُّع الآثار في الماضي والحاضر، واستثارة ما استتر في بطون الكتب والمصادر الأمهات، ولزوم مجالس وحياض الشيوخ والعلماء الأخيار، وأهل الثقة والعدالة والائتمان، واغتنام غرر علمهم وفرائد ما اصطفاهم به الله، ورفع به مقدارهم، وما آثرهم به من فوائد وخيرات، مع غَضِّ الطَّرف عن تتبُّع عوراتهم وعيوبهم، فإنه يندُر أن يجتمع تمام العلم مع تمام السريرة في شخص واحد، في سائر أحواله وحالاته، كما يندر اجتماع الحسن في شخص واحد من كل الجوانب والمدركات..
ولذلك حمدت العرب أراء الشيوخ حتى قال بعضهم: “المشايخ أشجار الوقار، ومنابع الأخبار لا يطيش، لهم سهم ولا يسقط لهم وهم، وإن رأوك في قبيح صدُّوك، وإن أبْصَروك على جميل أمَدُّوك”.
كما يجب عليهم أن يحرصوا الحرص الشديد على عدم تبذير أوقاتهم فيما لا يفيدهم ولا ينفعهم، وتطهير مجالسهم ومواطن استقبالهم ومواضع تعلمهم وتأديبهم وتهذيبهم، ومنابع تحصيلهم للعلم، ليتنفسوا هواء العلم النقي من الأنجاس، وتحصيله من طرقه ومنافذه الصحيحة، واتخاذ أسبابه، واعتماد شروطه ووسائله، فيطلبونه طلب طير الماء للماء ..
وقد قال خالد بن حميد: سمعت مالكا يقول: “عليك بمجالسة من يزيد في علمك قوله، ويدعوك لحال الآخرة فعله، وإياك ومجالسة من يعللك قوله ويعيبك دينه ويدعوك إلى الدنيا فعله”.
فذاك هو المقصد الأحمد، والمرتجى من تهذيبهم وتربيتهم، ليمتزج الدين بالأخلاق والعلم، امتزاج الدم في عروقهم، والأدب بطبعهم، وامتزاج الشرف والحياء والحلم، والهيبة والوقار بنبعهم، والتحام فضل الدين والعلم بخصالهم، والكرم والسخاء بعطائهم وإحسانهم ..
وقد قال الفروي: سمعت مالكا يقول: “لا خير في شيء من الدنيا وإن كثُر بفساد دين الرجل أو مروءته>> وقال: << تعلموا الحلم قبل العلم”.
وقال مالك لبعض بني أخيه: “إذا تعلمتم علماً من طاعة الله فلْيُرَ عليك أثره، ولْيُرَ فيك سمته، وتعلم لذلك العلم الذي علمته السَّكينة والحلم والوقار، وقال: حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من مضى، وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح وبخاصة إذا ذكروا الله”.
قال ابن وهب وسمعته -يقصد مالكا- يقول : “حقاً على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لآثار من قبله”.
فذاك هو السؤدد في سواد عينهم، وسويداء قلبهم، ليحرسهم الله بعينه التي لا تغفل ولا تنام، ويحفظهم من كل طرف عائن يريد بهم شرا، وقلب كل خائن يبتغي لأبناء وبنات هذه الأمة أن تكسر شوكتهم، وتنتهك أعراضهم وأعرافهم وتقاليدهم، وتمسخ لغتهم وهويتهم، وتضيع أصالتهم وحضارتهم، ويُباد تراثهم وما يمتُّ إليهم بصلة أو نسب تشريف وتقدير ومجد، ولا يرفع لهم شأن ولا علم، ولا تعلو رايتهم، ولا يطول عمر إنجازاتهم، ولا يتحقق لهم النجاح والريادة في ميادين البحث والاكتشاف والابتكار، ولا في مجالات الدراسة والتحقيق والتوثيق، ولا يُمكَّن لهم أسباب تخريج العلوم وإحياء فنونها، ولا يُكْتب لهم الثبَّات على الصواب والحق، ولا نفاذ أمر العدل في سائر شؤونهم وأحوالهم، ولا انتظامهم سلكهم ومسلكهم في سلك الإتباع والاقتداء، ولا إدراك الغايات الحميدة، وإعزاز من يحِقُّ لهم التَّشريف، وإنزالهم منازل الرِّفعة والاقتدار، ولا أن يكون لهم مكانة بين مطارح أهل الحذق ورجاحة العقل والعلماء والحكماء، واتِّزان آرائهم واكتمال الأفكار، ورفع الأقلام النَّوابغ، وأهل المناقب الأعلام..
ومن لطيف طرق التهذيب والتأديب ما قاله سحنون: “ما غبنت في ابني محمد، إلا أني أخاف أن يكون عمره قصيراً. وكان يقول لمؤدبه: لا تؤدبه إلا بالكلام الطيب، والمدح. فليس هو ممن يؤدب بالتعنيف والضرب، واتركه على بختي، فإني أرجو أن يكون إمام وقته، وفريد أهل زمانه”.
وكان مالك إذا ودعه أحد من طلبة العلم عنده، يقول لهم: “اتقوا الله في هذا العلم ولا تنزلوا به دار مضيعة، وبثوه ولا تكتموه”.
