الريسوني يكتب: حروب الاتهامات والتشكيكات والمنهج الشرعي المهدور
هوية بريس- أحمد الريسوني
لا أعلم سلاحا هو أشدُّ فتكا بالمسلمين وأخوتهم ووحدتهم وقوتهم، من سلاح التشكيك الجماعي والطعن الجزافي، في البواطن والسرائر والنيات، واتهامِ الخصوم وأهل الطوائف والمذاهب والمنظمات المخالفة والمنافسة، ورميهم بالنفاق والضلال، والخيانة والعمالة، وبفساد العقد وسوء القصد، مع ترويجِ كل ما يسيئ إليهم ويبغِّضهم ويُنَفِّر منهم، سواء كان أو لم يكن، ثبت أو لم يثبت.. فالمخالف يصبح مستباحا؛ ليس له حق ولا حرمة، ولا عِرض ولا ذمة!
ورغم أن هذا السلوك، وهذا المسلك، معدود في الشرع من الكبائر والموبقات، حتى فيما بين الأفراد من عامة الناس، كما هو صريح في النصوص الشرعية الآتي ذكرها بعد قليل.. فإني لا أعلم شيئا في الشريعة يتعرض للخرق والهدر، والتعطيل والإهمال، مثل الأوامر والنواهي، والتشديدات والتحذيرات، الواردة في هذا الباب، حتى لكأنها غير موجودة، أو غير ذات معنى!
فعامة المسلمين وخاصتهم، وعلماؤهم وزعماؤهم، ودعاتهم ووعاظهم، وصلحاؤهم ومصلحوهم.. كلهم تقريبا، متواطئون على هذا الخرق والهدر: إما بأقوالهم، وإما بأفعالهم، وإما بسكوتهم..
قصتي مع سياسة التشكيك والاتهام..
انخرطت في مسار العمل الإسلامي منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين المنصرم.. وكان ذلك على سكَّتين: سكة القراءة لرموز الحركة الإسلامية المعاصرة [حسن البنا، ومحمد الغزالي، وسيد قطب، ومحمد قطب..]، وسكة العمل في صفوف جماعة التبليغ والدعوة..
وفي مطلع السبعينيات التحقت بالجامعة بالرباط.. وعندها التقيت – أنا ومجموعة من الأصدقاء – بزعيم إسلامي كبير وشهير.. وقد أعجبتُ أيما إعجاب بزعامته وقوة شخصيته وواسع خبرته..
ولكن الرجل ما إن عرف ميولنا وعلاقتنا بجماعة التبليغ من جهة، وبفكر الإخوان المسلمين من جهة أخرى، حتى بدأ يعرب لنا – تدريجيا – عن مطاعنه وتشكيكاته المسمومة في الجماعتين. وبلغ به الأمر إلى حد اعتباره أن جماعة التبليغ إنما أنشأها الإنجليز واستعملوها لمحاربة جماعة المودودي.. ثم بدأ يحكي لنا أشياء سيئة عن التبليغيين بمدينة الدار البيضاء، التي هو منها. وكنت شخصيا أواجهه بالاستغراب والاستنكار، وأطالبه بالدليل على ما يقول، فلا يأتي بشيء.
ولما لاحظ امتعاضنا واستياءنا من هذه الحملة على الجماعتين، وخاصة على جماعة التبليغ، بدأ يحاول تخفيف مطاعنه واتهاماته..
وحينما اختلف معه واعترض عليه بعض أتباعه ومساعديه، بادر فورا إلى إصدار منشورات يتهمهم فيها بالعمالة للبوليس المغربي، وأنه هو الذي دسهم عليه، وهو الذي يحركهم ويأكل الثوم بأفواههم..
ثم امتدت سياسته هذه، فأصابت بعضا من خيرة العلماء والدعاة من غير حركته، ربما كان يعتبرهم منافسين ومزاحمين لحركته وأفكاره..
فمنذ ذلك الوقت:
1-قررت التباعد عن هذا الزعيم وجماعته ونهجه، والعدول عن فكرة الانضمام إليه والسير معه، أدركت خطورة هذا النهج المدمر، لكونه سهل الابتكار، سريع الانتشار، يستطيعه كل خبيث ولئيم، وينتشر انتشار النار في الهشيم. وكثير من الناس يستهويهم تلقف الاتهامات والإشاعات وروايتُها.. وهذا مضمنٌ في قوله تعالى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وقوله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ…} [المائدة: 41].
2-ورأيت أن خطورة هذا النهج لا تنحصر فيمن يصدقون الاتهامات والتشكيكات ويتبنونها، ولكنها أيضا تصيب مَن يبقَون متحيرين بشأنها وبشأن من قيلت بحقهم، بحيث يصبح “المتهمون” – على الأقل – محل شك وريبة وتحفظ واحتياط..
3-وأن الطرف الآخر – المستهدف بالتشكيك والاتهام – غالبا ما يعمد إلى الرد بالمثل، والرد بالمثل هنا سهل أو أسهل، لأنه لا يحتاج إلى علم ولا دليل ولا إثبات، وإنما هي قذائف متبادلة..
4-ثم هذا النهج يتضخم ويتورم حين يتجاوز دائرة الاختلاف الفكري والمذهبي والطائفي والشخصي، ويصبح أداة وسلاحا بيد الحكام والسياسيين، بكل إمكاناتهم ووسائلهم وأساليبهم، ما ظهر منها وما بطن.. وهنا تعم الفتنة وتعظم الطامة.
5-ومع استمراري في القراءة والتدبر للقرآن الكريم، أدركت – أكثر فأكثر – فداحة هذا المنهج الغوغائي الهدام في التعامل مع الناس عامة، ومع الخصوم والمخالفين خاصة، وأدركت – بالمقابل – فداحة خسائرنا، الناجمة عن هدر منهج القرآن وتفويت كنوزه الدينية والاجتماعية والحضارية والسياسية.
6-تعلمت من ديني ومن تجربتي: أن أتمسك وأعتصم – إلى أقصى حد ممكن – بحسن الظن بالصالحين والمصلحين، أفرادا وجماعات، وأن أرفض وأحارب الاتهامات الجزافية والتشكيكات الشيطانية، وأنَّ القطعيات لا تهدمها الظنيات، وأن المحكمات لا تلغى بالمتشابهات، وأن اليقين لا يزول بالشك، وأن حسن الظن بمن لا يستحقه، أفضل وأسلم، وأقرب للتقوى، من سوء الظن بمن لا يستحقه.
وهذا الموقف الصارم تجاه سياسة الاتهام والطعن، لا يمنع أبدا من ممارسة التقييم والنقد الموضوعي، لما ظهر أو ثبت من لأقوال والتصرفات والاجتهادات، لكن دون شيطنة أو تزيد أو تحريف أو تخرص..
منهج القرآن المهدور
مما يحز في النفس أن منهج القرآن في هذا الباب، ورغم كونه مقرَّرا ومكررا في آيات محكمات قطعيات، لا يُـحتاج معها لا إلى اجتهاد ولا إلى استنباط، ولا إلى تنقيب أو تعليل، فإن أكثر المتدينين – وليس غيرهم فقط- لا يأبهون به ولا يقيمون له وزنا، عند تعاملهم مع محالفيهم وخصومهم..
وهذه بعض الآيات البينات في الموضوع:
قال الله عز وجل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]
فحتى في حالة قيام العداوة والكراهية المشروعة، مع الأعداء المشركين المعتدين، فإن ذلك لا يكون مسوغا للاعتداء عليهم.
وقال أيضا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
فكما أن بُغض الأعداء، وهم مشركون معتدون، لا يجيز الاعتداء عليهم، فكذلك لا يجيز ترك القيام بالعدل والقسط في حقهم.. فهذه هي التقوى لمن أراد أن يكون من المتقين.
وقال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]
العدل والتسوية في القول وفي الحكم على الناس، حتى ولو كان أحد الخصوم منا ومن أقاربنا وأحبائنا.
وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُول} [الإسراء: 36]
فالمعتاد أن الناس يَقبلون ويروجون ويستعملون كل ما يكون ضد خصومهم، مما يسمعونه أو يتخيلونه، ولا ينتظرون في ذلك إثباتا ولا تحريا، ولا حجة ولا علما.. فيكفي أنه يدين الخصم ويدمغه ويشوّهه.. وهذا لا يجوز بحال. فيجب أن تتثبت لفائدة خصمك وعدوك، بمثل ما تفعله لفائدة نفسك وأحبتك.
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]
فحتى في حالة الحرب ومع المحاربين: من أعلن لنا إسلامه صدقناه وقبلنا قوله، وعاملناه على هذا الأساس. وحتى المنافقون الذين يَعلم الله كفرهم ونفاقهم، فنحن مأمورون أن نعاملهم معاملة المسلمين، ما دام لم يثبت عليهم ضد ذلك، والله يتولى السرائر.
وقال جل جلاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
فأخبار الفاسقين ورواياتهم، فضلا عن أخبار الكافرين وأعداء المسلمين، لا يجوز التعويل عليها، ولا تقوم بها حجة إلا بعد الفحص والتحري والتثبت. وكما في الحديث: [لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم…]. ولكن الجاري به العمل عند من أهدروا منهج الشرع، هو الترحيب والفرح بكل خبر يمكن استعماله ضد الخصم المسلم، ولو كان مصدره يهوديا أو نصرانيا أو إلحاديا أو مخابراتيا أو مجهولا أو مشبوها أو معاديا. ولو وجدوا خبرا صحيحا، لكنه قد يكون لصالح خصومهم، لأعرضوا عنه وتجاهلوه.
نحو كبح الاتهاميين والغلاة والغوغائيين
لا تخلو الأمة – بكافة طوائفها ومذاهبها – من العقلاء أهل الاعتدال والإنصاف، ولكن بسبب قلتهم، أو صمتهم، أو بسبب خفوت أصواتهم، يتقدم أمامهم ويحيط بهم الغلاة وأصحاب الصخب والضجيج، فلا تُسمع إلا أصواتهم، ولا تظهر إلا مواقفهم.
وللإمام الذهبي كلمة ذهبية – في (سير أعلام النبلاء) – قال فيها رحمه الله:
“غلاة المعتزلة، وغلاة الشيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا وكثُـروا، وفيهم أذكياء وعُبّاد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة”.
فلا بد للعلماء أهل القسط والإنصاف أن يرفعوا أصواتهم، ويؤدوا شهادتهم، ويُظهروا مواقفهم، ليدخلوا في قول الله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وعلى جميع المسلمين أن يواجهوا الطاعنين الاتهاميين ويحاسبوهم بمنهج الإسلام، وألا يقبلوا منهم شيئا من الاتهامات الجزافية، أو المبنية على توهمات وشبهات واهية. فحرمات المسلمين وأعراضهم وأعمالهم وتضحياتهم ومقاصدهم، لا يجوز استباحتها أو طمسها أو تحريفها، بمجرد القيل والقال، والاسترسال مع الخيال.
يجب أن نرفع في وجوههم قول الله تعالى {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 12، 13]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (البينةَ، وإلا فـحَدٌّ في ظهرك).