السياسة البربرية للحماية بالمغرب 1913-1934 (ج4).. الجماعة القضائية
هوية بريس – ذ.إدريس كرم
ملخص الجزء:
يتحدث هذا الجزء عن المصاعب التي لقيتها الحماية في تنظيم الجماعات القضائية البربرية، لكسر النظام القضائي المغربي، المستمد من الشريعة الإسلامية، والمنظم بظهائر سلطانية، لا تفرق بين مكونات الشعب المغربي، بخلاف ما تريد الحماية، من فصل الشرع عن العرف، الذي ترى وجوب فصله عن الشريعة الإسلامية، وربطه بالقانون الفرنسي، ليكون في صالح الأوربيين، ويمكن من فرنسة البربر، وفصلهم عن العرب، وبالتالي الإسلام، حتى يمكن تمسيحهم، والقضاءُ وسيلة من الوسائل في ذلك، بيد أنهم اصطدموا برفض السلطان مخططهم، فانتظروا موته سنة 1927 لينطلقوا في مخططهم بعد تنصيب سلطان صغير السن خلفا له معتقدين أنهم سيتحكمون فيه، لكنه خيب ظنهم .
– كلمات مفاتيح:
عقد السيادة، الجماعات القضائية البربرية، قبائل العرف البربري، الشرع، السلطان إماما حاميا للقانون، قضاء بربري، الشرع إجراء ديني، التشريع المغربي يتم بالظهائر، القضاء المباشر، المقيم العام لوسيان سانت.
نص البحث
مصاعب إنشاء النظام القضائي:
….هذا النظام القضائي البربري، الذي أنشأ بمذكرات ومناشير كان مثيرا للدهشة، يجب قولها، من قبل شعب هو أيضا قانوني مثل شعبنا، مما لا شك فيه إن إدارة ليوطي كانت معتادة على سماع السخرية من «المسؤل» و«القديس المقدس القانوني» و«سيد المكتب».
ما يمنع أن لجنة الدراسات نفسها اعتقدت بأن «عقد السيادة، لا بد منه، لوضع القواعد، والحدود الناجعة، للجماعات القضائية البربرية».
لقد أرادت أن يمنح هذا العقد، تفويضا دائما، لإنشاء أو تعديل الجماعات، وتعيين أعضائها، ووضع قواعد الإجراءات، واتخاذ كافة العمليات التنفيذية الممكنة، وذلك بالاستناد لـ«عقد واحد مبدئي، سيطلب من المخزن» بيد أن هذا الأمل على العموم تلاشـى، بعدما أدرك، أن عقود الجماعات وأحكامها في غياب ظهير شريف ينظمها ويعترف بصلاحيتها، تبقى بلا قيمة حقيقية لها.
فمحاولاتنا مساواة، سيادتنا مع سيادة السلطان، لتهيـئ المستقبل من خلال الحصول على التفويض الدائم للسلطة من الصدر الأعظم، كإجراء إداري لتحقيق رغبة سياسية، يستدعي البحث لهما عن تفسير سياسي.
في الواقع كان علينا التراجع عن هذا الأسلوب لعدم وجود اتفاق مع السلطان، وقع الاشتباك في وقت مبكر من عام 1922 بشأن ظهير 15 يونيو الذي ينظم نقل ملكية العقارات الممنوحة من قبل المغاربة المنتمين لقبائل معترف بأنها قبائل العرف البربري، لم يتم بعد تزويدها بمحاكم لتطبيق الشريعة لصالح المشترين الأجانب بالقبيلة.
– موقف السلطان:
على الرغم من أن هذا العنوان مبهم يخفي اعتماد تسجيل الملكية في بلاد البربر، إلا أن الخلاف جاء حول مسألة المبدأ، فالسلطان والصدر الأعظم، أكدا على أن كل القبائل الهادئة، يجب أن تخضع للشريعة، ويبدو أن الأمر استغرق الكثير من الجهد والمناقشات الطويلة، لإجبار السلطان على الاعتراف، بأن فرنسا تريد احترام الوعود التي قدمتها للقبائل، والحفاض على ظهير 1914 الذي هو نفسه أي السلطان “نادم عليه بمرارة“.
وفي نهاية النقاش وافق على إصداره بشرط التنصيص على أنه مؤقت، في انتظار صدور نظام نهائي، وطلب إضافة عبارة “والغير المزودة بمحاكم تطبيق الشريعة” وذلك -في تفكيره- احتياطا للمستقبل.
وهذا ما يفسر لماذا اضطررنا للمضي قدما في إقرار قوانين المحاكم البربرية من خلال المناشير الإدارية البسيطة بين 1923-1924 لكن الحاجة لموافقة السلطان، أو من يقوم مقامه كشريف معروف، بقيت قائمة.
يقول صوردون «بدء من 1922 أثناء انعقاد جلسة مجلس السياسة الأهلية» وظهر بشكل أكثر وضوحا، في عام 1924 لكن إذا كانت لجنة الدراسات مصممة على «كسر توحيد النظام القضائي، -المغربي- من أجل تقوية العنصر البربري، فإنها لم تكن تدرك أنه سيتعين عليها، أن تتعارض مع إدارة السلطان، باعتباره إماما حاميا للقانون، مما يجعله يرفض التصديق عليه».
على أي حال مع المسألة الريفية، لا يمكن أن يكون هناك تساؤل عن فائدة الاستماع لاقتراحات أنصار سياسة نشطة، في مجال بناء قضاء بربري، بعد كل الأساسيات المحصل عليها، والتي أدت لإقامتنا هيأة قضائية فعلية خاصة، ببلاد البربر، ثم عززنا مبدأ استقلاليتهم «هذا المبدأ يقول عنه مستشار الحكومة الشريفة، بأن له أهمية سياسية عليا، -إذ بفضله- سنُنَحِّي بشكل مطلق الشريعة من بلاد البربر، مما يسمح مستقبلا، في يوم، ربما ليس ببعيد، بتنظيم وطني للعدالة البربرية، في اتجاه فرنسي واضح».
إنه اعتراف بأن هذا العمل شبيه بالجماعات القضائية للقبايل الجزائرية في 1874، بيد أن المؤسسة المغربية لا تعدو أن تكون انتقالية، ومن المتوقع أن تقترب يوما ما من نموذج فرنسيا من الجزائر.
كيفما كان الحال، فالجماعات القضائية البربرية تعمل على ما يبدو بشكل جيد، “يجب أن نستنتج أنهم كانوا قابلين للحياة، منذ أن وجدوا، وأنهم ازدهروا، وأنهم اليوم يستجيبون تماما للاحتياجات القانونية للسكان”.
هذه الشهادات المبينة لعقلية البرابر، من كاتبها الكومندار مارتي، تبدو مريبة، لكن هناك شهادات أخرى فرنسية تؤكدها، وقد تم رغم ذلك، من الجانب المغربي، سماع اتهامات متبادلة مختلفة، لتلك المؤسسات التي تعمل مجانا، وبلا وضع قانوني.
فما الذي يمكن أن يعمم، أحيانا؟
التقارير القضائية للشرع والعرف، تتسبب في صراعات بها حساسية قانونية يصعب تهدئتها، حتى أن بعض القبائل المصنفة حسب العرف، كان من الممكن إعادة تصنيفها ضمن قبائل الشرع.
– العرف يخدم الأوربيين:
على سبيل المثال: “بسبب تشابك المصالح المنقولة بين بني سدان، وعدد من الفاسيين، يتراجع أحيانا كمنداراتنا عن تصنيفهم الذي كانوا قد صرحوا به”.
جورج صوردو ذكر أيضا حالة 13 فخدة من أيت يوسي في دائرة صفرو، تم إعادة تصنيفها، في إطار الشرع بقرار وزيري مؤرخ في 1927/2/15.
أيضا المعمرون اعترضوا على جمود الطريقة التي يمارس بها حق الشَّفْعَة، عند البربر، لأنها تستغرق وقتا طويلا، وحسب الكومندار مارتي، فقد تطلب القيام بمجهود كبير، لإقناع المعمرين بالاعتراف، بأن العرف يعمل لصالح الأوربيين.
بالطبع أثار التصنيف ضمن مناطق العرف هذا، تحريضا وتحرشا، أغرى بتظلم الباشوات وكبار التجار، في الساحل وأحيانا البرابر أنفسهم، الذين تم إخفاء الطبيعة العشوائية للمؤسسة، بشكل واضح عنهم، لكنهم حاولوا إقناع أنفسهم على ما يبدو، بصحة حجة سند الملكية، الصادرة عن الجماعة، وصار السجل/الكناش، ذا سمعة طيبة.
غير أن القضاة رفضوا الأخذ بعين الاعتبار الأفعال الإشهارية، التي أقامتها الجماعات القضائية، والمنازعات التي تضاعفت مع توسع جهود التهدئة، وزيادة الصفقات العقارية.
الإقامة العامة انتظرت تدخل وزير العدل، الوحيد المؤهل لمراقبة انضباط القضاة، تدخلا مضادا لهؤلاء الموظفين المتمردين، لكن تبين أن ذلك التدخل كان سيلحق ضررا بالسلطة الدينية للسلطان، وقد «لاحظ صاحب الجلالة بأن الشرع إجراء ديني، وأنه من المستحيل عليه سلوك هذا الطريق» المناقضة له.
«لقد أشرت مرارا، وكتب في هذا الصدد مستشار الحكومة الشريفة في 1927/6/13 مبينا موقف السلطان من هذه المسائل البربرية، فهو يوافق على أن السلطات الفرنسية هي المكلفة بتنظيم القبائل البربرية لكنه لا يريد بأي شكل من الأشكال، التدخل في هذه المسائل، ويصدر قرارا رسميا، يمكن أن يخالف الشرع فالمسألة بالنسبة له مسألة سيادة شخصية، واعتقاد ديني في نفس الوقت».
– محاولة تجاوز السلطان:
وقد اقتُرِحت أفكار بارعة لتجاوز موقف السلطان، الذي لا يمكن أن يطلب منه شيكا على بياض، يمنح للإقامة مهمة تعديل القضاء، ولكن ألا يمكن تخطيه بسَنِّ قوانين عبر قرارات بسيطة؟
“دعونا لا ندَّعي بأن هذه التنظيمات تمت من خلال تشريعات صادرة عن شرفاء متَوَّجين”، كما أعلن جورج صوردو في عام 1927 أمام طلاب الدورة التحضيرية للشؤون الأهلية.
لكن السلطة القضائية الفرنسية، التي تمَّ التشاور معها، أشارت إلى أنه في المسائل المتعلقة بالتشريع المغربي، نتقدم دائما عن طريق الظهير، وأنه يتعين علينا اتباع نفس الإجراء، تحت طائلة تحدي شرعية قرارات الجماعات القضائية، التي تطعن فيها محاكمنا.
باختصار: كنا في طريق مسدود، لغاية نونبر 1927تاريخ موت السلطان، فبدأ الشأن البربري حقيقة يتحرك، ساعد على ذلك اختيار مستشاري المقيم استيك: ميرسيـي، ومشوبلير، الذين كانا يعرفان كيف يبعد الأبناء الكبار للسلطان المتوفى، فنصبوا الفتى سيدي محمد، هذا الشاب الصغير البالغ 17سنة، خجول ومنطوي على نفسه، سيصبح العاهل المطيع، الذي كنا في أمس الحاجة إليه.
**د) إعداد الظهير البربري لـ1930م
في ماي 1928 تمَّ مبدئيا خلق مصلحة جديدة أعلن عنها مراقب القضاء البربري، بعدما اعتمدت من قبل مديرية الشؤون الشريفة، وظلت مديرية الشؤون الأهلية تتولى إدارتها مؤقتا، بصفتها الجهة الوحيدة التي لديها موظفين أكفاء، بإمكانهم تحمل المسؤولية رسميا عن صياغة قانون القضاء البربري، أنظر ليوطنا كولونيل Izard,Note sur la qustion berbere1926.
هذا الجانب المعالج بشكل سيء، يعكس بلا شك التنافس، بين بعض الجنود، الذين لم يريدوا الإسراع كثيرا في عملهم، وبعض المدنيين، الذين انتقدوهم على إطالة أمد الشأن البربري، مثل ما فعلوا في عملية التهدئة نفسها.
ومع ذلك فإن “لوسيان سانت” المقيم العام الجيد، الذي كان ينوي إكمال عملية التهدئة بسرعة، سرعان ما أقنعه مستشاروه، بوضع حد لما أسموه “ترددنا” فيما يتعلق بالقضاء البربري، فقد صرح جورج صوردو: بأنه “حان الوقت الآن للتنظيم المنهجي” و”جاءت ساعة القانونيين” وأنه بإمكان مديرية القضاء البربري الكبيرة، أن تطور عملها، وتؤسس نظاما متماسكا.
في الوقت الحالي كان هناك 72 جماعة قضائية في فاتح يناير 1929 لها سلطة قضائية، على ما يقرب من ثلث المسلمين الخاضعين، لكن 14قبيلة أو فخدة مصنفة ضمن العرف البربري، من أصل 84 لا تتوفر على جماعة قضائية.
– الفصل بين العرب والبربر:
في 1930 كان من أصل 80 جماعة 22 فقط، أصرت على وجوب وجود كاتب ضبط لديها، بعض الجماعات لا تحرر عقودها سوى بالعربية، أو العربية والفرنسية، وقد أنذرهم بعض المراقبين: «العربية! إذا لم نتحل بالشجاعة لنصرخ بصوت عال، كي نفوز بسرعة، متوخين الحذر، فسيكون الوقت قد فات».
صوردون في محاضرة له ألقيت في 1929/7/21 تحت رعاية المقيم العام، كرر علانية حجته، أخيرا في 1929/12/7 صدر قرار مقيمي، بإنشاء لجنة كبرى مكلفة بسير القضاء البربري وتنظيمه، ولتهييئ عملها، قامت بحملة صحفية محلية، تشرح مزايا سياسية، الفصل بين العرب والبربر.
لقد أصبح سرُّ “الفكر النير” للمقيم العام مكشوفا، فتم تسمية رئيس محكمة الاستئناف بالرباط، كوردييه، رئيسا لهذه اللجنة، التي كان أعضاء مديرية الشؤون الأهلية العسكريون بها أقلية.
اجتمعت هذه اللجنة في يبراير ومارس 1930 وناقشت أولا الوسائل المختلفة، لتأكيد الحالة المؤقتة للقضاء البربري، أثناء التحضير للمستقبل، هذا المستقبل المقام وفقا للرئيس على امتداد بلاد البربر، كان من اختصاص المحاكم الفرنسية.
منذ البداية أيد القضاة منهج القضاء المباشر على النمط الجزائري، على يد قاضي صلح ذي اختصاص واسع، وهو ما كان يقوم به قاضي لقبايل، فلماذا لا يصبح هو قاض البربر؟
رئيس مصلحة الدراسات القضائية، ونقيب المحامين، الأستاذ برونو، كانا الأكثر إقناعا، لكن الكولونيل بينازيت نائب مدير الشؤون الأهلية، لم يكن مؤيدا على الإطلاق صيغة القاضي الفرنسي،، فقد كان يخشى الترحيب الذي قدمه البربر أنفسهم لـ”مثل هذا الابتكار الجذري” وقد تدخل الجنرال نوغوس، المدير العام للشؤون الأهلية، على نفس المنوال، مع الاعتراف بأنه في المستقبل “يمكن أن يتناقص عدد الجماعات تدريجيا، فيصبح أعضاؤها شيئا فشيئا مساعدين للقاضي الفرنسي”.
في جلسة 1930/3/6 أعلن الرئيس كوردييه “أنا أرى في المستقبل قضاة فرنسيين بين البربر، لكن الوقت المناسب لذلك لم يحن بعد، أنا لا أرى أيَّ شيء على الإطلاق، فكل العوامل تمنع تلك اللحظة من الاقتراب“.
يتبع (ص67).