السياسة في المغرب: حينما تتحكم الجوقة في اللحن

06 يناير 2025 18:31

هوية بريس – مصطفى أيتوعدي

دعني أبدأ هذا المقال بملاحظة بسيطة: إذا كنت تتخيل أن السياسة في المغرب تتعلق بالكفاءة أو الإصلاح أو حتى تحسين الوضع العام، فدعني أخبرك أن الواقع مختلف تماماً. لا تندهش إذا وجدت نفسك تتساءل: “أين العقل؟ أين الكفاءة؟ أين الناس الذين يفهمون؟” الإجابة بسيطة: إنهم “تحت خط الفقر!”، وربما خلف الستار، حيث تجلس النخبة الحقيقية من العقول اللامعة، لكنهم لا يملكون كراسي فاخرة ولا حقائب وزارية

نتساءل مجددا أين هي النخبة الحقيقية؟ أين هؤلاء الذين يملكون العقول اللامعة، الذين يمكنهم أن يقودوا البلاد إلى الأفق المنير؟ إنها تقبع خلف الستار، تنزوي بعيدًا عن الساحة السياسية التي باتت مليئة بالزيف والنفاق.

في النهاية، فإن أي حزب يصل إلى السلطة لا يُحدث فرقًا؛ فالمناصب الوزارية تظل في يد نفس الأشخاص الذين لا يملكون أكثر من وجوه مألوفة، لا شيء يتغير. إذاً لماذا يشارك الأذكياء في هذا العرض الممل؟ لِمَ يتكبدون عناء التلوث بتلك المستنقعات التي تشمئز منها الأيدي البيضاء؟ فهم يدركون أن لعبة السياسة لن تفضي إلى تغيير حقيقي ما دامت نفس الوجوه تطلّ علينا بعد كل انتخابات، وكأننا نعيش في دائرة مغلقة لا نهاية لها.

السياسيون: حفلة التنكر المليئة بالوجوه المألوفة

في المغرب، السياسة ليست معركة فكرية بقدر ما هي عرض مسرحي، حيث يشارك في الأدوار الذين لا يفهمون النص ولا يملكون موهبة التمثيل، ولكنهم يعرفون كيف يحركون خيوط الدمى. فالسياسي المغربي لا يحتاج أن يكون خريج علوم سياسية أو يحمل مؤهلات أكاديمية تُحسَب له، بقدر ما يحتاج إلى معرفة “أين يمكنه أن يجد جمهوراً يهتف له”. عذراً، لكن يقال إن السياسيين لدينا، إذا أضافوا “موسيقى حماسية” من بعض التصريحات الشعبوية، سيتحولون إلى نجوم بين عشية وضحاها. فمن يملك القدرة على تسويق نفسه أكثر من أولئك الذين يستخفون بعقول المواطنين؟

أحزابنا، إن كان من الممكن أن نطلق عليها “أحزاباً” أصلاً، لا تتعدى كونها آلات انتخابية هدفها فقط الوصول إلى السلطة. برامجها؟ دعني أضحك قليلاً. لا أحد يهتم بها. كل ما يهم هو أن يجدوا وعوداً يسهل ابتلاعها، ثم يجتمعون على الطاولة بعد الفوز لمناقشة كيف سيتقاسمون حصص السلطة. أما إذا حدثت معجزة وتفوه أحدهم بكلمة عن دراسة ميدانية أو احتياجات المواطنين، فستشعر وكأنك أمام شخصية خارقة من عالم الخيال

الوظائف العامة: جائزة لمن يستحق؟

يقال في بعض الأماكن إن “الوظائف العامة هي للمؤهلين”. ولكن في المغرب، إذا كنت تعتبر أن الوظيفة العامة يجب أن تكون من نصيب ذوي الكفاءة، فتلك فكرة قد تكون ساذجة بعض الشيء. من الجميل أن ترى شبابًا متخرجين من أرقى الجامعات، يحملون درجات علمية أبهرت العالم كله، ولكنهم يواجهون حائطًا منيعًا يدعى “المحسوبية”. وإذا كنت تحلم بأنك ستجدهم في منصب في الدولة، فابتسم، لأن هذا الحلم سيبقى مجرد حلم! الوظائف في المؤسسات الكبرى تُمنح لمن يجيدون “فن التسويق البشري”، ليس بناءً على جهدهم أو كفاءتهم، بل على علاقاتهم ومهاراتهم في إرضاء “الزعماء” و”الكبار”.

ولا داعي للحديث عن البيروقراطية التي تعيش في عالم آخر، حيث يظل المواطن البسيط يبحث عن وظيفة لسنوات طويلة دون جدوى، بينما نجد أن الكراسي “الإستراتيجية” (أو كما يطلق عليها البعض “الكراسي الدافئة”) مشغولة بمن لا يعرفون حتى كيف يملأون استمارة توظيف، ولكنهم يملؤون جيوبهم بنجاح عجيب.

البورصة السياسية: هل من استثمار؟

السياسة في المغرب تشبه إلى حد كبير لعبة “البورصة”. نعم، بورصة تُقَيم فيها الأصول السياسية ليس بناءً على الكفاءة أو الجدارة، بل بناءً على القدرة على التداول بين الأطراف المختلفة، والتزلف هنا وهناك. في هذه “الأسواق”، كل شيء قابل للبيع، بدءًا من المبادئ إلى المناصب. إن كان لديك ما يكفي من المال والقدرة على “توجيه البوصلة” بالشكل الصحيح، فلا شك أنك ستجد مكانك على قمة الهرم السياسي. أما إذا كنت من نوع “الذي لا يعرف كيف يبيع نفسه”، فلا تتوقع أن تجني أي ربح، سوى إحساسك بالفشل في ظل الوعود الكاذبة التي أُطلقت عليك.

إذن، البورصة السياسية تشبه إلى حد بعيد سوق “السلع القابلة للتفاوض”، وأنت مجرد سهم في هذه السوق الكبيرة التي يظن الجميع أنها تدار بالكفاءة، لكنها في الواقع تدار بـ”الفهامة” و”القدرة على الكذب”.

المال: العقل المدبر للعبة السياسة

وفي خضم هذا المشهد السياسي المثير، لا يمكننا إغفال العامل الذي يحرك كل شيء: المال. ففي المغرب، السياسة ليست شيئًا يُبنى على الأفكار، بل على الأموال. إذا كانت لديك القدرة على تمويل الحملات الانتخابية، إذا كانت لديك القدرة على دفع بعض الوعود المربحة هنا وهناك، إذا كنت تستطيع ملء جيوب الناخبين بالأموال في وقت الانتخابات، فسيتم تقديمك كمخلص الأمة. أما إذا كنت تشعر بأنك ستنقض على المنصب بسبب قدرتك الفكرية أو عن طريق محاربة الفساد، ففكر مرة أخرى: أنت خارج المعادلة! في عالم السياسة المغربية، المال هو العقل المدبر الذي يدير كل شيء.

المواطن العادي لا يستطيع حتى أن يحلم بأن يحصل على قطعة من الكعكة السياسية، لأنه غالبًا ما يواجه قوى كبيرة تهيمن على هذا العالم، حيث الأموال تتدفق بشكل غير طبيعي.

رجال الدين: الأفيون الأكثر خطورة!

أما إذا تحدثنا عن رجال الدين، فلهم مكانة خاصة في هذا المقال. هؤلاء الذين يخرجون في كل مرة يحسّون فيها أن سلطتهم وامتيازاتهم مهددة. هم لا يعتقدون أن النساء والرجال في هذا العصر يحتاجون إلى حقوق جديدة، إلى إصلاحات، إلى قوانين تحترم إنسانيتهم؟ لا. هم لا يهمهم إلا أن يبقوا “حراساً للمعبد”. يخرجون في معركة دفاعية ليست عن المساواة أو العدالة الاجتماعية، بل عن قوتهم. هؤلاء، أشد خطراً على المجتمع من الأفيون نفسه! لأنهم لا يسمحون لأتباعهم أن يفكروا أو يتدبروا الأمور بأنفسهم، بل يعطونهم ديناً جاهزاً، “شريطاً مسجلاً” من التلقين والحفظ، حتى أصبح الدين لديهم مجرد استعراض لفظي لا يفهمه إلا قلة.

ويزداد الأمر سوءًا عندما تكتشف أن هؤلاء “الحراس” لا يفكرون أصلاً! هم مجرد أجهزة استنساخ معلومات دينية، تم تعليبها في ذاكرة بشرية فاشلة، تُعاد كلما دعت الحاجة. لماذا يفكرون، إذا كانت الأسئلة أصلاً مُعدة لهم؟ وتبقى النتيجة واحدة: الدين متجمد، يرفض التكيف مع تطورات العصر.

النقابات: أبطال “العمال” أم مجرد أدوات للضغط السياسي؟

إلى جانب السياسيين ورجال الدين، نجد الفئة المميزة التي تلعب دورًا بارزًا في هذه اللعبة الملتوية: النقابات. نعم، النقابات التي من المفترض أن تكون الحامي الحقيقي لحقوق الطبقة العاملة. لكن هل هي كذلك؟ أم أنها مجرد أداة للضغط السياسي؟ النقابات في المغرب قد أصبحت في بعض الأحيان مجرد بيادق في يد السياسيين، يستخدمونها لتصفية حساباتهم مع خصومهم السياسيين.

عندما تدافع النقابات عن مصالح عمال المغرب، يكون هذا أحيانًا مجرد “حملة دعائية” تضمن لهؤلاء الزعماء العِظام كسب الدعم الشعبي على حساب العمال الفقراء الذين يصطفون خلف الشعارات الزائفة. ولن تكون مفاجأة إذا اكتشفنا أن بعض النقابيين يترأسون الآن أكبر الشركات والمصالح، لا بل أصبحوا جزءًا من الطبقة التي كانت تدعي محاربتها. لذلك، نحن أمام ظاهرة غريبة: نقابات “تحارب الفقر” في العلن، ولكن في الخفاء، تنعم بأراضٍ مزروعة بالرخام.

الشباب المغربي: الضحية الدائمة

أما بالنسبة للشباب المغربي، فهم الضحايا الحقيقيين لهذه اللعبة الفاسدة. في الماضي، كان الشباب يمثل الأمل والمستقبل المشرق، ولكن في المغرب، أصبح الشباب يمثل “الانتظار الطويل”. هم الذين نشأوا في أحضان وعود كاذبة، وتعلقوا بحلم الوصول إلى منصب أو مستقبل أفضل، ولكنهم لا يلبثون أن يكتشفوا أن “المناصب” قد أصبحت محجوزة لأشخاص آخرين: أولئك الذين يجيدون “فن التملق” والتسويق السياسي.

هذا الوضع المحبط يجعل الشباب في حالة من اليأس، ويُجبرهم على البحث عن فرص الهجرة بعيدًا عن وطنهم، حيث يجدون في الخارج فرصة جديدة بعيدًا عن قوى الاستبداد السياسي والاقتصادي التي تعيق تقدمهم.

الأمل الضائع

وفي النهاية، هل هناك أمل في التغيير؟ قد يعتقد البعض أن الأمور قد تتغير مع الانتخابات القادمة، أو ربما مع بعض “الإصلاحات” الظاهرة هنا وهناك. ولكن الحقيقة هي أن الساحة السياسية في المغرب تحتاج إلى ثورة فكرية حقيقية، وإلى جيل جديد يستطيع أن يقتلع جذور الفساد والممارسات القديمة، لا أن ينغمس في “البرك السياسية” بنفسه. التغيير لن يأتي إذا ظل الناس يركضون وراء الوجوه نفسها، أو إذا ظل رجال الدين يقتاتون على جهل الشعب، أو إذا ظل السياسيون يبيعون أحلامًا فارغة

المواطن العادي، في هذه اللعبة، هو المتفرج الوحيد. أما السياسيون، فهم يديرون المسرح كما يشاؤون، وكلما تغيّرت الأحداث، يتبدل المسرح، لكن يبقى الممثلون كما هم. هناك فوضى، ولكنها فوضى مُرتبة، في عالم سياسي ينسج مشاهد التسلية والشعارات الجوفاء على حساب الواقع.

ربما سيكون التغيير يومًا ما، ولكن حتى يحدث ذلك، سنظل نعيش في هذا العرض المسرحي البائس، حيث يظل الممثلون يغيرون ملابسهم، ولكن لا أحد يغير السيناريو.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M