«الشعر الإسلامي في المغرب: التزامه وفنيته» كتاب جديد للدكتور محمد ولالي
هوية بريس – متابعة
تعريف مختصر بالكتاب بقلم مؤلفه:
كثيرة هي الآراء النقدية الحاكمة على الشعر بالجودة أو الرداءة، التي أثرت عن القدامى، فطارت في الأمصار، وطبقت الآفاق، وصارت بين كثير من الناس من قبيل المسلمات التي لا تقبل التنازع.
فقديما قال أبو سعيد الأصمعي (ت:216هـ): (وطريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان). وقال: (الشعر نَكَد، بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف. هذا حسان بن ثابت، فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره).
ويرى أبو عثمان الجاحظ (ت:255هـ) أن للرفث ألفاظا مبذولة سائرة، وضعت لـه (ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألا يلفظ بها، ما كان لأول كونها معنى، ولكان في التحريم والصون للغة العرب أن ترفع هذه الأسماء والألفاظ منها).
وهذا ابن قتيبة الدينوري (ت:276هـ) يروم تسهيل السبيل في رواية شعر الرفث، ويثلم غيره من كبار تقاد عصره ممن عارضوه بأنهم متزمتون ويقول: (فإذا مر بك -أيها المتزمت- حديثٌ تستخفه أو تستحسنه، أو تعجب منه، أو تضحك لـه، فاعرف المذهب فيه، وما أردنا به، واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فَيُهَيَّأَ على ظاهر محبتك. ولو وقع فيه تَوقي المتزمتين، لذهب شطر بهائه، وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك).
وابن المعتز يحاول أن يدغدغ عاطفتنا الدينية، ويوهمنا بأن شعر التعهر والمجون مما لا تمنع روايته ولا إنشاده، ولو في المساجد. يقول: (وهل يتناشد الناس أشعار امرئ القيس، والأعشى، والفرزدق، وعمر بن أبي ربيعة، وبشار وأبي نواس، على تعهرهم، ومهاجاة جرير والفرزدق، على قذفهم، إلا على مَلإ من الناس، وفي حلق المساجد؟ وهل يروي ذلك إلا العلماءُ الموثوق بصدقهم؟.. وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده، عن إنشاد شعر عاهر ولا فاجر).
ويبلغ تأثر قدامة بن جعفر (ت: 337هـ) بالفلسفة اليونانية درجة يرى معها أن العبرة بالتجويد الفني لا بالمعاني، التي هي (كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم في ما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه.. وإذا أجاد القائل، لم يطالب بالاعتقاد).
ويبلغ الأمر نهايته مع القاضي الجرجاني الذي يرى الفصل التام بين الدين والشعر
(فلو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين.. ولوجب أن يكون كعب بن زهير، وابن الزبعري وأضرابهما ممن تناول الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وعاب من أصحابه، بُكْما خُرسا، وبِكَاءً مفحمين، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر).
وهي المقولة التي تلقفها كثير من دعاة الفن للفن المعاصرين، فنزعوها من سياقاتها، كما نزعوا الأقوال السابقة، ورأوا أن الطاغي على النقد القديم هو المنهج الفني، ولو كان على حساب الالتزام بالمضامين الشريفة، والمعاني المنيفة، التي كثرت النصوص والآثار الشرعية في الحض عليها، وتسويغ فن القول في مضمارها. فأساغوا لأنفسهم مثل قول بدوي الجبل:
نشـارك اللهَ -جَلَّ اللهُ- قـدرتَه * ولا نَضيـق بها خَلْقــا وإتقـانـا
وأيـن إنسانُه المصنوعُ من حمَإٍ * ممـن خلقنـاه أطيابا وألحانا
ولو جَلا حسنَـه إنسـانُ قدرتِنا * لَوَدَّ جبريل لـو صُغْنَـاهُ إنسانا
يفنى الجميعُ ويبقـى اللهُ منفردا * فلا أنيــسَ لنـورِ اللـه لولانـا
لنا كِلينـا بقــاءٌ لا انتهاء لـه * وسوف يشكو الخلودَ المرَّ أبقانا
ورفع أحدهم1 عقيرته بالقول -متحدثا عن عربدة أبي نواس، وجرأة ابن أبي ربيعة-: (إن الانتهاك هو ما يجذبنا في شعرهما). وليقرر في النهاية ويقول: (يَلْزَمُنا أن نُحيي شعر الشيطان).
فكان لا بد من إرجاع الأمور إلى نصابها، وبيان حقيقة القول الأدبي ـ شعرا ونثرا ـ بإزاء ما تَعبدَنا الله ـ تعالى ـ به من ضرورة الانتباه إلى هذا اللسان الذي يورد الناس الموارد، وهو ليس بمعزل عن الرقابة العلوية (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ).
ولقد دخل في الإسلام شعراء كثر، فسوغوا شعرهم لخدمة الأخلاق السامية، والآداب العلية. واتخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلة كانوا لسانا مفعما بالصدق، دافعا عن الحق، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه: (إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ). ثم قال: (هَجَاهُمْ حَسَّانُ، فَشَفَى وَاشْتَفَى)2.
إن المجال سانح جدا للوقوف على نظرية متكاملة للشعر الإسلامي، بكل مقوماتها الفنية والمضمونية، وإن المادة الشعرية متوافرة لمن جد في البحث، واجتهد في التنقيب.
ولقد أجاد مجموعة من النقاد المعاصرين في رصد عددا لا يحصى من النصوص الشعرية والنثرية التي يمكن أن تكون موضوعا لهذه النظرية، بل منهم مبدعون كثر، قدموا لنا نصوصا فريدة، تناولوا فيها موضوعات جديرة بالدراسة، فصارت للأدب الإسلامي بعامة، والشعر منه بخاصة مكتبة محترمة، ألف د. عبد الباسط -قبل أكثر من عقدين- جزءا سماه: “دليل مكتبة الأدب الإسلامي”، وجعل متبوعا بجزء آخر.
وهنا يبرز مسوغ آخر كان من أهم الدوافع للكتابة في هذا الموضوع، وهو نوع غفلة عن المكنوز الشعري الإسلامي المغربي، الذي لا نكاد نجد له شواهد في الدراسات الحديثة التي تنظر لهذا الشعر. وشكل ذلك غصة لبعض النقاد المغاربة الذين رأوا في هذا التوجه إجحافا بليغا بشعرنا الإسلامي الذي لا يقل جودة عن نظيره المشرقي. مما حدا بناقد مغربي كبير هو عبد الله كنون أن يجأر بهذه الشكوى، معتبا على المغاربة أنفسهم الذين لم يستطيعوا أن يعتنوا بمذخورهم تحقيقا ونشرا. يقول: (فاللوم لا يتوجه عليهم بقدر ما يتوجه علينا، نحن الذين أهملنا أنفسنا حتى صرنا كما قال القائل: [طويل]
خَرجْنا مِنَ الدنيا ونحنُ مِنَ اَهلها***فلسنا مِنَ الأمواتِ فيها ولا الأَحْيا).
وقال -أيضا-: (فأعظمُ اللوم في هذا مردود على أولئك الذين ضيعوا أنفسهم، وأهملوا ماضيهم وحاضرهم، حتى أوقعوا الغير في الجهل بهم والتقول عليهم).
ولهذا نقول كما قال الأمير “شكيب أرسلان”: (إن للمغاربة حقا في المطالبة بمكانهم في الأدب العربي، الذي هم من جملة حملة ألويته، بل من نخبة عُمَّار أنديته، ولكن الأمر على حد ما قال الشاعر: [بسيط]
والنجمُ تَستـصغِر الأبصارُ رؤيتَه***والذنبُ للطَّرفِ لا للنجْمِ في الصِّغرِ
فالمشارقة الذين يَعزو إليهم إخوانُهم المغاربة جهلَ مقامهم في الأدب، ليس منهم واحد يُلَزُّ في جملة العلماء المحققين، وإنما هم من صغار المتأدبة الذين علموا شيئا وغابت عنهم أشياء).
إن هذا الكتاب لبنة متواضعة في صرح نظرية الشعر الإسلامي، مشرقيه ومغربيه، تحاول وضع الأمور في مواضعها، ورد الموارد إلى مصادرها، سعيا وراء توحيد الرؤى حول أهم قضايا هذا الضرب من الشعر. والله الموفق للصواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ هو علي أحمد سعيد المعروف بـ(أدونيس).
2ـ صحيح مسلم “كتاب: فضائل الصحابة” رقم الحديث:6550.