الشيخ الألباني… العالم الذي حارب “بدعة التكفير” بالحجة

هوية بريس – د.رشيد بن كيران
◆ يقصد بالتكفير -في الغالب- في الاستعمال المعاصر إصدار الحكم بالكفر على مسلم دون التزام بالقواعد الشرعية المُحكمة، ودون مراعاة للمنهج العلمي الذي قرره أئمة السلف في هذا الباب، والمتمثل في إثبات شروط التكفير وانتفاء موانعه قبل الجزم بالحكم على المعيَّن.
◆ وهذه القواعد لم توضع عبثا، وإنما جاءت استجابة للنصوص الشرعية التي تحذر من التسرع في التكفير، وتهدف إلى ضبط هذا الباب الخطير حماية لعقيدة المسلمين ووحدتهم، وسدا لباب الفوضى العقدية والسياسية التي تقع حين يستباح التكفير بغير علم، وما قد يتبعه من سفك للدماء، واعتداء على حدود الله، وتمزيق لجماعة المسلمين. ولنا في فرقة الخوارج مثال حي على خطورة الانحراف في باب التكفير، إذ انطلقوا من غلو في الفهم وسوء في التأويل فاستحلوا الدماء المعصومة باسم الدين، وكانوا أول من فتح هذا الباب بغير علم ولا ورع، فكان فيهم العبرة لمن أراد أن يعتبر.
◆ وفي هذا السياق برز دور الشيخ المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420هـ- 1999م)، الذي يعد من أبرز العلماء المعاصرين الذين تصدوا للفكر التكفيري بأسلوب علمي رصين ومنهج سلفي متين. فقد انطلق الألباني من خلفية فقهية عميقة وحديثية دقيقة مكنته من تفكيك الخطاب التكفيري على مستوى النص والاستدلال، مبينا أن الغلو في التكفير ناتج عن جهل بعقيدة أهل السنة والجماعة وسوء فهم للنصوص الشرعية ومقاصدها التي تتناول قضايا الإيمان والكفر والموالاة والمعاداة.
◆ ومن المسائل الدقيقة التي قررها الألباني -وفاقا لمنهج أئمة السلف وتأصيلاتهم- أنه:
ليس كل من وقع في الكفر يقه عليه اسم الكفر،
وكذلك ليس كل من ثبت كفره شرعا من الحكام يجوز واقعا حمل السلاح والخروج عليه؛ فالحكم بالكفر شيء، ومشروعية الخروج شيء آخر.
فالأول حكم شرعي تُضبط معاييره بالنصوص الشرعية وقواعدها،
والثاني حكم سياسي مصلحي تراعى فيه القدرة والاستطاعة ومآلات الفعل.
وقد شدد الألباني على أن الشريعة الإسلامية تراعي درء المفاسد المترتبة على الفتن والاقتتال، وأن الخروج على الحاكم الكافر إذا أدى إلى فساد أعظم وإراقة دماء وتدمير لمصالح الأمة، فإنه يُمنع شرعا ولو ثبت الكفر في الأصل.
وهذا التفريق المنهجي الدقيق هو ما أغاظ دعاة الغلو والتكفير الذين لم يدركوا طبيعة الموازنة بين النص والمصلحة، ولا فقه الواقع الذي تقتضيه السياسة الشرعية، فاتهموا الشيخ بالإرجاء تهمة باطلة.
◆ لقد مثل موقف الألباني نموذجا متوازنا في التعامل مع قضية التكفير، جمع بين التمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة في باب الإيمان، وبين استحضار المقاصد الدعوية والإصلاحية للأمة. فهو لم ينكر وجود الكفر ولا حكمه، لكنه دعا إلى التمييز بين النظر العلمي في الحكم، والتصرف العملي في تنزيله. ومن هنا تبرز القيمة الدعوية لمنهجه؛ إذ قدم تصورا متزنا يجنب الشباب الانجرار وراء العواطف الثورية، ويعيدهم إلى فقه السلف في الدعوة والإصلاح.
◆ إن التحليل الدقيق لموقف الألباني في مواجهة الفكر التكفيري يكشف عن وعيٍ عميق بأثر الانحراف العقدي في تمزيق الأمة، وإدراك ثاقب بأن التصدي للغلو لا يكون بالمواجهات الأمنية وحدها، بل بإحياء المنهج العلمي السني القائم على النص، وفهم السلف الصالح ومنهم الأئمة الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد)، والميزان الشرعي في الحكم. وهذا المنهج هو السبيل الأقوم الذي تحتاج إليه الأمة اليوم في ظل فوضى الأحكام والمواقف التي تصدر باسم الدين دون علم أو ورع.
◆ إن المتأمل في مسيرة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله يدرك أنه لم يكن مجرد محدّث يعنى بصحة الأسانيد وضبط الروايات، بل كان مربيا ومصلحا فكريا ومجددا في منهج التعامل مع النصوص وفقه الدليل، حمل همَّ تصحيح الفهم قبل تصحيح القول، وإحياء المنهج السلفي في صورته العلمية الوسطية التي توازن بين النص وفقه السلف الصالح، وبين الغيرة على الدين والبصيرة في الدعوة، ومن أقواله المشهورة: “التصفية قبل التربية“.
◆ ولا يعني هذا أن كل اختيارات الألباني الفقهية أو الحديثية أو المنهجية معصومة من الخطأ أو الزلل، فجلّ من لا يخطئ، وإنما هو عالم كباقي العلماء الذين خدموا الإسلام واجتهدوا، فيؤخذ من قوله ويرد وتحاكم أقواله إلى الأدلة الشرعية، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
◆ ختاما أقول:
إن المؤسسات العلمية الرسمية وغير الرسمية في العالم الإسلامي عامة، وفي البلاد العربية خاصة، مدعوة إلى الاحتفاء بميراث هذا العالم الجليل احتفاء علميا مؤسسيا راشدا. فالاحتفاء بالألباني ليس احتفاء بشخصه، بل هو احتفاء بالمنهج العلمي الوسطي الذي جسده في مواجهة الغلو والانحراف، وبتلك الجهود الإصلاحية العميقة التي قدمها في خدمة السنة النبوية، وتحصين الأمة من مظاهر التطرف العقدي والفكري.
■ وإنه لمن المؤسف أن تـقْـدِم دولة الأردن، التي كانت مهد النشاط العلمي للشيخ الألباني ومركز إشعاعه الحديثي، على إغلاق مركز علمي كان تابعا لمدرسته الفكرية والعلمية؛ إذ كان الأجدر دعم مثل هذه المؤسسات التي تجسد الاعتدال المنهجي، وتسهم في ترسيخ العلم والوسطية، بدل التضييق على رموز الاعتدال ومنارات الإصلاح.




