أديبُ الفقهاء وفقيهُ الأدباء الشيخ علي الطنطاوي، من الشخصيات الفذَّة، الحصيفة المُقنعة بآرائها، المثيرة بشخصيتها، أسهب الكثير في الحديث عنه وبيان قدره وفضله؛ لذا وجدتني بعد توجيه من أستاذي القدير ربيع السملالي أتتبع كتاباته وأنهل من فيض دُررها، وقد أثارني حديثه عن صفحة مهمة في حياته، حين قُدر له أن يلِجَ سلك التدريس، فكان بين الكثير من مصنفاته ينثر ما بصمته هذه الحقبة في حياته من دروس، وما خلَّفته من آثار نفسية؛ فعنَّ لي جمع شتات هذه الأفكار؛ عسى أن تقودني لاستخلاص فوائدَ يسترشد بها كل معلم، أو معانٍ يتأسى بها أرباب هذه الرسالة الشريفة في ظل الظروف القاتمة التي يمر بها تعليمنا العربي، وقد كان حديث الشيخ الطنطاوي عن نفسه غاية في الإبداع والإمتاع، وكم ألفيْتُني أقاسمه تلك الأنَّات وذاك التمرد، خصوصًا في عتابه وسخطه عن بعض أوضاع التعليم.
مِن بديع البدايات في سلك التدريس بالنسبة للشيخ الطنطاوي: أنه التحق به وهو ما يزال فتًى غضًّا يافعًا، يتابع دراسته في السنة الثانية بكلية الحقوق، حيث تم تعيينه معلمًا بالسلمية – وهي قرية على طرف بادية الشام – سنة 1345 ه، وقد قضى بها أيامًا قليلة، لكنها كانت ممتعة وجميلة (كأنها حُلم قصير تصحو وفي قلبك حلاوته)، يقول عن أول أيام تعيينه بالسلمية: (وكنتُ من حماستي ومما وجدتُ من ذكاء التلاميذ وحُسن استجابتهم ورغبتهم في الاستفادة والتحصيل، كنتُ أريد أن أجعل منهم كتَّابًا وخطباء، وجعلتُ من دروس التاريخ محاضرات وطنية، لا مجرد معرفة بأحداث الماضي)؛ ذكريات ج 2 ص 248.
وقد تنقَّل -رحمه الله- بين العديد من المدارس في القرى، ومن جميل حظه -رغم هذه التعيينات التأديبية التي صاحبت مواقفَه البطولية- أنْ كانت رفقته في العمل بالمدارس الابتدائية ثلة من المشايخ والعلماء والأدباء الكبار، منهم: الشيخ محمد بهجة البيطار، والشيخ حامد التقي، والطبيب الشيخ رفيق السباعي، والشيخ سعيد البرهاني، والشيخ سعيد الأفغاني، وسليم الزركلي، وأنور العطار، وجميل سلطان، وأمجد الطرابلسي، فأنْعِمْ بها مِن صحبة!
وإلى جانب عمله بالمدارس الأولية في القرى، درس بالمدارس المتوسطة والثانوية، وكذا في جامعات كثيرة في أقسام الدراسات العليا في هذه الجامعات، وأشرف على إعداد رسالات الماجستير والدكتوراه، وعلَّم البنين والبنات، ومشايخ في كليات الشريعة وفي المساجد، وقد شملت جولته الشام والعراق والسعودية ولبنان ومصر، ومَن يطلع على كتابات الشيخ الطنطاوي سيجد نفسه يقف أمام مدرس شامخ متمكن، غَيور على دينه ولغته ووطنه، وكيف لا يكون كذلك وهو سليل أسرة عالمة فاضلة غرست في بَنِيها وبناتها كل سمات الفضائل؛ فآتت أكلها طيبًا وفاح عطرها عبر السنين؟! يقول رحمه الله عن نشأته في كتابه “في سبيل الإصلاح” ص 22: (نشأتُ مِن صغري بين كتب العربية والدِّين، ورُبِّيت في مجالس العلم والأدب؛ لأن والدي رحمه الله كان من كبار علماء دمشق، وكانت دارنا من الدور العربية العريقة في العلم، فلم تكن تخلو يومًا من مراجعات أو مناقشات، ونظر في الكتب ومقارعات بالحجج)، بل إن هذه البيئة الطيبة علَّمته حقيقة الإخلاص في طلب العلم، وجعلته يستشعر حلاوته وهو يتقلب بين دفاف الكتب دون كلل أو ملل، يقول في كتابه “في سبيل الإصلاح” ص22: (ما يبتغي أحد منا بالعلم دنيا، ما نبتغي غير العلم وحده؛ لنعرف به الحلال من الحرام، نرى طلبه علينا فرضًا، وتحصيله عبادة، فكنا نجدُ في المطالعة لذة، وفي الحفظ مسرَّة، وفي التعب راحة، فنطالع الدرس قبل أن نقرأ، ونطالعه بعد أن نقرأه، ونحقق مسائله ونحفظ شواهده، ونفتش عن الشروح له والحواشي عليه..)، وكان مِن ثمار هذه التربية الفذة سعيٌ حثيث للنهل مِن نور العلم والمعرفة أنبأ عنه اعترافه: (لقد كنا في المدارس الابتدائية نقرأ الكتب العلمية الكبيرة، حتى إني قرأت “حياة الحيوان” للدميري – وقد وقَع في يدي اتفاقًا – قبل أن آخذ شهادتها، وقرأتُ “الأغاني” كله – متخطيًا إسنادَه، وما لا أفهم منه – في صيف السنة الثانوية الأولى، وكنا يومئذ نحسن المراجعة في الخضري وفي المغني، وكان فينا مَن ينظِم ويكتب، وعندي مقالات كتبتها في تلك الأيام، قد لا ترضيني أفكارها، لكن أسلوبها يرضيني اليوم، وعرفنا عشرات من أمّهات كتب التعليم.. وكنا نختلف إلى بعض العلماء نسمع دروسهم العامة في المساجد، ودروسهم الخاصة في البيوت، حتى قرأنا مع علومها، النحو على المشايخ والبلاغة والأصول والفقه، وحضرنا كتبًا في التفسير والكلام والتصوف، وعرفنا عشرات من أمات كتب التعليم… وكنا في الثانوي نرجع إلى الإصابة وأسد الغابة والاستيعاب، وتهذيب التهذيب، وتهذيب الأسماء واللغات… وما كانت تمر سنة لا ينبغ فيها نابغون في الأدب والعلم) – في سبيل الإصلاح ص 35، 36.
معلم هذا تكوينه لا يُفترض فيه إلا التفوق والبراعة في أداء رسالته التعليمية، وإفادة طلابه مِن بحر علومه، وتقويم سلوكهم بما نهل من أساليب التربية بمحيطه وباحتكاكه مع كبار العلماء والمشايخ وقراءاته الكثيرة؛ لذا لا تعجب إن قرأت اعترافه بتفوقه حامدًا ربه لا مفتخرًا بذاته، فيقول: (وأنا أحمد الله على أني كنت معلمًا ناجحًا، لا أقول ذلك عن نفسي وحدي، بل يشهد به تلاميذي على مدى إحدى وستين سنة، منذ بدأت التعليم)، وقد بسط الشيخ الطنطاوي أهم عوامل تفوقه في كتابه “ذكريات ج 6، ص289)، وجعلها بمثابة نصائح يسترشد بها كل معلم، أوردها اختصارًا للفائدة:
أولها: استيعاب المادة التي يدرسها والإحاطة بها، والرجوع إلى كل كتاب يصل إليه من كتبها، فلا يقتصر على الكتاب المقرَّر.
الثاني: أن يسلُكَ إلى إفهام الطلاب كل سبيل، فإن ساقَ المسألة بعبارة لم يفهموها بدَّل العبارات حتى يصل إلى العبارة التي يستطيعون أن يفهموها.
الثالث: أن يكون طبيعيًّا، فإن لم يعرف المسألة قال للطلاب: إني لا أعرفها، وإن أخطأ قال لهم: إني أخطأتُ فيها.
وقد حدَث للشيخ الطنطاوي في بداية عمله موقفٌ مع أحد طلابه استدعى منه الاعتذار، فلبَّى داعيَ الواجب، ولم يستنكِفْ عن الاعتراف بخطئه، وهذا ما كشفَتْه عباراته التي سجلها بكل أمانة في كتابه “ذكريات” وهو يقرُّ بخطئه ويعتذر لطالبه قائلًا: (أنا أعتذر إليك، لقد كنتُ أنا المخطئ وأنت المصيب، وأعتذر إليك مرة أخرى؛ لأنك كنتَ مهذَّبًا، ولأنني لم أكن في التهذيب على ما يُطلب مِن العلماء؛ فسامِحْني)، وكان لهذا الموقف أعظمُ الأثرِ في نفوس الطلاب.
ولعلَّ هذه المبادئ التي سطرها آنفًا تنسجم مع نظرة الشيخ الطنطاوي للتعليم وتعريفِه له؛ إذ التعليم عنده هو اختيار (الأسلوب الذي توصل به هذه المعارف إلى أذهان المتعلمين، وذلك يقتضي معرفةً بمدى إدراك الطالب، فلا تكلفه بما هو فوق إدراكه – وبمدى قَبوله ما تلقيه عليه، وإلا أغلَق ذهنه دونك، فقرعتَ بابًا لا يُفتح أبدًا، وأن تزيح مِن طريقه العوائق التي تعيق فهمه عنك، وينشغل بها عما تقول، ومِن هذه العوائق ما يكون فيك أنت أيها المدرس، فلا ينبغي أن يكون في هيئتك ولا في لهجتك ولا في أسلوب معاملتك شيءٌ غريب يقف فكره عنده، فلا يستطيع أن توصلَ إليه ما عندك) – ذكريات ج 6، ص 287.
ولعلَّ أبرزَ ملامح شخصيته كمعلمٍ إلى جانب تفوقه العلمي: شجاعتُه وجرأته، واستقلاليته، ورفضه للخُنوع والتبعية والتقيد بقيود الوظيفة، وهذا ما دلَّتْ عليه المواقفُ التي سرد بعضَ فصولها في كتاباته، مِن ذلك شجاعتُه في مقابلة وزير المعارف الذي استقبله بكِبر وعجرفة واستخفاف، كما هي عادة أرباب المناصب العليا، فما كان من الشيخ الطنطاوي – الشاب حينئذ – إلا أن قال له بصرامة حين سأله عن وظيفته: (أنا وظيفتي معلم، أعلِّم الصغار والكبار، أعلمك أنت قبل كل شيء أن تستقبلَ ضيوفَك باحترام؛ لأن العربيَّ يُكرم ضيفه، وأن ترد السلام على مَن سلَّم عليك؛ لأن ردَّ السلام واجب في دِين الإسلام، قال: لي أنا تقول هذا الكلام؟ قلتُ: نَعم، وستقرَؤُه في الجريدة، وتسمَعه مِن فوق المنبر) – ذكريات ج 3، ص 201.
فَلانَ الوزيرُ أمام قوة الطنطاوي، وقال: (أنتم هكذا معشر الشباب)، ثم حاول بين ثنايا كلامه تهديده بالنقل، لكنه وجد ردًّا أشدَّ: (يا معالي الوزير، أنا والله إن ذهبتُ إلى الجزيرة لا أتبخر بشمسها، ولا أذوب بمائها، وأبقى صامدًا كما أنا الآن) – ذكريات ج 3، ص 201.
ومثل ذلك قوتُه وبسالته لحظة زيارة المندوب المفوض السامي (المسيو سولومياك) للمدرسة؛ حيث خرج المدير وكل الأطر التربوية بالمدرسة لاستقباله مع التلاميذ، إلا الشيخ الطنطاوي أبى أن يصطف لاستقباله، واستمرَّ في مزاولة عمله بالقسم، فكان لهذا (الموقف أثر في البلد تحدَّث به الناس).
وكان له موقفٌ آخر يكشِفُ كراهيتَه للخضوع لأي سلطة، وذلك لحظة استدعاء المفتش له؛ حيث غضِب مِن هذا الاستدعاء، لكنه كتمه في نفسه قائلًا: (ماذا يريد مني؟ وهل أنا جندي عنده يستدعيني فأذهب ويعيدني فأعود؟ وكدتُ أرفض، ولكن طِيب المدير ولطفه وإخلاصه عقَد لساني، وأنا لا أُغلَبُ إلا باللُّطفِ، فإن هوجمتُ وجدتُ الفَرَج؛ لأن المقاتلةَ أهونُ عليَّ مِن المجاملة) – ذكريات ج 2، ص 256.
كما كان حازمًا في عمله، لا يقبَل الظلم، ولا يحيد عن الحق والقانون، ويشهَد لذلك موقفه الصارم حين دُعي ليكون عضوًا في اللجنة العليا الفاحصة في امتحان الشهادة الابتدائية، حيث كان يُعقَد على عهد الفرنسيين امتحان عام، وكان امتحان العربية صارمًا جدًّا؛ بحيث إن الطالب إن أخطأ خمسة أخطاء، فإن الصفر يكون من نصيبه، وبالتالي الرسوب كيفما كانت نقط المواد الأخرى، وحدَث أن وقع اختلاف بين أعضاء اللجنة حول طالب مِن مدرسة نصرانية استوجبت إجابته الصفر؛ لأن أخطاءه بلغت العشرة، لكن أعضاء اللجنة أبَوْا أن يضعوا الصفر، والشيخ الطنطاوي أصرَّ على وضعِه تطبيقًا للقانون، وحين ألحوا على موقفهم قال للترجمان: (بلِّغْ سعادة المستشار أنني أعلم أنه يقدر الآن أن يأخذ ورقة من فوق المكتب، وأن يكتب فيها قرار عزلي من الوظيفة، ولا يرد قرارَه أحد، يستطيع ذلك، ولكنه لا يستطيع، لا هو ولا أكبر منه، أن يجعلني أوقِّع على ما أعتقد أنه باطل، وثبتُّ في موقفي حتى رسب الطالب، وكان لذلك صدًى في دمشق) – ذكريات ج 3، ص 200.
بهذه الرُّوح الأبيَّة كان يقف سدًّا منيعًا في وجه كل المساومات والمواقف التي تبتغي النيل مِن قيمه ومبادئِه، وما كان يستكين أو يَلِين رغم ظروفه الصعبة: (كانت لي مواقفُ وأنا معلِّم آذيتُ فيها الرؤساء بمخالفتهم، وآذَوْني في رزقي وفي وظيفتي بسلطانهم).
ولأن الأديبَ مِن سماته عِشق الحرية، فإنه يكرَه القيود، وكثيرًا ما يثور ضدها، ويتمرد ضد القوانين التي تُعيق سَيره الطبيعي؛ لذا فالطنطاوي المعلِّم كان متمردًا، ولم يَثْنِهِ تنقيلهم له كلَّ حين بين القرى والمدن والبلدان العربية، بل ظلت رُوحه الوثابة رفيقَ دربه الدائم: (كنتُ معلم ابتدائي، ولكني كنتُ متمردًا، أقوم بعملي كله، أو بأكثر منه؛ لأني كنتُ أحب عملي، ولكني لا أشعر بالخضوع لمدير، ولما جاءت بدعةُ دفتر التحضير رفضتُها، ولم يستطِعْ أحدٌ أن يجبرني عليها؛ لأنني إذا ضُويقتُ فزعتُ إلى قلمي، فجردته، فقرعت به أركان وزارة المعارف)؛ ذكريات ج 3، ص 197.
لكنه أيضًا لا ينصح بهذا التمرد، ولا يشجِّع عليه في الوقت الحالي، فيقول: (وأنا لا أرى للشباب أن يقلدوني فيه، ولكن أذكرُ ما كان، وأنا أعلم أنه لا يستقيم أمر أمة إذا تمرد موظفوها على رؤسائهم، أو تكبَّر عليهم رؤساؤُهم، إنما يستقيمُ أمرها إذا وقَّر صغيرُها كبيرَها، ورحِم كبيرُها صغيرَها، اتبعوا في ذلك منهج الإسلام وسنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام) – ذكريات ج 3، ص 197.
ويبدو واضحًا مِن ذكريات الشيخ الطنطاوي: أنه لم يكن مستأنسًا غاية الاستئناس بالتدريس، خصوصًا تدريس الصبيان؛ حيث كان مستاءً مِن عمله بالسلك الابتدائي: (لماذا قبلتُ أن أكون معلمًا؟!) هكذا يُسائِل الطنطاوي نفسه وهو يسترجع ذكرياته، ويرى أنه كان مِن الغَبْنِ أن يُعيَّنَ معلِّمًا للابتدائي، وأنه كان يستحق منصبًا أسمى، فيجيب على سؤاله قائلًا: (إني أفكر في هذا الآن فأرى أنني فعلتُ ذلك لأسباب، أولها: أنني اشتغلت مِن قبل بالتعليم، والمعلم وإن كان موظفًا مقيدًا بقيود الوظيفة، ولكنه في الفصل حُرٌّ، يأمر كثيرًا، ولا يؤمر إلا قليلًا، ولأن تعييني مُدرسًا في الثانوية كان يومئذ أمرًا كالمستحيل؛ لأنه لم يكن في الشام إلا ثانوية رسمية واحدة … فهل أزاحم أساتذتي على كراسيهم وهم أحياء؟!) – ذكريات ج3، ص 197.
ويتضح هذا الاستياءُ أكثرَ في قوله: (كيف أقول لهم: إني كنت في الوظيفة معلم ابتدائي، موظفًا من الدرجة الخامسة، ولكني كنت في المجتمع وفي مجال الأدب ومجال العلم في مرتبة أعلى من ذلك؟ ولكن لماذا رضيتُ بالدنيَّةِ فصِرتُ معلم ابتدائي؟)؛ ذكريات ج 3، ص 196.
بل إنه اعتبَر مهنة التدريس نوعًا مِن أنواع البلاء الذي يفتِكُ بالمعلم، ويمتص رحيق عمره رويدًا رويدًا، ولله دَرُّه فقد أصاب كبِدَ الحقيقة! يقول رحمة الله عليه في كتابه “صور وخواطر” ص 128:
(أنا في هذا البلاء مِن عَشْر سنين، عشر سنين، يا لها من دهر طويل! كان ربيع حياتي، وزهرة شبابي ـ أضعته كلَّه في هذا العناء، فماذا استفدت؟ لا شيء، إلا أن أحرقت نفسي لأضيءَ لهؤلاء الفتية طريقهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحْبَبْتهم وأخلصت لهم الحب، وعِشت بهم دهرًا ولهم، واعتصرت لهم ماءَ شبابي، ثم فرَّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرِفْ مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني؛ لأنهم لم يفكروا أن يعرفوه.
فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرَّة المروِّعة! يا لشمعة شبابي التي ذَوَتْ وخَبَتْ وأوشكت أن تنطفئ!).
ولعل الذي جعله يضيق ذرعًا بالتدريس بالابتدائي بعض المعيقات بهذا المستوى، منها – كما ساقها في ذكرياته-: رعونة بعض المديرين، وسخافة عقولهم، واهتمامهم بالصغائر، وكذا انتفاخ بعض المفتشين، إلى جانب الأنظمة والقوانين الغريبة التي يضعها غالبًا أناسٌ غرباءُ عن التعليم، ولولا ذلك (لكان التعليم الابتدائي نعمة من النِّعم).
كما زاده رهَقًا التوزيع الزمني للعمل بالابتدائي، الذي يكاد يخنق المعلم والتلميذ معًا: (فمعلم الابتدائي كان يجد مِن المشاقِّ ومن المتاعب ما يُكرِّه إليه مهنته، كنا ندرس في الأسبوع ستًّا وثلاثين ساعة، ما عندنا راحة يوم، ولا نصف يوم، حتى ولا يوم الخميس، ندرس من الصباح إلى المساء، نبقى في المدرسة لا نخرج منها، نرقع خروق عقول الصغار من عقولنا، فلا نصل إلى سن التقاعد حتى يُمسي كثيرٌ منا بلا عقل! نعاشر أطفالًا تفكيرهم محدود، فننزل إليهم فنحد من أفكارنا، فنفكر كالأطفال ونحن كبار)؛ ذكريات ج 3، ص 324.
ومِن مُثِيرات الغيظ التي تدفع بالمعلم أن يتمنى تقاعدًا قبل أوانه، ويعَض على أنامله مِن القهر: مواقف مِن الصبيان تجعل المدرس يعيش حالات مِن الذهول وهو يسائل نفسه: أين الخلل؟ وهاؤم عينة من هذه المواقف التي وقعت للشيخ الطنطاوي، حيث يقول: (كنتُ أعلِّم التلاميذ ما جاء في الكتاب في تعريف الاسم (وأنه الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم، وليس الزمن جزءًا منه)، شرحت ذلك، وأعدتُه وكررته فلم يفهموا عني… وبعد أن تكلمتُ ربع ساعة، قلت: مَن فهم؟ فرفع ولدٌ إصبعه، فحمدتُ الله على أن واحدًا منهم قد فهم، وقلت: قم يا بني بارك الله فيك فأخبرني ما هو الاسم؟ فقال: يا أستاذ، هذا دعَس على رجلي، فصِحْتُ به: ويحك، إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع رِجلَك في التعريف؟ ألم أقل لكم: إن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟ فقال: ولماذا يدوس هو على رِجلي؟ فصِحْتُ بالآخَر: لِمَ دست على رجله يا ولد؟ فقال: والله كذَّاب، ما دُستُ على رِجله، ولكن هو الذي عضَّني في أذني، فغضبت وصرخت: وكيف يعَضُّك وأنا قاعد هنا؟ فقال: ليس الآن، ولكنه عضَّني أمس، فتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدعي والمدعى عليه، وزُلزل الفصل، فضرَبت المنصة بالعصا، وأسكتُّهم جميعًا، وهددت مَن يتكلم منهم بأقسى العقوبات، ولست أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه! فسكتوا وعادوا إلى الدرس) – ذكريات ج3، ص 325/ 326.
وقد علَّق الشيخُ على هذه الحادثة بأن هذا لم يكن ديدنَ الفصل؛ لأنه كان حريصًا على ضبط التلاميذ، بالشِّدة واللِّين، فكان هناك خوف مشُوب بمحبة، وكان يستعمل أحيانًا الضرب، كما ذكر في ذكرياته ج3، ص 326: (لما نُقلتُ إلى مدرسة الميدان فأمضيت فيها مدة قصيرة، وجدت في السنة الثانية ولدًا صغيرًا اضطررتُ إلى ضربه، فبكى قليلًا، ثم أرضيتُه فسكَت)، هذا الطفل صار له شأنٌ عظيم فيما بعد، وبقيَتْ صلته بالأستاذ وطيدة؛ حيث قال عنه بعد أن حكى قصتَه في ذكرياته: (هذا هو التلميذُ الذي ضربتُه، ثم صار صديقي، وأخي، وولدي كبيرًا، وهو العالم الأستاذ زهير الشاويش، صاحب المكتب الإسلامي للنشر والتوزيع)؛ ذكريات ج 3، ص 327.
ولعل هذا الموقف مِن التعليم الابتدائي، وهو معلِّم، يتوافق وموقفه منه حين ولج المدرسة أول حياته، أو بالأحرى الكتَّاب الذي جعَله ينفِر أول الأمر مِن الدراسة، بل ويعتبره خطبًا مِن خطوب الدهر: (وكرَّتْ بي الذكرى إلى أول خَطب مِن خطوب الدهر نزل بي… ذلك هو أول دخولي للمدرسة، لقد كان يومًا أسودَ لا تُمحى مِن نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم كلما ذكرته أتصور رَوعَه وشدته،لقد كرَّه إليَّ المدرسة، وترك في نفسي من بُغضها ذخيرة لا تنفَد،ولقد صرتُ مِن بعدُ معلمًا في الابتدائية، ومدرسًا في الثانوية، وأستاذًا في الجامعة، وما ذهب من نفسي الضيقُ بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبت إلى المدرسة أو إلى الجامعة مرة إلا تمنيت أن أجدَها مغلقة، أو أجد الطلاب قد انصرفوا منها، والدروس معطلة فيها) – ج 6، ص 295/ 296.
وقد تحدَّث في كتابه “ذكريات” عن معاناته من أساليب المعلمين الجافة، التي كادت تُفقده ثقته في العلم والدراسة، لولا أن منَّ الله عليه بمعلم بشوش في المدرسة التجارية: (أما أنا فقد استهللتُ دراستي شقيًّا في الكتَّاب، وشقيَّا في المدرسة… ولقد رأيتُ أول عهدي بها ما كرَّه إليَّ العلمَ وأهله، ولولا أن تداركني الله بغير معلمي الأول، لَمَا قرأتم لي صفحة كتبتها)؛ ذكريات ج 1، ص:43-47.
لكن تراكم التجارب في حياة الشيخ الطنطاوي جعله يشعُرُ بالأسف على موقفِه العدائي من التعليم الابتدائي خصوصًا، ويعترف بذلك بجرأته المعهودة: (إنني أقول الآن: يا أسفي على أيامي الأولى في التعليم الابتدائي التي ضِقْتُ بها لما كنت أعيشها، ثم عرفت قدرَ عملي فيها لَمَّا فارقتها)؛ ذكريات ج3، ص 321.
وهذا ما جعله يُقرُّ – بعد هذه الرحلة الطويلة – بأهمية التعليم الابتدائي، وأن نجاح أو فساد التعليم رهين بمدى الاهتمام بهذا المستوى الذي يُعد اللبنة الأساس في تكوين الطالب: (لقد وجدتُ أنه ليس شيء أبرك ولا أنفع للناس ولا أجمع للثواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية.
معلِّم الابتدائي هو الأساس، والبناء الذي حدَّثونا عنه في أميركا وقالوا: إن فيه مائة طبقة بعضها فوق بعض لا يقوم ولا يُنتفع به إن لم يحمله أساسٌ متين غائص في الأرض، والأساس لا يُرى، ولكن البناء لا يقوم إلا عليه،هذا الأساس هو التعليم الابتدائي، لا يراه الناس على حقيقته، ولا يُقدِّرونه قدره.
إن ضعف معلم الابتدائي لا تُصلحه قوة مدرس الثانوي، ولا أستاذ الجامعة)؛ ذكريات ج 3، ص 320.
ولعلنا ننهل مِن تجارب الشيخ الطنطاوي فننظر لتصوره العام حول قطاع التعليم، بعد أن بسَطْنا ملامح سريعة من شخصيته كمعلم، حيث تحدث الشيخ عن بعض أسباب فساد التعليم بوطننا العربي، وتطرق لبعض الحلول الإصلاحية المقترحة، بسطها بين ثنايا كتبه القيمة.
فنظام التعليم في بلادنا (كالبيت العتيق الخرب، المختل الهندسة، الذي لا يفتأ أصحابه يتعهدونه بالترميم والإصلاح، ولكنهم لا يجرؤون على هدمه من أساسه، وبنائه من جديد على هندسة صالحة، ونمط صحي نافع) – في سبيل الإصلاح، ص 154.
ولعل مِن أبرز مواطن الخلل – كما يراها الشيخ – غياب إستراتيجية واضحة للإصلاح، وانعدام الجرأة في اقتحام بوابة الإصلاح بما تستلزمه مِن صدق وإخلاص وصرامة، وقد ذكر الطنطاوي أن من أسباب فساد الأخلاق في التعليم: استيراد مناهج تربوية غربية غريبة عن بيئتنا وثقافتنا وقيَمنا، من ذلك إسناد مهمة تدريس الصبيان للمعلمات، وتدريس الفتيات للمعلمين، جريًا على ما كان عليه الاستعمار الفرنسي، فيقول: (نحن لا نقول: إن تعليم المرأة أولادًا صغارًا أعمارهم دون العاشرة محرَّم في ذاته،لا، ليس محرَّمًا في ذاته، ولكنه ذريعة إلى الحرام، وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام) ج 5، ص 352، ويضيف: (مَن تُشرف على تربيته النساءُ يلازمه أثر هذه التربية حياته كلها، يظهر في عاطفته، وفي سلوكه، وفي أدبه إذا كان أديبًا)، كما عابَ إسناد مهمة تدريس الفتيات للرجال بدعوى سدِّ الخصاص، في ظل انعدام الخُلق: (منهم مَن هو فاسق يخفي فسوقه، ومنهم من يجاهر به ويُعلنه، ويجد مِن الناس مَن يعجب بهذه المجاهرة)؛ ذكريات ج 5، ص 352.
ومِن مكامن الخلل كذلك طول سنوات التمدرس، والحرص على حشو ذهن التلميذ بما لا ينفعه: (إننا نحبِس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة، وماذا لعمري استفدتُ أنا مِن دراسة المثلثات والهندسة النظرية وحفظ معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء في القضاء، أو في تدريس الأدب، أو في فن الكتابة، وتلك هي أعمالي في حياتي؟!) – في سبيل الإصلاح، ص 154.
لهذا اقتَرَح في مقالته (أسلوب جديد في التعليم) في كتابه “في سبيل الإصلاح“، وجهة نظر ورؤية جديدة للتعليم، فقال: (أنا أرى أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية الثانوية معًا سبع سنين على الأكثر، يتمكَّن فيها الطالب مِن العربية بالمران، والتطبيق، وتنبيه السليقة، لا بحشو رأسه بالقواعد، وقَتْلِ وقته بمعرفة أوجه الإعراب؛ حتى يُقِيم لسانه، ويتنزَّه عن الخطأ الفاحش، ويُبصر مرامي الكلام، ودقائق معانيه، ويتعلَّم مِن دِينه ما يُمسك عليه إيمانه وخُلقه، ويرغِّبه في الخير، ويصرِفه عن الشر، ويمنعه عن الحرام، ويعرِف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغني عنه، مِن غير اشتغال بالنظريات المجردة، وما لا بد مِن معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي، وأن يعرفَ مبادئ لغة من اللغات الغربية، وأمثال ذلك، فما أردتُ الاستقصاء، بل التمثيل) ص 154 – 155.
ثم انتقَل بعد ذلك لبيان ما يلزم في المرحلة الجامعية؛ حيث تنشأ أقسام تحضيرية لمدة سنتين أو ثلاث، تناسب التخصص الذي يختاره الطالب؛ ليجد بعد ذلك كامل راحته في القسم الذي اختاره بإرادته دون أن تفرض عليه المواد التي لا تُرضي ميولَه، وهذا النظام سيضمن اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطيع الاستفادة منه في ممارسة هواياته، ثم مَن شاء الاكتفاء بالتعليم الثانوي والانصراف للحياة العامة كان له ذلك، ويكون حينها قد اكتسب مِن المعارف الدينية واللغوية ما يرفع عنه الجهل والأميَّة، ومَن شاء التخصص والاستمرار يسَّرنا له ذلك.
وتستطيع وزارة المعارف أن تلزم المدرسين بأن يكونوا مثالًا كاملًا للاستقامة والعفة والمروءة، وأن يكونوا قدوة للطلاب صالحة، فإنا قد رأينا مَن ليس كذلك، رأينا مَن يصحَب طلابه إلى دور اللهو والفسوق! – في سبيل الإصلاح، 106.
ثم ركَّز على ضرورة الاهتمام بقطبَيِ العملية التعليمية، وهما المعلم والتلميذ: فالمعلم يجب أن يكون أهلًا لمهمته؛ عِلمًا وسلوكًا، وأن يظل مواكبًا للقراءة، وألا يقتصرَ على المقررات فحسب؛ يقول في كتابه “فصول في الثقافة والأدب: (المدرس الذي يقتصر على ما تعلَّمه في المدرسة، ولا يطالع ليوسِّع أُفقه ويَزيد علمه، يتخلَّف عن القافلة، ويصبح بين الطلاب كأنه طالبٌ حافظ لدَرْسه!)، ويَزيد الأمرَ بيانًا في كتابه – في سبيل الإصلاح، 37 -: (هاتوا المعلم القويَّ في علوم اللغة، صاحب الاطلاع فيها، والذوق في فهمها، يُصلح هو فساد المناهج، ويقوِّم اعوجاج الكتب، وييسِّر عُسر العربية، وهذا المعلم لا يوزن بميزان الشهادات وحدها، إلا إذا جاء وقت لا تعطى فيه الشهادات إلا لأربابها، وتكون شهادةَ حقٍّ لا شهادةَ زور)، لكن (ما دامت مناصب التدريس في الجامعة وفي غير الجامعة تنال بالشَّهادات، ولو كانت شَهاداتِ زُور لا علم معها، وكان الأستاذ يلهو قبل الشَّهادة في فرنسا أو أمريكا ويلعب، ثم يأتي بها، وكان يلهو بعد الشَّهادة ويلعب ويعتمد عليها وحدها، وما دام لم يُقبِل على العلم صغيرًا، ولم يشتغل به كبيرًا – فكيف يصير عالِمًا؟! وكيف يُخرِّجُ علماءَ؟!) – مقالات في كلمات، ص 100.
فالمدرِّس الكفء قادرٌ على أداء رسالته مهما كانت ظروفُ العمل عسيرةً، وهذا ما أكده الشيخ الطنطاوي بتجرِبته العملية واعترافاته الشخصية: (كنا نَفِرُّ مِن المدرسة؛ لأننا لا نجد فيها إلا جبارًا عاتيًا، عَبوس الوجه، قويَّ الصوت، بَذِيءَ الكلمات، فجعلتكم تحبون المدرسة؛ لأنكم تلقَوْنَ فيها أبًا باسمًا شفيقًا، يحبكم ويشفق عليكم، ويحرص على رضاكم كما يحرص على نفعكم.
وكنا نكرَه الدرسَ؛ لأننا نجده شيئًا غريبًا، وطلاسم لا نفهمها، ولا ندرك صلتها بالحياة، ونُعاقَب على إهماله، ونجازَى على الخطأ فيه، فجعلتكم تحبون الدرس؛ لأنكم ترونه سهلًا سائغًا، تدركون صلته بحياتكم، وفائدته لكم، وتحفظونه؛ لأنه لازمٌ ومفيد، لا خوفًا من العقاب، ولا هربًا من الجزاء) – من حديث النفس، ص: 264.
ولا بأسَ أن يتحرَّرَ المعلِّم من طوق الجدية ببعض المستملحات التي تخلق البسط، وتلطِّف الأجواء، وتكسِر الملل، دون أن تكسر حاجز الاحترام بين المدرس وطلابه؛ يقول الشيخ الطنطاوي في كتابه “فصول في الثقافة” ص:71: (المدرِّس إذا التزم الجِدَّ الحصةَ كلها ولم يُنفِّسْ عن الطلاب بنكتة أو نادرة – مَلُّوا دَرْسَه).
أما موضعُ التلميذ في هذه الإصلاحات، فقد أكد الشيخُ على ضرورة تحبيب الدراسة لقلبه، وجعله يدرك قيمة العلم وأهميته في حياته: (أما التلميذ فيجب أن نحبِّبَ إليه المطالعة، ونعرفه قيمة العلم ونُذِيقه لذته، ولا يكون ذلك ما دامت المجلات والمطابع مفتحة أبوابها لكلِّ هَذَيان وعَبَث صبياني)، وقد لفَت الشيخُ الانتباه إلى أمر مهم لامَسْتُه كما لامسه غيري من المدرسين، وهو تدني المستوى العلمي للتلاميذ مع توالي السنين، وهو أمر يؤكد النفور الكبير للتلاميذ من القراءة، وعدم شَغفهم بها كما كان سلفنا الصالح، وإن كان في عهد الشيخ أمرًا بيِّنًا فهو في عهدنا أشد وضوحًا وبيانًا في ظل الملهيات الكثيرة التي ضجت بها الحياة المعاصرة؛ يقول الشيخ رحمه الله في كتابه “في سبيل الإصلاح، ص37”: (ولقد اشتغلتُ بالتعليم دهرًا في الشام والعراق ولبنان، فما فارقتُ فوجًا من الطلاب إلا استقبلتُ أضعفَ منه، حتى انتهى بي الأمر أنْ دُعِيت (من سنتين) إلى تدريس الأدب لطلاب السنة الأخيرة من مدرسة ثانوية، فدخلتُ فوجدت رجالًا كبارًا، لهم طول وعَرض، وأناقة في الثياب، ولباقة في الخطاب، وسَمْت ووقار، فهِبْتُهم وأعددتُ العدة لتعليمهم، وحشدت كل ما أُعطِيت مِن قوة وعلم، على ضَعْف قوتي وقلة علمي، ومضيتُ على سُنَني، حتى جاء موعد سؤالهم، فإذا هم من أئمة الجاهلين، وإذا هم لا يحسنون قراءة بيتٍ، ولا فَهْمَه ولا إعرابه، ففررتُ منهم لما عرفتهم، ووجدتُ أني إن كلمت ثيابهم وهيئاتهم منعتني جهالتهم، وإن خاطبت جهالتهم منعتني هيئاتهم).
هذه إذًا كانت رحلةً موجزة مع شيخنا الطنطاوي وجهاده في تربية النشء وتعليمهم ما ينفعهم، وتقلُّبه بين أسلاك التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، رحلة عانى فيها الكثير بسبب آرائه واستماتته على قيَمِه ومبادئه، ورفضه الخنوع والخضوع للمساومات والمغريات، وحرصه على مصلحة طلابه أولًا، نموذج رفيع نحتاج أن نستنسخَه بيننا؛ حتى نقوِّمَ اعوجاج تعليمنا، ونقوِّمَ ذواتنا أولًا نحن كأساتذة ومربين، نحتاج أن نضع نصب أعيينا هذا الهدف السامي الذي جعل الشيخ وأمثاله مِن المعلمين الشرفاء يمضون قدمًا في سبيل تربية النشء دون تقاعس ولا تخاذل: (ما كنتُ ولا كان كثيرٌ من إخواني نعُدُّ أنفسنا معلمين فقط، وما كنا نرانا مسؤولين أمام وزارة المعارف وحدها، نطبق مناهجها ونطيع أوامرها، بل كنا نُعِدُّ الجواب للسؤال يوم العرض على الله: السؤال عن تربية الأولاد على ما يُرضيه، على الشريعة التي بُعث بها خاتم رسله، عن تخريج أمة جديدة تؤمنُ بالله إيمانًا خاليًا مِن الشرك كله، الظاهر منه والخفي، تخاف الله، ولا تخاف في الحق أحدًا إلا اللهَ، تستهين بعذاب الدنيا مهما اشتد؛ للخلاص مِن عذاب الله في الآخرة وهو أشدُّ) – ذكريات، ج 3، ص 318.
وقد قدَّر اللهُ للشيخ أن يترك سِلك التدريس، ويلتحق بسلك القضاء، فتيسَّر له حينئذ أن يُبصِرَ الفارق الكبير بين العمَلين، وأن يقفَ على مواطن التعَب والرفاهية بين التعليم والقضاء، لذا سأجعل ختام مقالتي هذه المقارنة البديعة التي تختزل معاناة كل معلم صادق:
(يسألني كثير من الإخوان: كيف وجدتَ القضاء؟ إني وجدتُ القضاء راحة الجسم وتعَبَ بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم وازدياد أعداء، وحملًا كبيرًا، نسأل الله السلامة مِن سوء عاقبته:
أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصِرتُ الآن أسمع أكثر مما أتكلم، وكنت لا أقدِر على السكوت؛ لأني إن سكتُّ تكلَّم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى إنه ربما أصابني أحيانًا أذى في حلقي فجعلني أغَصُّ بالماء الزلال، وأشرَقُ بالريق، وأجد للكلمة الواحدة أنطق بها مِثل حزة السكين، ثم لا أستطيع الصمت دقيقة؛ لئلا يُفلِت مِن يدي طرف السلكة، فينفرط العقد، ويبطُل النظام،وكنت أدخل الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستًّا في اليوم ولا أقعد على كرسي؛ لئلا يرى الشيطان مني غفلة، فيعطس في مناخر التلاميذ، فيُحدِثوا في الفصل حدَثًا، ويا ما أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه، كما يقول الشاميون في أمثالهم العامية، ثم إذا خرجت من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني، فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره، فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل، فأصِل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجلي، ولساني لا يكف عن الدوران في فمي…فغدوتُ الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء، أقول الكلمة بعد الكلمة، وأسمع سيلًا مِن الكلام مما له موضع، أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي: السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكاتب (أحمد) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغِّص عليَّ هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطلق بعدُ كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي، ومِن الخير لي أن يثقل أو يكِلَّ)؛ من حديث النفس، ص:229.