بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه اجمعين، أحبابي الكرام:
وأنا في طريقي إلى جبال أوريكا الساحرة التي تستفزني بحسنها، عَنَّ لي أن أَمُرَّ على ضريح المعتمد بن عباد بأغمات، هذا المكان الذي يأسرك بسكونه وأشجاره، حتى إذا وقفتُ على القبور، قبور المعتمد وزوجه اعتماد الرميكية وابنهما، رحم الله الجميع، ولم تكن تلك أول زيارة لي لهذا المكان الذي تنضح جنباته بالعبر الناطقة الصامتة، هناك امتطيت حصان الخيال لأرجع إلى الذكريات، ذكريات الأندلس، ذكريات العزة والكرامة، ذكريات المجد والعلم، وهل المجد إلا العلم؟
جمح بي حصان خيالي بعيدا، ولم يُعِدْهُ إلا جلال المكان وهيبته وعبره التي تطرق القلب، وتتسلل إلى الوجدان، وتهز الأعماق، وتُسِيلُ الآماق، وتقول لك بلسان الحق المبين، هذه الحقيقة أيها المسيكين، حقيقة الدنيا الغرور، حقيقة العجز حقيقة الضعف حقيقة الدنيا الساخرة.
ما أشبه الدنيا بسَرابٍ بِقِيعَةٍ تحسبه ماء تروي به ظمأك، حتى إذا جئته تبين لك أنك كنت واهما، عجبا للذين يتقاتلون على مناصبها على أي شيء يتقاتلون؟
عجبا للذين يتقاطعون من أجلها من أجل ماذا يتقاطعون؟
عجبا للذين يبيعون ذممهم من أجل لقيماتها ماذا يشترون؟
عجبا للذين يفتخرون بها بماذا يفتخرون؟
عجبا للذين يتكبرون بأموالهم بماذا يتكبرون؟
إدمان البكاء في مقامات الاعتبار أليق بنا، وتمريغ الخد في تراب الذلة لله أنسب لنا، ومخالفة النفس الجَمُوح في مقام المجاهدة أنفع لنا، إن الموت قد فضح الدنيا وطَوَّحَ بخداعها، وإن مشهد القبر قد ذبح الاغترار بها، فواعجبا لقابع في سرداب غفلته يمني النفس بوهم الخداع، وواعجبا لمُقَدِّمٍ قَرَابِين الولاء لدنيا الصراع.
ما أحوجنا إلى زيارات دورية للمقابر علنا نسكن قليلا وتهدأ نفوسنا، ونخرج من حالة سعار الأثرة التي فتكت بالروح، ونخرج من حالة الحَوَلِ الفكري والذي جعل الدنيا عندنا هي غاية الغايات، ومنتهى الأمنيات، مع أنها في الحقيقة برق خُلَّب يذهب بالأبصار، لقد شَطَّ بنا الحال إلى واد غير ذي زرع، حينما عمرنا الملاعب وهجرنا المساجد، حينما تعاملنا بالربا وهي حرب على الله ورسوله، حينما بنينا علائقنا على المصالح، حينما تنافسنا على الحطام.
والحقيقة كل الحقيقة أن لنا موعدا بين يدي الله لنْ نُخْلَفَه، وأن وقوفنا في ساحة العرض يقتضي مرورنا عبر بوابة القبر الذي سنرقد فيه إلى أن يقوم الناس لرب العالمين،.
هل أعطينا لأنفسنا المجال في وسط هذا الصخب لنفكر في مسألة سكنانا في القبور والتي هي آتية لا محالة، ذلك القبر الموحش حيث الوحدة والغربة، إنه مظهر الضعف الصارخ والفقر الواضح، فعلام الاستعلاء؟ ولماذا الاستقواء؟
وأنا أنظر إلى قبر المعتمد رحمه الله تذكرت ما كان فيه من ملك وجاه وعز وسلطان، وها هو اليوم يرقد مجردا من كل ذلك في مكان يوجد فيه حارس يقفل الباب مساء وينصرف، فتعالى الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم.
وما أجمل ما قال المعتمد، وهو مكتوب على جدران ضريحه