الصوفية بين الوظيفة والتوظيف؟.. البودشيشية نموذجا
ذ. إبراهيم الطالب
هوية بريس – الأربعاء 30 دجنبر 2015
سؤال التوازن في العلاقة بين المادة والروح، كان ولا يزال من أبرز الأسئلة المطروحة أمام الباحثين عن السلام الروحي، فطغيان المادية على الروحانية معضلة تتسبب في إفراز أسباب الشقاء الإنساني إذ تنحو بالفرد إلى عبادة هواه، فيفنى في خدمة الجسد فتكثر جرائمه فيشقى، ثم يهلك دون أن يصل إلى معنى السعادة.
كما أن طغيان الروحانية والبحث الحثيث عن «الطهرانية» وذم الحياة دون اعتدال، والتسامي عن إشباع رغبات الجسد حتى يضمحل، والتدرج في تحصيل المقامات السلوكية دون ضابط الوحيين، ينقلب في النهاية عبادة للمادة، وانحرافا في السلوك، وبعدا عن الرقي النفسي والسمو الروحي الذي هو مقصود كل محب لله ورسوله، وكلِّ سائرٍ إلى الله يرجو ولايته وقربه.
ولعل الصراع بين الصوفية والسلفية كان هذا مضماره عبر العصور، فالصوفية تبتدع الطرق السلوكية وأنواع الأذكار، التي تضاهي بها الطريقة الشرعية وتقصد من وراء ذلك المبالغة في التعبد والتنسك.
في حين تعيب السلفية عليها عدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما سنّه من أذكار وطرق لتهذيب النفس والتسامي بها في درجات العلو الروحي والسمو الوجداني، وابتداعها لطرق الشطح، وانحرافها عن التوحيد الخالص، المتمثل في دعوة المقبور والاستغاثة بالأموات ودعائهم لجلب مصلحة أو دفع مضرة، وكذلك الغلو في شيوخ الطريقة وأرباب الزوايا.
لكن هذا الصراع في التاريخ المعاصر اتخذ منحى خطيرا، إذ عدل أرباب الزوايا عن مقاصد أسلافهم التي حددوها لطُرقهم، فخرجوا عن معنى «الوظيفة» الروحية السلوكية، ليسقطوا في بوتقة التوظيف السياسي الماكر، لتُعاد صياغة الطرقية ويُتفنن في سبكها، لتكون عائقا يستعمله السياسي داخليا وخارجيا ليحول دون استفاقة الشعوب، وانفلاتها من حبائل التجهيل والتخلف المقصود حتى تبقى الحضارة الإسلامية في تقهقر دائم، وليل سرمدي لا فجر له يؤذن بيقظة تكون أول منازل السير نحو النهضة ومنها الوصول إلى العزة والتقدم والازدهار.
ولنأخذ الطريقة البودشيشية نموذجا في التحليل، فهذه الطريقة لم تكن تتميز عن باقي الطرق والزوايا، بل كانت التيجانية أكثرها نفوذا وحضورا خلال عقود القرن الماضي، لكن مباشرة بعد أحداث الـ16 ماي الأليمة والآثمة، بدأت البودشيشية تحتل الصدارة، وتخرج من خمولها، ويسلط عليها الضوء سياسيا وفكريا وإعلاميا، وتدعم رسميا للعب القاطرة في قطار المسلسل الإحيائي للتصوف، بوصفه أحد ثوابت المغاربة كما صاغها الأستاذ أحمد توفيق، في خطته لإعادة تنظيم ما أسماه الحقل الديني.
خطة الوزير التوفيق هذه، اقتضت أن تباد الجمعيات المؤطرة لدور القرآن وتغلق الأغلبية الساحقة من مؤسساتها، والتي كانت تهتم هي أيضا بتأطير سلوك الناس وتوجيههم نحو التطبيق الحقيقي الواعي للقرآن والسنة، وذلك رغبة من وزيرنا ذي الهوى البودشيشي في إفساح المجال للزوايا والطرق كيتستميل الباحثين عن إشباع الجوانب الدينية والروحية والذين يتوجه أغلبهم إلى التيارات الإسلامية.
فهل هذا التدخل الرسمي في الزوايا هو لخدمة الدين والتدين؟
أم هو توظيف سياسي للدين حتى يتماشى مع مصالح الدولة والنظام وفق ما تقتضيه التحالفات الدولية لمحاربة التطرف والإرهاب كما تراهما أمريكا والغرب؟
إن اتخاذ إحياء التصوف ودعم الصوفية وإعادة صياغة الدور المنوط بالزوايا، استراتيجية لمحاربة السلفيين بجميع أطيافهم، والتضييق على ما يسميه الغرب إسلاما سياسيا، يطرح عدة تساؤلات على المفكرين والباحثين، فهل يمكن اعتبار ذلك من قبيل توارد الأفكار بين صناع القرارات السياسية في الغرب ومراكز دراستها، وبين وزير شؤوننا الإسلامية ومؤسساته؟
وهل من المعقول أن نرى السفير الأمريكي يقاسم المسلمين البودشيشيين احتفالاتهم مرفوقا بزوجته وأعوانه وحراسه؟
وكيف يمكننا أن نقرأ التحالف الرأسمالي الصوفي؟
أليس هو نفسه التوظيف السياسي للتصوف من طرف القوى الإمبريالية، من لدن نابليون إلى بوش وأوباما؟؟؟
ثم إننا لن نكون مجازفين -وإن كانت تعوزنا الأرقام-، إذا ما قلنا إن المال العام الذي يصرف على إحياء التصوف في المغرب وعلى خطة الوزير يفوق بكثير ميزانية إصلاح التعليم المغربي المفلس، فما الذي يستهوي وزير الأوقاف حتى يجعل من التصوف والزوايا أولوية وركيزة في «الإصلاح الديني» الذي ترومه خطته؟
فبالرجوع إلى خطبه واستجواباته وتصريحاته، ندرك الجواب، فوزير شأننا الإسلامي، يُعلم الرأي العام المرة تلو الأخرى أن مشروعه في تأهيل «الحقل الديني»، يتساوق فيه الديني والسياسي، وحتى لا يسأل عن حقيقة هذا التساوق، يجازف بقوة ويدعي أن كل قوانين المملكة لا تخالف الشريعة، وذلك حتى لا يضطره الباحثون المخلصون إلى تفسير التعارض بين المذهب المالكي -بوصفه هو أيضا ثابتا من الثوابت-، وما تتضمنه المنظومة القانونية من مخالفات للشريعة الإسلامية ومنها القمار والربا وبيع الخمور، ناهيك عن تطبيق الحدود الشرعية ومصادمة القانون الجنائي لها.
إن اختيار التصوف والصوفية وإحيائها، وإماتة السلفية والتضييق على مؤسساتها والتيارات الإسلامية، هو قرار فرضته رغبة التوفيق في أن يتساوق الإسلام «المغربي» -كما يراه هو، وليس كما هو تاريخيا- مع العلمانية التي تحكم قوانين المملكة، وتُفرض من الخارج بالترغيب والترهيب.
وإذا كانت وجهة نظرنا خاطئة فنلتمس من وزيرنا التوفيق أن يشرح لنا كيفية هذا التساوق على أرض الواقع، الذي يشهد أن السياسي هو الذي يسوق الديني إلى المقصلة العلمانية، حيث يبقى الدين جزء صغيرا من العلمانية، يشبع رغبة الأفراد من حيث هم أفراد، لا جماعة، وإن اجتمعت جثثهم على الشطح والذكر في زوايا ترفع الفرد عن الأرض، كما ترفع المشنقة المحكومَ عليه بالإعدام شنقا.
لقد فكر السيد الوزير، وقدر أن تلعب الزوايا دور المحنِّط لعقول الناس، فالعلمانية لا تقبل من الدين إلا أن يكون روحانيا فرديا، يسبح في فلك البحث عن الولاية بعيد عن رسالة الإسلام التي جاءت لتصلح الواقع وفق مراد الله وتحارب الفاسدين والمجرمين -الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل-، وذلك حتى يسهل على عباد الله الوصول إلى ولايته، وإحراز قربه سبحانه.
التكوين الأكاديمي للسيد الوزير يجعله مؤهلا بشكل كبير حتى يعيد صياغة «الإسلام المغربي» ليكون أداة مطواعة في يد «العلمانيين» الذين يشيدون بقرارات الوزير ويلقبونه بـ«مارثن لوثر» المغرب، الذي يعتبرونها حاسمة في الحد من تنامي الحضور القوي للتيارات الإسلامية، ومن تلك القرارات: تحييد المساجد، وعزل كل خطيب أو واعظ يخالف مفهوم التساوق بين الديني والسياسي، وعسكرة القيمين الدينيين، والحد من حرية الخطباء والوعاظ في إنتاج خطاب يوقظ الناس حتى يكونوا فاعلين في واقعهم لا منفعلين وفق ما تتطلبه «العلمانية التي دخلت المغرب المسلم السني» على مدافع ليوطي مهندس الاحتلال الفرنسي العلماني، وباني «الدولة الحديثة» على أنقاض الدولة الإسلامية، كما بنى الإنجليز والروس الدول الإسلامية مثل الإمارات لتكون حارسا للصهاينة وقاتلا للمسلمين في أوطانهم، ومحاربا لأي محاولة انعتاق لدولنا من قبضة الغرب ومؤسساته الإمبريالية المتوحشة الإرهابية.
إن التاريخ يخبرنا أن المقاومة في المغرب كانت سلفية وبدأت بمحاربة التصوف والزوايا التي كانت تبث في نفوس المغاربة أن الاحتلال قدرُنا، وعلينا أن نرضى بقدرنا، فكان أول ما اهتم به القادة المجاهدون المغاربة، هو التحذير من سلطة الزوايا الكهنوتية على النفوس، لجعل الناس أحرارا في معركة الدفاع عن الثوابت الدينية الحقة.
إن أسلافنا المغاربة كانوا واعين بخطورة الخرافة والبدع على العقل والسلوك، وإيمانا منهم بأن من يعتقد أن المقبور له تصرف في الكون يعطي الولد وينزل المطر، ومن يؤمن أن شيوخه يضرونه وينفعونه أحياء وأمواتا، لا يمكنه أن يقاتل الفرنسيين المعتدين، ولا أن يغير واقعه وفق مقتضيات دينه، عملوا على إيقاظ الناس بالخطبة والكتاب والوعظ، وتجشموا خطورة الوقوف في وجه الاحتلال، الأمر الذي جعل ليوطي يكره علماء القرويين، ويصرح بملء فيه: «لا أخاف على وضعيتنا إلا من أصحاب هذه الجلابيب والبرانس الذين يترددون على القرويين ليتحلق الطلبة حولهم، فيبثون فيهم من روحهم الإسلامية المتعصبة، قبل أن يلقنوهم دروسا في الشريعة الإسلامية»، (قدور الورطاسي؛ «ذكريات في الدراسة بفاس» ص:50).
وكان من هؤلاء الأفذاذ، الشيخُ المهضوم حقه محمد المكي الناصري حيث كتب في محاربة البدع والزوايا كتابا أسماه: «إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة»، الذي كان ثورة في زمانه، كتبه وقت ثورة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث كانت الشعوب الإسلامية تتململ لتلملم شعثها لمحاربة المحتل الغازي.
وحتى لا نتهم بالوهابية كعادة المخالفين من الصوفية والعلمانيين، نختم بمقتطف من كتاب الشيخ الناصري رحمه الله تعالى:
(ومنهم جماعات اتخذوا دين الله لهوا ولعبا، فجعلوا منه القيام والرقص حالة الذكر الجهري، ظانين أن ما يفعلونه من الرقص حالة الذكر عبادة، مع أن من ظن ذلك تجب عليه التوبة، فإن ناظر على ذلك، وقال: إنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى خالف الإجماع فيكون عاصيا آثما إن لم يكن كافرا، بناء على القول بتكفير مخالف الإجماع.
وكيف يعتقد من أودع الله فيه نور العقل أن الشطح وما شابهه مما يعبد الله به، مع تيقنه أن ذلك مجرد لهو ولعب.
متى علم الناس في ديننا***بأن الغِنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل الحما***ر ويرقص في الجمع حتى يقع
وقالوا سكرنا بحب الإلــ***ـه وما أسكر القوم إلا القصع
كذلك البهائم إن أُشبعت***يرقصها ريها والشبع
فيا للعقول ويا للنهى***ألا منكر منكم للبدع
تهان مساجدنا بالسماع***وتكرم عن مثل ذلك البيع
ومما يزيد الطين بلة، والطنبور نغمة، أنهم يخللون ذكر الله وقتئذ بإنشاد مدائح أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه سيد المتواضعين حتى لنفسه الشريفة، فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى لكن قولوا عبد الله ورسوله». ولا تسأل عن تغاليهم في الاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوهم إلى الكفر والزندقة والمروق من الدين، لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش هي قولهم: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك»، وهي كما ترى أخف شركا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادا بأصوات عالية مجتمعة، وقلوب محترقة خاشعة)*.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــ
(*) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة، الشيخ محمد المكي الناصري؛ دراسة وإعداد إدريس كرم؛ منشورات السبيل.
وفقك الله أستاذ إبراهيم لبيان الحق وثبتنا عليه
لا فُض فوك، تحليل أقرب إلى العقل بعيد عن السب والشتم، هذا المطلوب لتصحيح المفاهيم.
شكرًا للكاتب الأستاذ إبراهيم الطالب
يا أستاذ ابراهيم ان لا تميز بين المتصوفة و التصوف ! التصوف اسلام بمعنى التحقق بكل مراتب الاسلام بالشريعة .
ام مقولاتك فهي اغلبها خليط و تدليس لا تليق بباحث جدي.