الطب النبوي المفترى عليه
هوية بريس – د.محمد عوام
في هذه الأيام الكورونية اطلع علينا رجل عبر فيديو باليوتيوب، جمع بين الافتراء على السنة النبوية والطعن في رواتها، والازدراء لتراث الإسلام خاصة الفقهي منه، بحيث لا يستحيي أن يفتري على الفقهاء باتهامهم بأبشع الاتهامات التي لم يسبق إليها أحد. ثم طفق يكيل للطب النبوي معتبرا إياه من القاذورات المقززة.
ولم يكن لهذا الرجل أن يقع فيما وقع فيه، لو كان يمتح من منهج علمي رصين، ومنطق حكيم، واستدلال أصيل، وإنما سار على عادته في اختراع الأراجيف، وترويج الأباطيل، بحقد دفين، وكره أثيم. ونحن نتعقب تلك الأراجيف الباطلة، والاتهامات المخادعة بالنقض، حتى يعلم القارئ أن صاحبها بعيد عن العلمية والمنهجية وإن ادعاهما، فهما منه من مكان بعيد.
ونحن قبل الكرّ على هذه الأباطيل بالتعقبات، نود أن نقرر ما سبق لأئمة الإسلام العظام أن قرروه في شأن التصرفات النبوية، وهو من دقيق نظرهم في السنة النبوية، وعمق فهمهم لها، ولم يكن مقصودهم من ذلك سوى رفع الإشكال الذي قد يقع فيه بعض الناس في فهم السنة، فيعمدون إلى وضع بعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم في غير موضعها، فيفضي ذلك إلى سقم في الفهم، وخطل وزلل في العمل.
علماء الأمة وتصنيف تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم:
ولقد كان الإمام شهاب الدين القرافي رحمه الله من أوائل العلماء الذين فطنوا إلى هذا المسلك في التصرفات النبوية، فألمع إليه في (الْفَرْق السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ بِالْفَتْوَى وَهِيَ التَّبْلِيغُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَصَرُّفِهِ بِالْإِمَامَةِ).
قال رحمه الله: “اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْقَاضِي الْأَحْكَمُ، وَالْمُفْتِي الْأَعْلَمُ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإمَامُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ وَعَالِمُ الْعُلَمَاءِ، فَجَمِيعُ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ فَوَّضَهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي رِسَالَتِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَوَلَّى مَنْصِبًا مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَا مِنْ مَنْصِبٍ دِينِيٍّ إلَّا وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ فِي أَعْلَى رُتْبَةٍ؛ غَيْرَ أَنَّ غَالِبَ تَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّبْلِيغ،ِ لِأَنَّ وَصْفَ الرِّسَالَةِ غَالِبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَقَعُ تَصَرُّفَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يَكُونُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْفَتْوَى إجْمَاعًا، وَمِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ، وَمِنْهَا مَا يُجْمِعُ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ بِالْإِمَامَةِ، وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ فَصَاعِدًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ رُتْبَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ أُخْرَى؛ ثُمَّ تَصَرُّفَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَخْتَلِفُ آثَارُهَا فِي الشَّرِيعَةِ، فَكُلُّ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فَعَلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغ،ِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا عَلَى الثِّقْلَيْنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ أَقْدَمَ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ اجْتَنَبَهُ كُلُّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْدم عَلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَام،ِ اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِوَصْفِ الْإِمَامَةِ دُونَ التَّبْلِيغِ يَقْتَضِي ذَلِكَ،…”[1]
وقد عد ابن عاشور من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصرفاته الشريفة، اثني عشر حالا، منها ما ذكره القرافي، وزاد عليه، وهي كما قال: “التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد.” مقاصد الشريعة الإسلامية.
وقد قرر العلماء بناء على هذا التصنيف أن الحال الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو التبليغ والتشريع، لأنه المقصد الذي “لأجله بعثه الله، كما أشار إليه قوله تعالى: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ”[2]
فالذي يجهل هذا التصنيف، ولا يدرك هذه الأحوال السنية، والتصرفات النبوية، يتعذر عليه إدراك منزلة الطب النبوي منها، فهل هو تصرف بمحض التجربة النبوية المكتسبة، أم هو من قبيل الوحي الذي أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم هما معا، منه ما هو مكتسب ومنه ما هو وحي؟ وسيأتي بيانه فيما بعد.
آثار انعدام الرؤية المنهجية عند المفترين:
إن انعدام الرؤية المنهجية لدى المفترين، هو ما جعلهم يطوحون في خضخاض، فكان ردهم للطب النبوي، ووصفهم له بأبشع الأوصاف، ينِمُّ عن جهل فاحش يحول دون إمكانية الفهم للسنة النبوية، ثم ما الدافع ليشنُّوا حربهم في هذه الأيام الكورونية على الطب النبوي مع العلم أن لا أحد قال بالرجوع إلى الطب النبوي لمعالجة وباء كوفيد 19، لولا الحقد على السنة النبوية، ونحن نتعقب كلام الدعي المفتري فيما يلي:
أولا: ازدراء مبني على جهل وتعالم
استهل كلامه بقوله:”كل العقول في العالم تبذل قصارى جهدها لإنقاذ البشرية ولمواجهة هذه الأوبئة التي تهدد حياة البشرية، في هذا الوقت بالذات نجد العالم الإسلامي في عالم آخر، وفي حديث آخر، يستلهم من بعض النصوص التراثية الإسلامية حلولا لواقع ببعض النصوص التي مر عليها نحو أربعة عشر قرنا”.
هذا كلام باطل، وبطلانه من وجهين: الأول: أن العالم الإسلامي، بما أوتي من عقول وإمكانيات سخرها لمحاربة وباء كورونا، واتخذ في ذلك كل التدابير والإجراءات المتاحة والمتوفرة، وصاحبنا يجهل أن البشرية اليوم عجزت عن بكرة أبيها أن تجد حلا طبيا سريعا، بما فيه تلك الدول التي يتغنى بها من طرف خفي، فهي الآن عاجزة، إلى حد أن يلتجئ بعض مسؤوليها الذين لا يؤمنون لا بدين ولا بغيره، إلى التصريح بأن الحل الآن هو أن نتوجه إلى السماء، وهذا ما صرح به رئيس الوزراء الإيطالي، أما ترمب فقال بتخصيص يوم الأحد المنصرم للصلاة. إذن لا داعي للمزايدة على العالم الإسلامي.
ثانيا: تنكر من المفتري واعتراف من غير المسلمين
إن تلك النصوص التراثية الإسلامية، التي يتنكر لها هذا الرجل، ويقصد بذلك السنة النبوية الصحيحة، كما سبق أن صنع مع البخاري، هي التي ألهمت العالم الإسلامي ثم الغربي، أن يرجع إلى ما سمي بالحجر الصحي، ويفرضه على شعوبه فرضا بقوة القانون، وهذا ما أشاد به كتاب غربيون، (انظر مقال في مجلة نيوزويك: هكذا نجح النبي محمد بمواجهة الأوبئة، والمقال في أصله تغريدة مطولة للدكتور Craig Considine) وقد ذكر أن: “الحجر الصحي والعزل والنظافة الشخصية في سبيل مواجهة الأوبئة المعدية، كانت في الأصل قرارات الرسول محمد قبل 1400 سنة، رغم أنه لم يكن خبيرا في مثل تلك الأمراض”؛ ونقل صاحب المقال حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم في عدم مخالطة المصابين بأمراض معدية.
ولو رجع هذا المفتري إلى المصنفات التي اهتمت بالطب النبوي لوجد العجب العجاب، الذي لازالت البشرية اليوم تمتح من بعضه، منه هذا الذي سموه بالحجر الصحي، فقد ذكر العلامة عبد الحي الكتاني رحمه الله في (التراتيب الإدارية)أن ما سمي بالكرنتينة، قد أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فعقد لذلك بابا سماه (باب في أصل ما يعرف الآن في الإدارات الصحية بالكرنتينة) قال رحمه الله: “في الصحيحين وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها.” وقد رجع عمر بن الخطاب بسبب هذا الحديث لما خرج إلى الشام، وأخبر أن الوباء قد وقع بها وأن عمر حمد الله وانصرف.
قال ابن طرخان:”في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول للأرض التي حلها الطاعونفائدتان: أحداهما: لئلا يستنشقوا الهواء الذي قد عفا وفسد فيمرضون. والثانية: لئلا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فتتضاعف عليهم البلية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من القرف التلف. وفسر بأنه ملابسة الداء ومداناة المرضى. وبالجملة قوله: “لا تقدموا عليه” إثبات للحذر والنهي عن التعرض للتلف، وحديث أبي داود المذكور من حديث فروة بن مسيك قال: قلت يا رسول الله أرض عندنا يقال لها: أرض أبين (قرية إلى جانب البحر من ناحية اليمن) هي أرض ريفنا (كل أرض فيها زرع ونخل) وميرتنا (الطعام المجلوب من بلد إلى بلد) وإنها وبئة (كثيرة الوباء) أو قال: وباؤها شديد. فقال عليه السلام: دعها عنك فإن من القرف (ملابسة الداء ومداناة المرضى) التلف (الهلاك)؛ قال الخطابي وابن الأثير: ليس هذا من باب الطيرة والعدوى، وإنما هذا من باب الطب، لأن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان، وفساد الهواء من أضرها وأسرعها إلى إسقام البدن عند الأطباء، وكل ذلك بإذن الله ومشيئته اهـ.”[3]
ونحن نأسف أن يكون من بيننا من يطعن في السنة النبوية الشريفة وفي تراثنا، ويزدريها بأبشع العبارات المقززة التي تنم عن الحقد والكراهية، في الوقت الذي نرى فيه من هو في الضفة الأخرى يشيد به، وهذا ليس معناه تجميد عقولنا وحاسة النقد عندنا، ولكن أن ننتقد بموازين علمية وقواعد منهجية، لا أن نتكأ على ما تهواه النفس.
ثالثا: انعدام التحقيق والقذف بالدعاوى
زعم المتعالم أن “كتاب الطب النبوي لابن القيم الجوزية، الذي أخذه ولخصه عن كتابه (زاد المعاد) أول كتاب يتحدث عن الطب النبوي، في التاريخ الإسلامي، وأول من ابتدع وابتكر مسألة الطب النبوي وقدم النبي محمد الطبيب،…”.
وهذا ينم عن التسرع وعدم التحقيق، فابن القيم مسبوق بالتأليف في الطب النبوي، والدليل على ذلك ما يلي:
– مصنفات السنة أفردت الطب النبوي بكتاب، مثل كتاب الطب من صحيح البخاري، وسنن ابن ماجه، والترمذي، وأبي داود، والسنن الكبرى للبيهقي، وصحيح ابن حبان، وغير هؤلاء.
– كتب أفردت الطب النبوي بالتأليف قبل ابن القيم، منها كتاب الطب النبوي لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني (المتوفى: 430هـ)، وقد حققه مصطفى خضر دونمز التركي، ونشرته دار ابن حزم سنة 2006 م. وكتاب الأمراض والكفارات والطب والرقيات لضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى: 643هـ)، بتحقيق أبي إسحاق الحويني الأثري، وقد نشرته دار ابن عفان سنة1415ه، وهو في الطب النبوي وإن لم يحمل نفس العنوان لكن فهرسه دال على ذلك.
وذكر حاجي خليفة في (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) تصانيف في الطب النبوي، “لأبي العباس جعفر بن محمد المستغفري (المتوفى: سنة 432هـ) وكتب أبو الحسن: علي بن موسى الرضا للمأمون. رسالة مشتملة عليه. والحبيب النيسابوري جمعه أيضا.وابن السني، وعبد الملك بن حبيب.”[4] وذكر أيضا أن للحافظ جلال الدين السيوطي كتابا في الطب النبوي وهو الموسوم بـ(المنهج السوي، والمنهل الروي، في الطب النبوي)[5].
ومما وقفت عليه عند الشيخ محمد بن عبد الحي الكتاني رحمه الله، أن للإمام أبي الحسين علي بن مهذب الدين، الشهير بابن طرخان كتابا نفيسا في الطب النبوي سماه: (الأحكام النبوية في الصناعة الطبية). قال الكتاني في وصف الكتاب: “رتب ابن طرخان كتابه الطبي هذا على عشرة أبواب، وبناه على أربعين حديثا في الطب مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم.”[6] ثم طفق يبين أبواب الكتاب العشرة معلقا عليها بقوله:”وهو كتاب نادر الوجود كندورة ترجمة مؤلفه، وعندي منه نسخة قديمة بخط مشرقي، كتبت بمكتبة الناصرية بالشام، بقرب زمن مؤلفه، كنت ظفرت بها بالمدينة المنورة سنة زيارتي لها عام 1324.”[7]
كل هذا يعطينا فكرة عن مدى اهتمام العلماء بالطب النبوي، ولا نكون من المتقولين إن قلنا إن الطب النبوي، هو الانطلاقة الأولى للطب عند العرب قبل مرحلة التدوين، وهذا لا يعني أن علماء المسلمين اكتفوا به، من غير أن يطوروا معارفهم الطبية، ويبرعوا فيها، حتى صاروا فيما بعد قادة الطب في العالم، يشهد لهم بذلك، أن كتبهم أصبحت موردا ومنهلا للطب وتدريسه في أوروبا إلى حدود القرن التاسع عشر.
رابعا: غفلة عما دوَّنه المحققون وجهل بالخلاف بين العلماء
غفلته الفاحشة عما دونه المحققون من العلماء في الطب النبوي، هل هو وحي من الله إلى نبيه الكريم أم هو مما اكتسبه النبي صلى الله عليه وسلم من التجربة؟
وقد نص العلامة ابن خلدون رحمه الله في (المقدمة) على أنه من قبيل التجربة الموروثة لدى العرب، قال: “والطّبّ المنقول في الشّرعيّات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء وإنّما هو أمر كان عاديّا للعرب. ووقع في ذكر أحوال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من نوع ذكر أحواله الّتي هي عادة وجبلّة لا من جهة أنّ ذلك مشروع على ذلك النّحو من العمل.
فإنّه صلّى الله عليه وسلّم إنّما بعث ليعلّمنا الشّرائع ولم يبعث لتعريف الطّبّ ولا غيره من العاديّات. وقد وقع له في شأن تلقيح النّخل ما وقع فقال: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطّبّ الّذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنّه مشروع، فليس هناك ما يدلّ عليه اللَّهمّ إلّا إذا استعمل على جهة التّبرّك وصدق العقد الإيمانيّ فيكون له أثر عظيم في النّفع. وليس ذلك في الطّبّ المزاجيّ وإنّما هو من آثار الكلمة الإيمانيّة كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه والله الهادي إلى الصّواب لا ربّ سواه.”[8]
وهو الذي نصره العلامة ولي الله الدهلوي، فجعل الطب النبوي من قبيل ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وإنما هو متعلق بالأمور الدنيوية المستندة إلى التجربة الإنسانية، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا أَنا بشر إِذا أَمرتكُم بِشَيْء من دينكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذا أَمرتكُم بِشَيْء من رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنا بشر “وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قصَّة تأبير النّخل: ” فاني إِنَّمَا ظَنَنْت ظنا، وَلَا تؤاخذوني بِالظَّنِّ، وَلَكِن إِذا حدثتكم عَن الله شَيْئا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لم أكذب على الله ” فَمِنْهُ الطِّبّ..”[9]
وقد رجح ما جنح إليه ابن خلدون أيضا الشيخ يوسف القرضاوي، فقال: “وفي رأيي، أن جل الأحاديث المتعلقة بـ(الوصفات الطبية) وما في معناها، مثل الترغيب في نوع معين من الكحل، أو في لون معين من المأكولات، أو الملبوسات، ونحو ذلك، هي من هذا الباب -باب الإرشاد- الذي لا ينقص الثواب بتركه ولا يزيد بفعله.”[10]
ثم قال: “ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين -فيما أعلم- بأن ما جاء من وصفات علاجية معينة –مما صحت به الأحاديث- مأخوذ على عمومه وإطلاقه. بل هو – وإن ورد بلفظ عام في بعض الأحيان- مخصوص بمكانه وزمانه وحاله.”[11]
وقد سبق لابن القيم نفسه، بالرغم من اهتمامه وشغفه بالطب النبوي، أن قرر أن الأوامر الواردة في الطب النبوي، ليست على إطلاقها، بمعنى عامة لكل الناس، وإنما هي يراعى فيها اختلاف البيئات والأحوال، وفي ذلك يقول رحمه الله في سياقه حديثه عن عرق النَّسا، من جهة المعنى الطبي: “خاص بحسب هذه الأمور أو بعضها، وهذا من هذا القسم، فإن هذا خطاب للعرب، وأهل الحجاز، ومن جاورهم، ولاسيما أعراب البوادي،…”[12]
ولم يرتض العلامة محمد الكتاني مقالة ابن خلدون، واعتبرها مهاترة، ونقل عن العلامة الشيخ عبد الهادي الأبياري المصري متعقبا ما جنح إليه ابن خلدون بقوله في (سعود المطالع): “هذه هفوة لا ينبغي النظر إليها، كيف وقد قال عليه السلام للمبطون الذي أمره بشرب العسل، فلم ينجح، صدق الله وكذب بطنك.”[13]
ويبدو أن الخلاف يرجع في تحديد مقام التصرف النبوي في شأن الطب، هل هو من الخبرة والتجربة المكتسبة، أم هو مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث طبيبا، وإنما بعث مبلغا ورسولا، ومقتضى الرسالة، والذي جرى عليه في حياته عليه الصلاة والسلام، أنه كان يعلم الناس شرائع الإسلام، أما ماورد من الطب على لسانهعليه الصلاة والسلام، فيبدو أنه من قبيل التجربة المكتسبة، ومن باب أنتم أعلم بأمور دنياكم، لكن التجربة أثبتت نجاعته، فهل يمكن الاستعاضة عنه بما وصلت إليه الإنسانية اليوم من مختبرات دقيقة وأدوية فعالة، مع التمسك بالمبدأ الأصلي في السنة وهو التداوي، فهذا -مما لا شك فيه أيضا- له حظ من الاعتبار والنظر، وهو المطلوب.
ثم إن ابن خلدون لم ينف التبرك بالطب النبوي، “إذا استعمل على جهة التّبرّك وصدق العقد الإيمانيّ فيكون له أثر عظيم في النّفع” كما قال. إذن الخلاف كما قررت يرجع إلى تحديد التصرف النبوي في شأن الطب. والله أعلم وأحكم.
ثم إن المعترض على الطب النبوي بهذا المعنى التجريبي المكتسب، فإنما هو يعترض على التجربة الإنسانية المكتسبة والمتراكمة، والتي أثبتت صدقيتها وفاعليتها واستمرارها التجريبي، ونجاعتها في الشفاء، وهذا لا يليق بأولي الألباب أن يتمحلوه. وقد جرت العادة أن الناس لا يطمئنون في عالم الحس إلا إلى ما هو مجرب، فإذن فالطب النبوي إنما هو تزكية منه صلى الله عليه وسلم لما جرى عليه الناس، ثم لا يبعد عندي أن يكون بعض منه من قبيل ما أوحي به إليه صلى الله عليه وسلم، وهو قليل جدا، لربما يحتاج منا إلى دراسة الروايات، لا التسرع في ردها بمقتضى الهوى والتشهي.
خامسا: سخافة وقلة حياء وغياب للمنهج العلمي
لم يستح هذا المفتري من أن يصف بعض ما ورد في السنة على حد قوله السخيف: “مجموعة من القاذورات، خالية من الحس والذوق، وأيضا من العلم، خرافات وقاذورات تقدم على أنها العلاج باسم الله وباسم الرسول وباسم الدين الإسلامي”.
وهذا من أبطل البطلان، ودليل على أن صاحبه يفتقد المنهج العلمي، والحس الأخلاقي، والبعد الإيماني في التعامل مع السنة النبوية، فكان عليه قبل أن يحكم عليها بالقاذورات والخرافات أن يفيء إلى أولئك الفقهاء الفحول، الذين أشبعهم تسفيها وتحقيرا وازدراء، حتى يبينوا له كيفية فهم السنة، ومنها الأحاديث المتعلقة بالطب.
ونحن نذكر له ذلك المثال الذي أورده عن بول الإبل، فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي المَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ – يَعْنِي الإِبِلَ – فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الإِبِلَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ” فهل كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم إباحة للعرنيين في حالة الضرورة أم أن كلامه مطلق؟
هذه المسألة مما اختلف فيها الفقهاء وشراح الحديث، فمنهم من جعل ذلك في حالة الضرورة، وذهب إلى أنه لا يجوز التداوي بالنجاسة منها أبوال الإبل، وإنما رخص فيه للعرنيين لحالة الضرورة، ومنهم من عمم ذلك. فقد أورد الطحاوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا شِفَاءً لِذِرْبَةِ بُطُونِهِمْ» قَالُوا: فَفِي ذَلِكَ تَثْبِيتُ مَا وَصَفْنَا أَيْضًا. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا: أَبْوَالُ الْإِبِلِ نَجِسَةٌ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ دِمَائِهَا لَا حُكْمُ أَلْبَانِهَا وَلُحُومِهَا. وَقَالُوا: أَمَّا مَا رَوَيْتُمُوهُ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، فَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، لِأَنَّا قَدْ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ أُبِيحَتْ فِي الضَّرُورَاتِ، وَلَمْ تُبَحْ فِي غَيْرِ الضَّرُورَاتِ، وَرُوِيَتْ فِيهَا الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.”[14]
وقد نقل الطحاوي عن مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أنه قال: “وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَبَاحَ الْعِلَاجَ بِهَا لِلضَّرُورَةِ، لَا لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَلَا مُبَاحَةٌ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ.”[15]
قال ابن حجر في الفتح: “وَأَمَّا شُرْبُهُمْ الْبَوْلَ فَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ أَمَّا مِنَ الْإِبِلِ فَبِهَذَا الْحَدِيث،ِ وَأَمَّا مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَبِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ مِنَ السّلف وَوَافَقَهُمْ من الشَّافِعِيَّة بن خُزَيْمَة وبن الْمُنْذر وبن حبَان والاصطخريوَالرُّويَانِيّ؛ وَذهب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور إلى القول بِنَجَاسَةِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ كُلُّهَا مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيره، وَاحْتج بن الْمُنْذِرِ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الطَّهَارَةِ حَتَّى تَثْبُتَ النَّجَاسَةُ؛ قَالَ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا خَاص بأولئك الأقوام فَلم يُصِبْ إِذِ الْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ؛ قَالَ: وَفِي تَرْكِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْعَ النَّاسِ أَبْعَارَ الْغَنَمِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَاسْتِعْمَالَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فِي أَدْوِيَتِهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا؛ قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَا يَجِبُ إِنْكَارُهُ، فَلَا يَدُلُّ تَرْكُ إِنْكَارِهِ عَلَى جَوَازِهِ، فَضْلًا عَنْ طَهَارَتِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْأَبْوَالِ كُلِّهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، وَقَالَ بن الْعَرَبِيِّ: تَعَلَّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ، وَعُورِضُوا بِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ حَالَ ضَرُورَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، فَكَيْفَ يُبَاحُ الْحَرَامُ لِمَا لَا يَجِبُ؟ وَأُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ لَيْسَ حَالَ ضَرُورَةٍ بَلْ هُوَ حَالُ ضَرُورَةٍ إِذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى خَبَرِهِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ لَا يُسَمَّى حَرَامًا وَقْتَ تَنَاوُلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حرم عَلَيْكُم الا مَا اضطررتم إِلَيْهِ) الآية، فَمَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ.”[16]
سادسا: ختام وإلزام
مما وقفت عليه عند إمام الطب والفلسفة ابن سينا، أنه قد فصَّل القول في الأبوال تفصيلا عجيبا، ينِمُّ عن عمق كبير في التجربة الطبية، وقد شهد له بذلك العالم كلُّه، أفرد لذلك فصلا وهو:(فصل فِي بَوْل الدَّم والمدة وَالْبَوْل الغسالي والشعري وَمَا يشبه ذَلِك من الأبوال الغريبة)، ومما ورد عنده في شأن أبوال الإبل قوله: “أَنْفَع الأبوال بَوْل الْجمل الْأَعرَابِي وَهُوَ النجيب…وَبَوْل الْإِبِل ينفع من الحزاز غسلا بِهِ وَكَذَلِكَ الثور. الْجراح والقروح: بَوْل الْحمار للقروح الساعية والرطبة،…”[17]
ومعنى هذا أن التجربة أثبتت لابن سينا نجاعة بعض الأبوال في علاج بعض الأمراض، ولم يكتف ببول الإبل، بل زاد حتى بول الحمار والثور، فهل بإمكان صاحبنا أن يصف ابن سينا، وهو الفيلسوف العقلاني والطبيب المبرز، بالتخلف وأن طبه من القاذورات؟ أم أن الحقد والكراهية للسنة النبوية وللفقهاء تجعله يغض الطرف عما صار تجربة عند الأمم والشعوب؟ ثم لماذا يتجاهل هذا الدعي ما كشف عنه العلم الحديث من إعجاز في الطب النبوي؟ فهلا رجع إلى المتخصصين في ذلك ليطلعوه على البحوث المخبرية؟ ثم فليحكم بعدها، ولكن أنى للذهن الكليل أن يحط بكلكله على الألمعي الأصيل.
وصفوة القول أننا أمام هجمة شرسة على السنة النبوية الشريفة، تطلع علينا كل مرة في صورة وفي موضوع معين، وبأساليب خبيثة ماكرة، تدعي المعرفة العلمية والمنهجية، ولكن حقيقة أمرها أنها طعن في السنة، والطاعن في السنة طاعن في القرآن لا محالة، فبه أمرنا باتباع السنة والتمسك بها، والاهتداء بهديها، فلا إيمان بالقرآن إلا بالإيمان بالسنة، قال تعالى: “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب” وقال سبحانه وتعالى: “يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية 30.
[3] التراتيب الإدارية 1/671،672.
[4] كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/1095.
[5]المرجع نفسه 2/1882.
[10]السنة مصدرا للمعرفة والحضارة 66.
[11] المرجع نفسه 68.
[12] الطب النبوي
[13] التراتيب الإدارية 417،418.
[14]شرح معاني الآثار 1/ 108.
[15]المرجع نفسه1/110.
[16]فتح الباري لابن حجر 1/ 339.
[17]القانون في الطب 1/412.[17]