الطُّوطَوية

الطُّوطَوية
هوية بريس – حميد بن خيبش
أثار (طوطو) ضجة في الإعلام الفرنسي بعد أن صدر قرار يقضي باتخاذ إجراءات القتل الرحيم في حقه. غير أن محكمة الاستئناف بمدينة دواي Douaiأيدت قبل سنة حكما صادرا عن المحكمة الابتدائية بإلغاء قرار التصفية.
أفلت طوطو من الموت مرتين، الأولى حين أنقذته عائلة فرنسية من رصاص القناصة، والثانية بعد أن تدخلت جمعيات حقوقية وبيئية لوقف إجراءات التخلص من خنزير بري، قد يكون حاملا لفيروس داء الكلب.
طوطو الذي حظي بهذا الاسم تيمنا ببطل فيلم Va, TOTO! للمخرج الفرنسي بيير كريتون- الفيلم يحكي قصة خنزير بري هرب من بنادق القناصة في ريف النورماندي لتحتضنه العجوز مادلين- ارتقت به جماعات حقوق الحيوان إلى مرتبة رمزية، حيث تجمع العشرات من نشطائها لدعم طوطو في محنته، وتمكينه من العودة إلى حياته الطبيعية، وأداء مهامه النبيلة في إفساد المحاصيل، وإهلاك الحرث والنسل.
في الضفة الأخرى من المتوسط سيواصل طوطو إثارة ضجيج إعلامي يتراوح بين التنديد وتقديم شكاوى قضائية. لا يتعلق الأمر هنا بكائن من ذوات الأربع، وإنما بمغني راب مغربي يمشي على رجلين، ويصر على أن يغني وهو يدافع الأخبثين.
خلال حفلاته الأخيرة بمدينتي الرباط وقنيطرة، قدم طوطو عرضا خادشا للحياء ومسيئا للأخلاق العامة. كلمات ساقطة، وعبارات تنحت من القبح اليومي والبذاءة رسالة الفن الذي يُراد للجيل الحالي أن يتربى عليه. ورغم أن لطوطو سوابق في فعاليات مماثلة، إلا أن الجهات الوصية على الذوق العام لا ترى بأسا من إثارة جماليات القبح، وتعريض المواطن للأشعة تحت الحمراء التي تحسّن تدفق الدم وتخفف آلام المفاصل!
بين الحادثتين أواصر مشتركة تسهم في تشكيل ما يمكن أن نعتبره رباطا روحيا بين جماعة إنسانية وموضوع أخلاقي هو القبح. وإذا كانت الطوطمية، كما حددها إميل دوركايم، تقوم على العلاقة بين الإنسان وموضوع طبيعي، قد يكون طائرا أو حيوانا أو ظاهرة طبيعية، فإن الطوطوية تجسد لنفس الارتباط لكن مع القبح والشر والبذاءة.
للقبح بُعده الفلسفي رغم أن الفلاسفة تجاهلوه لفترة طويلة، واستبعدته الدراسات الاجتماعية والنفسية والجمالية قبل أن ينتبه الفكر المعاصر إلى أهميته في الآونة الأخيرة، باعتباره مُقابلا للجمال من جهة، وضحية للتصورات الخاطئة التي تقرنه بالشر والخطيئة والجنون.
إن حاجة الإنسان إلى الجمال لا تقل عن حاجته الأخرى لضرورات العيش. لكن، يتساءل بعض الباحثين، لماذا نختزل الجمال فقط في وردة متفتحة، أو في وجه حسن، أو في منظر طبيعي بهيج؟ ألا ينبغي البحث أيضا عن الجمال في وردة ذابلة، وفي جسد عار، وفي حريق يلتهم الغابة؟
على هذا الأساس يتصدى الفكر المعاصر للعلاقة بين الجمالي والأخلاقي، ويترك للإنسان حرية استنطاق الجمال في المادة والشكل والكلمة والسلوك، دون أي تحيز أخلاقي مسبق. وأتاحت موجة الحقوق والحريات الجديدة فرصة ذهبية لمن يرغب في تحرير القبح الذي بداخله، وعرض قيمته الجمالية التي تجاهلتها العقائد والفلسفات القديمة، عملا بمقولة الكاتبة الأمريكية دوروثي باركر: الجمال مجرد طبقة خارجية، أما القبح فيكون متوغلا حتى العظام!
غير أن الطوطوية وأتباعها يؤمنون بأن تخوم القبح لامتناهية، وأن المعايير الأخلاقية والاجتماعية غير قادرة على الارتقاء بالمجتمع الإنساني مادامت تستهدف عزل القبح ونقده والتحريض عليه. لذا صارت الفضيلة، وهي الحد الأدنى من الأخلاق الذي لا يستمر مجتمع بدونه، مجرد قشرة جمالية وأخلاقية، تحدّ من قدرة القبح على تغيير الواقع وتصحيح الوضع الإنساني. يقول الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي بنيديتو كروتشه:” إذا وجدنا في نص الفنان تعبيرا عن القبح أو انحطاطا أخلاقيا، فلا يجب مؤاخذته على ذلك، بل يجب تغيير الواقع الذي يكتنف الفنان، مادام القبح سائدا في الواقع”.
ما تتجاهله الطوطوية في مشاريعها القُبحية، هو المرجعية التي تحتكم إليها بعض المجتمعات في سلوك أفرادها، ومواقفهم إزاء التقلبات القيمية التي يشهدها العالم بأسره. وهي مرجعية لا تحتكم إلى عقل بشري نسبي ومتقلب، بقدر ما تحتكم إلى وحي سماوي أرسى لها نظاما أخلاقيا، يتحدد بموجبه الشر والخير، والقبح والجمال، بمعزل عن أهواء البشر!
حسب آخر الأخبار فإن طوطو هرب إلى فرنسا تجنبا للملاحقة القضائية. ووجه رسالة إلى منتقديه بأنه غير مكترث، وأنه مستمر في تفجير جماليات قُبحه دفاعا عن الطوطوية. فهل هي فرصة ثمينة لتقريب وجهات النظر؟



