الظهير البربري بين عمق الأعراف الأمازيغية والتوظيف الاستعماري: قراءة نقدية في السياق والدلالات

الظهير البربري بين عمق الأعراف الأمازيغية والتوظيف الاستعماري: قراءة نقدية في السياق والدلالات
هوية بريس – عبد السلام بامعروف
يعد الظهير البربري الصادر في 16 ماي 1930 من أكثر الوثائق إثارة للجدل في التاريخ القانوني والسياسي للمغرب المعاصر، إذ تباينت القراءات حول طبيعته وأهدافه، بين من يراه مجرد إجراء إداري يقر بالأعراف المحلية، وبين من يعتبره حلقة من حلقات المشروع الاستعماري الفرنسي الرامي إلى تفكيك وحدة البلاد. ولعل التناول الأكاديمي الجاد لهذا الظهير يقتضي فصله عن القراءات الأيديولوجية المبسطة، عبر تفكيك السياق التاريخي والسياسي الذي أُنتج فيه، دون السقوط في اختزالٍ يصادر إما الذاكرة القانونية الأمازيغية، أو يجمل الوجه الاستعماري للظهير.
لقد جاء الظهير البربري في سياق خضوع المغرب للحماية الفرنسية، حيث كانت الإقامة العامة في ذروة نفوذها السياسي والإداري، تشرف على إعادة تشكيل الدولة والمجتمع وفق منطق استعماري قائم على التفكيك والتمييز. وقد ظهر جليًّا أن الإدارة الاستعمارية عمدت إلى إحياء الأعراف الأمازيغية، لا في سياق تقدير حقيقي للخصوصية الثقافية، بل كجزء من سياسة “فرّق تسد“، التي تهدف إلى إنتاج ثنائية عرقية وقانونية تفصل بين “العرب الخاضعين للشريعة” و”البربر الخاضعين للعرف“، ما يعني عمليًا تقسيم المجتمع المغربي إلى دوائر نفوذ متمايزة، وتفتيت بنيته القانونية والثقافية.
إن الاعتماد على العرف الأمازيغي في المناطق الجبلية لم يكن مستجدًا، بل هو ممارسة ضاربة في جذور التاريخ المغربي، شكّلت نظامًا قانونيًا محليًا متكاملاً يعرف بـ”أزرف“، له مشرّعوه (إنفلاس)، وسلطته التنفيذية (أمغار)، وقضاته الذين يجمعون بين المعرفة الفقهية وإعمال الأعراف. هذا العرف لم يكن في تعارض مع الدين الإسلامي، بل كان يكيف الأحكام الشرعية وفق السياقات المحلية، ويعتمد أحيانًا على التيسير والرحمة، مثل استبدال القصاص بالنفي أو التعويض المالي، بما يحافظ على تماسك الجماعة القبلية. كما أنتجت المجتمعات الأمازيغية مؤسسات دينية وتعليمية عريقة، من زوايا، وجوامع، ومدارس قرآنية، ما يؤكد عمق التديّن المحلي، واندماج العرف في بنية إسلامية أصيلة، لا في قطيعة معها.
لكن الإشكال لا يكمن في وجود هذا العرف أو مشروعيته، بل في توظيفه من قبل سلطة استعمارية سعت إلى استثماره لإنتاج “أمازيغية كولونيالية“، تصوّر الأمازيغ كجماعة إثنية منفصلة عن العرب والمسلمين، تستحق قانونًا خاصًا، ومحاكم خاصة، بل وتعليمًا خاصًا بلغة مغايرة. هذا المشروع لم يكن عفو الخاطر، بل تم تنظيره من قبل باحثين وضباط استعماريين ضمن ما يُعرف بـ الأنثروبولوجيا الكولونيالية، نذكر منهم: ”روبير مونتاني”، و”هنري ترينيا”، حيث سعوا إلى دراسة المجتمع الأمازيغي وتصويره ككيان “غير متعرب” و”غير مسلم بشكل كامل“، بل كمجتمع “طبيعي“، أقرب إلى النموذج الأوروبي في التنظيم القروي، ما يبرر – بحسبهم – إخضاعه لقانون “وضعي” أو “عرفي“، مختلف عن الشريعة الإسلامية و إدماجهم في النظام القانوني الفرنسي، دون المرور عبر المنظومة الإسلامية المعتمدة في باقي مناطق المغرب.
بل إن رسائل وتقارير الإقامة العامة بين 1913 و1930 تظهر بوضوح أن الهدف من إعادة تفعيل القضاء العرفي في المناطق الأمازيغية لم يكن احترامًا لخصوصية ثقافية، بل كان جزءًا من استراتيجية “فرق تسد”، تهدف إلى خلق قطيعة نفسية وقانونية بين مكونات الشعب المغربي، وتقويض وحدة البلاد الفكرية والسياسية. وقد تم دعم ذلك بإدماج المناطق الأمازيغية في نظام المحاكم الفرنسية، بما يُتيح إخراجها من سلطة “القضاء الإسلامي” المركزي. لذلك، لم يكن الخلاف حول العرف بحد ذاته، بل حول الجهة التي توظّفه ولماذا.
هذا السياق يفسر لماذا فجّر الظهير البربري موجة احتجاجات غير مسبوقة، شملت علماء القرويين، والنخب الحضرية، وحركات وطنية وليدة، عبّرت عن رفضها لهذا التقسيم القانوني الجديد، الذي لا يُهدد فقط وحدة البلاد، بل يُمهّد لنزع الهوية الإسلامية عن جزء من المجتمع المغربي. لقد فُهم أن الظهير لا يقر عرفًا محليًا بقدر ما يسعى إلى هندسة اجتماعية استعمارية، تزرع بذور التفرقة والانقسام، وهو ما أثبتته سنوات لاحقة، حيث سعت فرنسا إلى توسيع الهوة بين “البربر” و”العرب“، وتمييزهم حتى في البرامج التعليمية والإدارية، في محاولة لبناء مغرب مزدوج الهوية، يمكن السيطرة عليه بأسهل الطرق.
وبذلك، فإن الدفاع المطلق عن الظهير على أساس كونه نصًا سلطانيًا يُعبّر عن احترام الخصوصية المحلية، يُغفل تمامًا الشروط السياسية التي فُرض فيها، ويُساهم في تبرئة المشروع الكولونيالي من أحد أخطر مشاريعه في شمال إفريقيا.
صحيح أن ”الظهير البربري (16 ماي 1930)’‘ قد صِيغ شكليًا كوثيقة سلطانية، لكنه جاء في سياق استعماري واضح ومقصود، لم يكن فيه السلطان يمارس سلطته السيادية كاملة، بل كان يتحرك تحت وطأة الإقامة العامة الفرنسية، التي كانت في أوج نفوذها. ما يدعم هذا الطرح هو أن فرنسا، ومنذ بداية احتلالها للمغرب (1912)، ”اتبعت سياسة تمييزية واضحة” تقوم على تقسيم المجتمع المغربي إلى كيانات إثنية وقانونية: عرب مقابل بربر، مدن مقابل قبائل، شرع إسلامي مقابل عرف محلي.
كما أن رفض الظهير لا يجب أن يُفهم بوصفه طعنًا في الثقافة الأمازيغية أو في شرعية عرفها، بل هو رفض لتسليع هذه الثقافة وتحويلها إلى أداة استعمارية لتفتيت الوطن.
بالتالي، لا يمكن قراءة الظهير البربري خارج سياقه الاستعماري، حتى لو كان يحتوي في مضمونه على إقرار للعرف الأمازيغي، الذي هو في ذاته جزء من الهوية المغربية. إن المشكلة ليست في “أزرف” ولا في “أوزّوك“، بل في الطريقة التي تم بها تسييس هذه الأعراف، وتحويلها إلى أدوات لتفكيك البنية القانونية الموحدة للبلاد.
بعبارة دقيقة: الظهير البربري لم يكن اعترافًا بالعرف، بل كان تسييسًا للعرف لخدمة مشروع استعماري.
ولا ينفي هذا – في المقابل – أن العرف الأمازيغي يمتلك شرعية تاريخية وعمقًا قانونيًا، لكنه كان ضحية التوظيف الكولونيالي، تمامًا كما حدث مع اللغة، الدين، والاقتصاد في كل المستعمرات. ما فعله الاستعمار هو أنه استخدم عناصر القوة في الثقافة الأمازيغية، وأعاد توجيهها بما يخدم تجزئة البلاد وتفكيك الهوية الجامعة.
لذا، أي دفاع عن الظهير البربري ينبغي أن يكون واعياً بهذا التوظيف الاستعماري، لا أن يُحوّل النقاش إلى صراع هويات مغلوط. فالتصدي للمشروع الاستعماري لا يعني رفض المكونات الثقافية للمجتمع، بل العكس، يعني تحريرها من الاستغلال السياسي.
في المحصلة، فإن قراءة الظهير البربري يجب أن تنطلق من تفكيك سياقه التاريخي والسياسي، لا من بنيته النصية فقط. إنه وثيقة استُخدمت لتكريس التقسيم، وليس لتكريس الخصوصية. وإن مقاومته لم تكن مقاومة للأمازيغية، بل مقاومة للاستعمار الذي أراد استخدام الأمازيغية ضد المغرب نفسه. وبين عمق الأعراف وذكاء الاستعمار، يبقى الوعي النقدي هو السبيل لفهم ما جرى، وتجاوز ما فُرض، وبناء ما يُراد: وحدة في التنوع، وهوية تحترم مكوناتها دون أن تُستعمل ضد ذاتها.



