العالم الافتراضي وآفاق المثاقفة
هوية بريس – ذ.لحسن أيت قاسي
لا يختلف اثنان في أن العالم الافتراضي يعرف إقبالا متزايدا في نسب الولوج، إذ أصبح ملاذا لكل متعطش للمعلومة بمختلف تلاوينها، سواء الثقافية منها أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، إنه ذاك العالم الذي حلت فيه القيم الكونية الشمولية محل القيم الخصوصية المحلية سواء بفعل “المثاقفة” أي ذاك التبادل الثقافي المتكافئ الذي تغلب عليه سمة التسامح و احترام الآخر و تقبل الاختلاف، أو بفعل “التثاقف” أي التلاقح القسري بين الثقافة المهيمنة كطرف فاعل مؤثر لامتلاكها كل وسائل صناعة المحتوى و تسويقه وكذا وسائل الإنتاج بالتعبير الاقتصادي الرأسمالي، وطرف آخر مستلب مهيمن (بفتح الميم) عليه يمارس عليه كل أنواع العنف الرمزي عبر المعلومة، وسنفصل في عرض الفروق الموجودة بين المفهومين و التحديات التي يطرحانها.
– فماذا نعني بالعالم الافتراضي وما حدود تأثيره في الثقافة؟
– ما الفرق بين التثاقف والمثاقفة وما مفهوم الثقافة باعتبارها الجذر؟
– ما طبيعة التحديات التي يطرحها التبادل الثقافي في العالم الافتراضي؟
من المؤهلات والمهارت التي لا غنى عنها بالنسبة لإنسان القرن الواحد و العشرين مهارة الاستعمال الإيجابي والفعال لوسائل الاتصال الحديثة وفي مقدمتها الشبكة العنكبوتية، نظرا لإقتحامها بشكل ملفت لحومة مجتمعاتنا، إذ لم تترك لنا أي خيار غير اللحاق بركب المبحرين في هذا العالم المسمى تجاوزا بالافتراضي (virtual world) والذي عرفته موسوعة ويكيبيديا بأنه محاكاة حاسوبية عادة ما تكون في صورة بيئة ثنائية أو ثلاثية الأبعاد.
وهذا العالم بالطبع يلجه مستخدمين بشخصيات توصف بالافتراضية تتعامل مع تلك البيئة الرقمية بكل ما تستلزمه من مقومات كالدقة والمرونة والانفتاح، وبالتالي فهامش التبادل والتواصل في هذا الفضاء يكون واسعا، والحديث هنا عن أشخاص هو حديث بالضرورة عن ثقافات، ونعني بالثقافة في هذا السياق مختلف جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة، ويشترك أعضاء المجتمع بعناصر الثقافة تلك التي تتيح لهم مجالات التعاون والتواصل. وتمثل هذه العناصر السياق الذي يعيش فيه أفراد المجتمع، وتتألف ثقافة المجتمع في جوانب مضمرة غير عيانية مثل المعتقدات والآراء والقيم التي تشكل المضمون الجوهري للثقافة، ومن جوانب عيانية ملموسة مثل: الأشياء، والرموز وغيرها*. ولو أردنا أن نوجز ونجمل في إعطاء تعريف جامع لهذا المفهوم المتشعب والعصي على الاحتواء لقلنا إن الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يحيط بالإنسان بكل أبعاده الأنتروبولوجية والذي من خلاله يحقق هذا الإنسان ذاته. أما مفهومي التثاقف والمثاقفة والمشتقين من الثقافة فيحيلنا الأول (التثاقف) على تلك العلاقة التي تجمع بين ثقافتي العبد والسيد وهي أيضا العلاقة التي تجمع بين ثقافة الإنسان المستعمر(بكسر الميم) وثقافة المستعمر( بفتح الميم) أي في نهاية الأمر العلاقة التي تربط بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، وهذه العلاقة العمودية بين هذين المتناقضين؛ يكرسها الطرف الأقوى عبر ترسانته الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية*.
أما مفهوم المثاقفة فيحيلنا على تلك العلاقة الودية الأفقية التي تحكي عن حاجة الإنسان الطبيعية للاحتكاك والتبادل مع الأخر دون دافع غريزي أو ايديولوجي للهيمنة عليه، بل تكتنف هده العلاقة مجموعة من القيم من قبيل الاحترام والتسامح والاعتراف بخصوصية الآخر واختلافه. بعد هذا البسط المفاهيمي يتحتم علينا إيضاح طبيعة التحديات التي تطرحها الثقافة في العالم الافتراضي.
إن الحديث عن الثقافة في العصر الراهن هو حديث عن موضوع شائك و بالغ التركيب، و يزداد تركيبه عند ربطه بوسائل التواصل الحديثة و لإيضاح ما يطرحه من تحديات لابد من وقفة مع النسب المهولة لمستخدمي الشبكة العنكبوتية حول العالم إذ كشف تقرير أمريكي أن هذه النسبة تجاوزت 3,8 مليار شخص سنة 2018 متجاوزا بذلك نصف سكان الكوكب، و أضاف تقرير”bond internet trends” الصادر عن شركة “بيركينس كوفيلد” و”بيرس” الأمريكيتين أن عدد المستخدمين عرف ارتفاعا بنسبة 6% مقارنة بالعام 2017، وفي ذات السياق تربعت الصين في المركز الأول في عدد المستخدمين حيث بلغت %21 تلتها الهند ب %12، والولايات المتحدة ب %8، ومن تم فالإمعان في هذه النسب المهولة لمستخدمي العالم الافتراضي تحيلنا على مدى اقتحام المد الرقمي للثقافات والشعوب على نطاق واسع، وأضحى المجال الأبرز لكل أشكال التدافع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والغلبة في هذا المضمار تكون من نصيب الاكثر إنتاجا و تسويقا لمؤهلاته فهذا التدافع تجاوز كل الحدود في التعامل مع ثقافة وقيم الآخر، لاسيما إذا كان هذا الآخر هو العالم الثالث الذي طالما كان رمزا للاستلاب في شتى المجالات، ولا أسعى هنا لإعادة إنتاج اطروحة الصراع بين الدول على خلفية دينية أو حضارية فقط كما ذهبت إلى ذلك العديد من الدراسات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أطروحة صراع الحضارات لصامويل هانتغتون، إنما الصراع يحتمل تأويلات أخرى لا نملك فيها خيار تغييب إرادة الهيمنة الاقتصادية كعامل مركزي في هذا الصراع الذي تغاضى عنه هانتنغتون بحصره لمحركات الصراع في حقبة النظام العالمي الجديد في عوامل حضارية ودينية محضة. إن الحديث في موضوع الثقافة في العالم الرقمي حسب تقديرنا هو حديث عن طرفين، طرف مهيمن يمرر قيمه وثقافته بكل السبل الممكنة بغض النظر عن مكنون هذه القيم و ماهيتها، على حساب طرف آخر مستهلك لا يملك أمامه أي خيار آخر غير استقبال ما يصرفه الطرف الأول، ما يجعله مطرحا للثقافات المهجنة بداية بتنميط الاذواق و المأسسة لنظام التفاهة -بتعبير آلان دونو- من خلال تصريفه لثقافة منحطة، و انتهاء باستباحة الخصوصية الثقافية للدول و الشعوب تحت غطاء العولمة والانفتاح، فكما قال الزعيم الهندي الماهاتما غاندي “لا بأس إن فتحت النوافذ لتدخل الرياح الأجنبية شريطة ألا تقتلعني من جذوري”.
هوامش
*كتاب علم الإجتماع/ انتوني غدنز ترجمة و تقديم فايز الصياغ
د.سمير بشة أستاذ و محاضر في الفنون *