العالم بعد كورونا.. من ينتصر الصين أم أمريكا، ولماذا قد يصبح العرب أكبر الخاسرين؟
هوية بريس – متابعات
شكل العالم بعد كورونا سيكون مختلفاً على الأرجح عما قبل كورونا، وللأسف فإن العالم العربي قد يكون واحدة من أكثر المناطق التي ستدفع كلفة الجائحة رغم أنها ليست الأكثر تأثراً بتفشي الفيروس.
ومن الواضح أن الجائحة والتعامل المحلي والدولي معها سيكون لهما آثار مدوية لم نتوقعها هذا العقد، حسبما يرى مركز ستراتفور الأمريكي للدراسات الأمنية والاستراتيجية في توقعاته لهذا العقد في الوقت التي نشرتها مجلة National Interest الأمريكية وترجمها “عربي بوست”.
شكل العالم بعد كورونا سيكون مختلفاً، ولكن هذا التغيير بدأ قبل فترة من الزمن
في الوقت الحالي، يبدو أن جائحة كوفيد-19 هي محور تركيز النظام الدولي الوحيد، الحدث المأساوي الذي لم يتوقعه أحد والذي تجاوز جميع الأولويات الأخرى ويهيمن على العواصم والمراكز المالية ونشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي.
ولكن حتى الاكتفاء بإلقاء نظرة خاطفة يُظهر أن الفيروس لم يغيِّر من الجغرافيا السياسية.
ويمكن القول إن الفيروس قد سرع من تغييرات قد بدأت في الأصل قبل ظهوره؛ إذ تستمر المواجهة بين الصين والولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي، وما تزال المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ماضيين في طريق التفاوض على شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولم تتوقف الحروب والتمرد والإرهاب، ولم تنجح المؤسسات العالمية في التفوق على المبادرات الوطنية.
كوفيد 19 سيكون أكثر تأثيراً من الإنفلونزا الإسبانية التي قتلت الملايين
وإذا عدنا إلى الوراء، وتحديداً قبل أكثر من قرن بقليل، سنجد أن ثمة جائحة أخرى ضربت العالم، وعبرت المحيطات، وأدت إلى فرض الحجر الصحي على المستوى المحلي وتدهور الاقتصاد؛ إذ تفشت جائحة إنفلونزا عام 1918، المعروفة أيضاً باسم الإنفلونزا الإسبانية، في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، وانتشرت سريعاً عن طريق حركة القوات دخولاً وخروجاً من مسرح المعركة. وأدى تأثير هذا الوباء إلى تفاقم الخسائر البشرية والاقتصادية للصراع العالمي، ولكنه لم يفعل الكثير لوقف التوجه الشامل لترسيخ فكرة أن الدولة القومية هي محور النظام الدولي. ورغم الجهود المبذولة لإنشاء عصبة الأمم للإشراف على عالم مترابط، خرج الأوروبيون بحل للسلام وضع الأساس للحرب المقبلة، والتمس الأمريكيون العزاء في قارتهم المحمية.
ومن المرجح أن يثبت أن جائحة كوفيد-19، على الأقل في التقديرات الحالية، أقل فتكاً من إنفلونزا 1918، ولكن تبين بالفعل أنها أشد ضرراً على الاقتصاد. إذ لم تؤدِ إنفلونزا عام 1918 إلا إلى إطالة أزمة اقتصادية أثارتها سنوات من الحرب العالمية، وكان العالم أقل ارتباطاً في ذلك الوقت.
أما جائحة كوفيد-19 فظهرت في عالم مترابط بدرجة ربما كان من الصعب تصورها قبل قرن من الزمان. وجاءت في خضم التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي كانت تختبر حدود العولمة المبالغ فيها، وهو ما أثار التساؤلات مجدداً حول مستقبل القوة في العالم. وجاءت في وقت كانت فيه أوروبا ما تزال تحاول التكيف مع التداعيات الاجتماعية والسياسية لأزمة ديونها، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود الحركات السياسية ذات الميول اليمينية. وجاءت في الوقت الذي كانت فيه المنافسة العالمية على التكنولوجيا، وخاصة أنظمة المعلومات، توشك أن تتحول إلى أزمة وتهدد الاتصال العالمي.
وكما هو الحال مع الأزمات العالمية والمحلية السابقة، فإن كوفيد-19 والاستجابة العالمية في حد ذاتها لن تقلب النظام رأساً على عقب. لكنها ستزيد من سرعة بعض الأنماط وستعطل أخرى، وفي النهاية ستكشف عن الضغوط ونقاط القوة الجيوسياسية العميقة التي تشكل النظام العالمي.
هل “ستفوز” الصين بحرب كورونا؟
منذ البداية، شاع السؤال عما إذا ستعزز أزمة كوفيد- 19 قبضة الحزب الشيوعي على الصين أم ستزعزعها، وتحديداً عن تأثيرها على سلطة الرئيس الصيني والأمين العام للحزب شي جين بينغ. وكان لهذا السؤال مغزى أكبر: هل ستؤدي هذه الأزمة إلى تسريع “صعود” الصين أم إبطائه، وهل ستشهد اكتساب الصين لقوة مشابهة للولايات المتحدة أم خسارتها؟
إن كاهل القيادة الصينية مثقل بأعباء كثيرة بالفعل من محاولتها إعادة تشكيل الاقتصاد الصيني؛ والاحتجاجات في هونغ كونغ؛ وتجدد المشاعر المعادية للصين في تايوان؛ إلى الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري الممنهج الذي تمارسه الولايات المتحدة عليها حتى قبل تفشي الفيروس. وفضلاً عن ذلك، قد يكون توطيد السلطة في عهد شي لتسهيل إعادة الهيكلة الاقتصادية والتحول إلى القومية لتوحيد البلاد قد منح الرئيس الصيني التمكين، لكنه زاد أيضاً من مسؤوليته عن الإخفاقات.
وقد شهدت الصين تباطؤاً أو تدهوراً هائلاً في نمو اقتصادها في الربع الأول من العام، وهي تخرج من أخطر أزماتها في الوقت الذي يدخل فيه بقية العالم إليها، لكن هذا الأخير سيقلل الطلب على المنتجات الصينية.
وستواجه الصين مشكلات اقتصادية حادة حتى نهاية العام على الأقل، إن لم يكن بعده أيضاً. ونحن نترقب العلامات على وقوع مشكلات في قطاع الظل المصرفي الصيني وقوة الضربة التي ستلحق بالمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم، التي توظف عدداً أكبر من السكان لكن إمكانية حصولها على التمويل المصرفي أكثر محدودية من الشركات المملوكة للدولة.
وقد ظهرت أدلة غير موثقة عن استياء المجتمع إزاء بعض تدابير التعامل مع الوباء، ومنها تقارير عن تحديات داخل الحزب. لكن من السابق لأوانه معرفة أكان هذا الاستياء مجرد تذمّر لحظي، أم أعراض استياء أشد وأعمق أم أنه يعكس محاولة كيانات خارجية استغلال لحظة ضعف تمر بها الصين.
هل تعيد بكين النظر في مبادرة الحزام والطريق؟
ومن الأسئلة المهمة الأخرى خلال الأرباع العديدة القادمة هو مدى وتيرة ونطاق عودة مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين إلى العمل. فإذا رأت الصين أنها بحاجة إلى التركيز على الاستهلاك والنشاط الاقتصادي الداخليين، فقد تُقلِّص هذه المشاريع الخارجية.
وحتى قبل ظهور كوفيد-19، كانت بكين تعيد تقييم قيمة العديد من مشاريع مبادرة الحزام والطريق بالنظر إلى تكلفتها. ورغم أن الصين قد تفيد من المكاسب قصيرة الأجل من ما يسمى بالقوة الناعمة لأنها ترسل الأطباء والمستلزمات الطبية إلى بلدان أخرى، إذا قلصت الإنفاق على البنية التحتية الخارجية على مدى السنوات القليلة المقبلة، فإنها ستفقد الزخم في محاولتها تشكيل الديناميات السياسية والأمنية لجيرانها وشركائها.
انتهى عصر الخصوصية.. كيف سيؤثر كورونا على البنية التحتية للتكنولوجيا؟
أدت محاولات الولايات المتحدة للحد من نشر تقنيات هواوي الصينية في تطورات البنية التحتية العالمية لشبكة الجيل الخامس إلى توتر العلاقات بين واشنطن وبكين، وبين الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها أيضاً.
والآن، كشفت أزمة كوفيد-19 وتدابير الحجر الصحي المصاحبة لها الضعف الهيكلي للبنية التحتية للاتصالات في العديد من البلدان والمجتمعات، مما عزز الطبيعة المهمة لهذه البنية التحتية. وقد أظهرت هذه الأزمة أيضاً ضعف نظم المعلومات أمام التضليل والتلاعب الأجنبي.
وأثارت أيضاً مخاوف تتعلق بالخصوصية بشأن زيادة استخدام الحكومات التكنولوجيا لتتبع وتقليل انتشار كوفيد-19. وثارت المزيد من التساؤلات في السنوات الأخيرة عن المراقبة الحكومية؛ والمعلومات الشخصية والخصوصية؛ ووصول الحكومة إلى الاقتصاد والشركات؛ والعلاقة بين الحكومات المحلية والاتحادية وحتى الوطنية الشاملة، وانعكس ذلك في التقلبات السياسية، والنقاشات حول السيادة، وفي الاضطراب السياسي والاجتماعي.
وستزيد هذه المخاوف المتعارضة من كثافة المناقشات حول أمن المعلومات الشخصية من الدولة، وحول “السيادة السيبرانية” الوطنية.
ويتوقع المركز الأمريكي زيادة الاهتمام بتمويل وإدارة البنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ودعوات لزيادة التمويل الوطني- والسيطرة- على الشبكات. وبدلاً من تعزيز شعور “الكل في واحد” في العالم، قد يُسرّع الفيروس من التحرك نحو مزيد من التشرذم.
ما مستقبل المنظمات متعددة الجنسيات؟
كان الجزء الأكبر من التعامل مع أزمة كوفيد-19 قومياً في طبيعته، ولم تَقُده مؤسسات متعددة الجنسيات. لكن العديد من المؤسسات الدولية العالمية ظهرت في نهاية الحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة، وهي أوقات مختلفة تماماً عن الوقت الحاضر. ولم تتمكن هذه المؤسسات من مواكبة عالم متغير، وواجهت الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والمؤسسات الدولية الأخرى تحديات متعلقة بالهدف والسلطات حتى قبل جائحة كوفيد-19. ولطالما اعتبرت الولايات المتحدة العديد من هذه المؤسسات إما مُقيِّدة أو غير فعالة، في الوقت الذي بدأت فيه الصين في محاولة تغيير اتجاهها لتناسب رؤيتها العالمية بشكل أفضل.
فإذا كان يُنظر إلى هذه المؤسسات على أنها فشلت في الأزمة الحالية بعدما لم تفعل سوى القليل في الأزمة المالية العالمية قبل عقد من الزمان، أو كانت غير قادرة على وقف الصراع في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، أو إدارة الهجرة الناتجة عن الصراعات أو مخاوف تغير المناخ العالمي، قد يثير كوفيد-19 نقاشاً حول إصلاح شامل للحوكمة العالمية. وإذا لم يحدث، فقد يؤدي ببساطة إلى التفاف الدول على العديد من هذه الأنظمة سعياً وراء مصالحها الخاصة.
هل يؤدي الفيروس إلى الهروب من إغراءات الصين في التصنيع؟
تعد جائحة كوفيد-19 أحدث الصدمات التي طالت سلاسل التوريد المعولمة والتي تلفت الانتباه إلى المخاطر التي تهدد استمرارية الأعمال والتجارة، وفي بعض الأحيان الأمن القومي. وحتى قبل جائحة كوفيد-19، كانت سلاسل التوريد العالمية تواجه تحديات من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ومن القومية الاقتصادية المتزايدة في العالم. ورغم أن العالم لم يتحرر من قوة جاذبية التصنيع وسوق المستهلكين في الصين، تسببت التوترات التجارية بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف العمالة في الصين في بدء تحول بعض الصناعات إلى فيتنام وأماكن أخرى في جنوب شرق آسيا. وفي الوقت نفسه.
كان التحضير لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإعادة تقييم سلاسل التوريد بعد مراجعة الولايات المتحدة لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) والترتيبات التجارية في أماكن أخرى يؤثران أيضاً على القرارات المحيطة بسلاسل التوريد.
مشكلات التوريد بدأت قبل الفيروس
وسيُنظر إلى الفيروس وحده على أنه اضطراب قصير المدى للنشاط الاقتصادي العالمي، إذ تمكنت بعض الشركات من نقل التوريدات سريعاً خارج الصين في الأيام الأولى من الحجر الصحي في الصين، في حين أعادت شركات أخرى تجهيز مصانعها أو اعتمدت على فائض مخزونها.
ولكن على مدى السنوات العديدة الماضية، أجبر الابتعاد عن التسليم في الموعد المحدد والصدمات السياسية أو غيرها من الصدمات مثل مقاطعة الصين غير الرسمية لكوريا الجنوبية بسبب نشرها صواريخ ثاد وكارثة فوكوشيما الشركات على ضمان مرونة سلاسل توريدها أو محاولة نقل أعمالها إلى مكان قريب أو إلى بلادها كي تنأى بنفسها عن الصدمات العالمية المستقبلية بصورة أفضل.
لماذا يصبح العالم العربي من أكبر الخاسرين؟
تواجه البلدان المعتمدة على السلع الأساسية في أنحاء العالم آثاراً طويلة الأمد من جراء الاضطرابات في الاستهلاك لعدّة أشهر، وفي بعض الحالات، ستتخطّى تلك المشكلات الأجل القريب.
ففي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (العالم العربي بالأساس)، حيث يؤثِّر بالفعل كل من التوسّع في إنتاج الطاقة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية والنزوع إلى مصادر الطاقة المتجددة على أنماط الطلب، سيُخلف الانخفاض الإضافي في معدلات الاستهلاك نتيجة لفيروس كورونا المستجد أثراً هائلاً على الاستقرار المالي داخل البلدان.
تواجه المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وغيرهما منذ فترة رياحاً لا تشتهيها سفن الجهود الاقتصادية والإصلاحية السابقة لأزمة فيروس كورونا، وستظلّ تلك البلدان في حاجة إلى تلبية التوقّعات المرتفعة لشريحة سكانها من الشباب الآخذة في النمو بخصوص خدمات الحكومة، وهذا كلّه في خضمّ انخفاض الإيرادات.
إذا عُرقلت جهود الإصلاح، ستتحوَّل دفة احتياطات الحكومة لتمنح الأولوية للإنفاق الاجتماعي على حساب التنويع الاقتصادي، أو على حساب تطوير البنية التحتية والاستثمار الخارجي. وربما تُثبت الإصلاحات شبه المكتملة أيضاً أنها مزعزعة للاستقرار الاجتماعي حتّى أثناء ارتفاع معدلات الإنفاق الاجتماعي.
هل يتجه العرب إلى الصين، وكيف سيكون سلوك إيران بعد الأزمة؟
وفي حين أن بعض البلدان ربما تتوقّع توجيه دفّتها نحو الصين في وقتٍ مثل هذا، رغم التكلفة المصاحبة لهذا على السيادة الوطنية أو على الأقل القدرة على المناورة السياسية في التجارة، فإن الصين -مثلما أُشير أعلاه- ربما تحتاج إلى جعل إنفاقها الداخلي أولوية.
وسيلعب أيضاً السلوك الإيراني بعد الضربة القويّة التي سددها فيروس كورونا للبلاد دوراً في المنافسة والعلاقات الإقليمية: فالاضطرابات السياسية في إيران قد تضاهي بالكاد في قدرتها على زعزعة الاستقرار الإقليمي تعزيزَ سيطرة الحكومة الإيرانية.
وثمّة موضعٌ أخير يتعيَّن فيه تقصي ما يتبقى من تأثيرات جائحة فيروس كورونا خلال العقود المقبلة، وهو البلدان التي تعتمد اعتماداً هائلاً على الدعم الخارجي، أو تلك البلدان المُنسحقة بين مطرقة وسِندان القوى الأكبر، أو تلك المتموضعة على هامش العالم.
إذ تواجه دول جزر المحيط الهادئ -العالقة بين المنافسة المتزايدة بين الصين في كفّة، والولايات المتحدة وأستراليا في كفّة أخرى- قيوداً اقتصادية كبيرة في تعاملها مع فيروس كورونا المستجد، بدءاً من انهيار قطاع السياحة وصولاً إلى تقلّص شحن البضائع وتضاؤل الإمدادات.
فثمة أماكن مثل بيلاروسيا، التي سعت إلى تحقيق التوازن بين المصالح الروسية والأوروبية والصينية المتنامية، أو منغوليا، التي شهدت انخفاضاً كبيراً في صادرات الفحم إلى الصين في الربع الأول من العام، قد تجد نفسها أمام خيارات أقل للاحتفاظ باستقلالية التصرُّف.