العبادة زمن الغفلة
هوية بريس – ناصر عبد الغفور
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)” -الذاريات-.
ويقول سبحانه: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)” -الأنبياء-.
فالوظيفة التي خلق من أجلها الإنسان هي عبادة الله جل شأنه وتعالى ذكره.
ولا ريب أن هذه العبادة يعظم أجرها ويكبر قدرها عند غفلة الناس وسهوهم وركونهم إلى الدعة ونومهم.
والغفلة كما يقول الراغب في مفرداته:” سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ ، يقال غفل فهو غافل”([1]).
فشتان شتان بين عبادة أو طاعة في وقت الانتباه واليقظة وطاعة في وقت الغفلة والدعة.
فحكمة الحكيم سبحانه تأبى هذه التسوية كما أن العقل الصريح لا بد أن يقر بالفرق الكبير والبون الشاسع بين الطاعتين لاختلاف الوقتين.
وقد دل الكتاب الكريم وسنة سيد المرسلين على هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها معظم الناس إلا من رحم ربك-وقليل ما هم-.
ومن أوضح وأجمع ما دل على عظم شأن العبادة وقت الغفلة والفتنة قول المصطفى صلى الله علي وسلم:
“عبادة في الهرج([2]) و الفتنة كهجرة إلي”، وفي رواية:” العبادة في الهرج كهجرة إلي”-مسلم-.
وقد بوب الإمام مسلم رحمه الله تعالى على هذا الحديث بقوله: (باب فضل العبادة فى الهرج).
قال في النهاية الهرج القتال والاختلاط وقد هرج الناس يهرجون هرجا إذا اختلفوا وأصل الهرج الكثرة في الشيء والاتساع، وفي القاموس: هرج الناس يهرجون وقعوا في فتنة واختلاط وقتل([3]).
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه: المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولايتفرغ لها إلا أفراد.”([4]).
وفي الحديث لطيفة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه العابد وقت الفتن والغفلات بالمهاجر إليه، فكما أن المهاجر كان يترك أهله وبلده وأمواله فيهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤثرا ما عند الله سبحانه، فكذلك العابد في وقت غفلة الناس وفتنهم قد هاجر بقلبه إلى ربه وفارق فتن الناس ونأى عنها بقلبه وقالبه، مقبلا على عبادة ربه ومؤثرا ما عنده من عظيم فضله.
وغفلة الناس عن الآخرة والاستعداد لها أمر نبه إليه القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، فقال جل في علاه:” اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ”-الأنبياء-([5]).
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: “هذا تنبيه من الله، عز وجل، على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها، أي: لا يعملون لها، ولا يستعدون من أجلها.”([6]).
ويقول الإمام الألوسي رحمه الله تعالى: “فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكر في جلاله وجماله سبحانه ساهية.”([7]).
وفي تيسير الرحمن للعلامة السعدي عليه رحمة المنان:” هذا تعجب من حالة الناس، وأنه لا ينجع فيهم تذكير، ولا يرعون إلى نذير، وأنهم قد قرب حسابهم، ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة، والحال أنهم في غفلة معرضون، أي: غفلة عما خلقوا له، وإعراض عما زجروا به. كأنهم للدنيا خلقوا، وللتمتع بها ولدوا… {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي: قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها الدنيوية، وأبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل، والأقوال الردية، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة، تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه، وتستمعه استماعا، تفقه المراد منه، وتسعى جوارحهم، في عبادة ربهم، التي خلقوا لأجلها، ويجعلون القيامة والحساب والجزاء منهم على بال، فبذلك يتم لهم أمرهم، وتستقيم أحوالهم، وتزكوا أعمالهم.. فهذه حالة الناس كلهم، إلا من أدركته العناية الربانية، فاستعد للموت وما بعده.”([8]).
قال أبو بكر الوراق: “القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها، والغافل عن الآخرة وأهوالها… قال المرتعش: غافلة عن منافعها، مقبلة على مضارها..”([9]).
ويمكن تقسيم الغفلة إلى قسمين: غفلة عامة وأخرى خاصة:
– فالأولى هي حال الناس عامة إلا من رحم الله، فعموم الخلق عن الآخرة غافلون وعن طاعة ربهم ساهون، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم-كما أسلفت-.
– والخاصة: أقصد بها الأوقات التي يكون الناس فيها غافلون لانشغالهم بالمكاسب أو خلودهم إلى النوم والوسائد وغير ذلك من أسباب السهو والغفلة.
ومهما يكن فإن العبد إذا رأى أن الله تعالى وفقه لطاعته فأخرجه من غفلته ونبهه من سنته وأيقظه من رقدته، في زمن الناس فيه غافلون وعن عبادته سبحانه ساهون، فليبشر وليحمد ربه، فوالله إنه في نعمة لا يقدر قدرها ولا يعرف حجمها إلا المنعم بها.
وهذه نماذج لبعض أوقات الغفلة وما يكون فيها من عظيم الثواب لمن أقبل فيها على عبادة العزيز الوهاب:
– أيام التشريق:
ولعلي بدأت بها لقرب العهد بها-والله المستعان-، وهي أيام تكون الغفلة فيها مستولية على الكثير من الناس فهي يوم العيد وثلاث أيام بعده([10]) ففرحة العيد وبهجته وما يكون فيه من زيارات وضيافات كل ذلك مما يجعل الناس عن الطاعة غافلين وللهو والمرح مؤثرين، وما أحسن صنيع الإمام البخاري رحمه الله تعالى حيث بوب في كتاب العيدين من صحيحه: (باب فضل العمل في أيام التشريق).
يقول ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى:” قال وسر كون العبادة فيها أفضل من غيرها أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها وأيام التشريق أيام غفلة في الغالب فصار للعابد فيها مزيد فضل على العابد في غيرها كمن قام في جوف الليل وأكثر الناس نيام.”([11]).
– التعبد بالليل:
يقول تعالى:” أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)”-الزمر-.
فهذا مدح وثناء لمن أقبل على التضرع والوقوف بين يديه جل في علاه في وقت الناس فيه نائمون وعن مكابدة الليالي معرضون.
فهذا القانت آناء الليل علم فعمل وأيقن فجاهد فعظم أجره وعلا مقامه.
فلا تسل عما أعد الله له من حسن الثواب عند الرجوع والمآب، كما قال جل جلاه واصفا حل العباد وقت النوم والرقاد:
“تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)” -السجدة-.
والجزاء من جنس العمل فكما أنهم أخفوا قيامهم أخفى الله تعالى ثوابهم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم،” يدخل فيه جميع نفوس الخلق، لكونها نكرة في سياق النفي. أي: فلا يعلم أحد {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما قال تعالى على لسان رسوله: “أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”، فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم، ولهذا قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}”([12]).
وقال تعالى في وصف أهل الجنة: “كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)”-الذاريات-، يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى:” والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا قال الحسن : كابدوا قيام الليل لا ينامون إلا قليلا”([13]).
– الاستغفار وقت السحر:
لا ريب أن الاستغفار من أجل الطاعات فهو تجديد للعهد مع الله بطلب مغفرة الزلات ومحو السيئات، فالعبد مذنب خطاء لا ينفك عن المخالفة ولا يسلم من معصية([14]). يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:”طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا”-رواه ابن ماجة وصححه الألباني-.
ومع عظم شأن الاستغفار وترغيب الشارع الحكيم فيه، إلا أننا بتتبع كلام البارئ سبحانه نجد الثناء لأهل الاستغفار وقت الأسحار حيث معظم الناس نائمون وفي سبات عميق راقدون.
وأي ثناء أعظم من جعل الاستغفار في هذه الأوقات من صفات أهل النعيم والجنات.
يقول تعالى:” قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17).”-آل عمران-.
ويقول سبحانه:” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)”-الذاريات-.
يقول صاحب روح المعاني :”أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.”([15]).
فانظر كيف خصوا بهذا الثناء دون غيرهم وما ذاك إلا أنهم استغفروا في زمن الغفلة والنوم، فشتان بين مستغفر في رابعة النهار ومستغفر في الأسحار.
فكما يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:” وللاستغفار بالأسحار، فضيلة وخصيصة، ليست لغيره…”([16]).
– عظم شأن صلاتي العصر والصبح:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من صلى البردين دخل الجنة”-متفق عليه-
والمراد بالبردين صلاتي العصر والصبح، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر عند مسلم:”لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها”.
قال الخطابي “سميتا بردين لأنهما تصليان في بردى النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر.”.-الفتح:2/53-.
وعند الشيخين من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه يرفعه: “إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و صلاة قبل غروبها فافعلوا”.
ولعل من أسباب عظم شأن هاتين الصلاتين كون وقتهما وقت غفلة: فالصبح يأتي في وقت أغلب الناس فيه راقدون، والعصر في وقت العمل والمكاسب والانشغال بالتجارات والمناصب.
والواقع أوضح شاهد، فنظرة في المساجد وقت هاتين الصلاتين-وخاصة الصبح- تنبؤك بعظم الغفلة، وطول الرقدة.
ولنتأمل قوله صلى الله عليه وسلم:” فإن استطعتم أن لا تغلبوا”، لنعلم أن هناك مغالبة ومجاهدة، فطوبى لمن غلب غفلته وجاهد هواه.
– الذكر:
يعتبر الذكر من أجل القربات وأعظم الطاعات، والنصوص في بيان فضل الذكر مشهورة مستفيضة، سواء من الكتاب أو السنة.
وأكتفي بذكر بعضها:
يقول الله تعالى: “فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ”، فانظر إلى هذا الوسام العظيم الذي يحصل عليه الذاكر، إنه لا يذكره وزير أو ملك بل يذكره ملك الملوك رب الكون والملكوت.
كما جاء في الحديث القدسي: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم}.
وصح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم و خير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟ ذكر الله.”-رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني-.
وإن من عظم الذكر ذكره سبحانه بكلامه وتلاوة قرآنه المنزل على خير خلقه وخاتم رسله، ففيه الشرف والرفعة وعلو الدرجات في الأولى والآخرة: “لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم”.
وليس القصد استقصاء ما ورد في فضل الذكر فقد سطرت في ذلك مقالات وألفت فيه كتب ورسالات، لكن قصدي بيان حكمة من حكم هذا الفضل العظيم والثواب الجسيم لمن أكثر من ذكر السميع العليم.
إنها الغفلة التي علم الله تعالى أنها ستستولي على ألسنة العباد فتلجمها إلجاما ليس على مطلق الكلام بل فقط عن ذكر الكريم الرحمن، أما اللغو والباطل والكلام الذي سقطه أكثر من صوابه فقد أطلق لها العنان لتجول وتصول دون رقيب عما تقول، من غيبة وبهتان وقيل وقال وحكايات وأخبار… والواقع أكبر شاهد على هذا وأدل برهان.
“ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير”، علم الله ذلك فوعد بكل هذا الثواب العظيم لمن لم يكن من الغافلين وآثر أن يكون في زمرة الذاكرين (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
فبشرى لمن كان لسانه رطبا من ذكر الله، في زمن غلت معظم الألسن فيه عن الخير وتاهت في الباطل بألوانه والفاحش من القول بأشكاله.
“وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)”-الأعراف-.
– صيام النفل:
للأسف الشديد معظم المسلمين لا عهد لهم بالصوم إلا في شهر الصوم، والكثير منهم إذا صام آخر يوم من رمضان، لا يعود للصوم إلا عند هلال رمضان الآخر.
أما باقي الأيام بين الرمضانين فهمهم ملئ بطونهم ليل نهار، فهم في غفلة عن عظم أجر من صام لله تطوعا، وكابد الجوع والعطش تنفلا، للارتواء يوم العطش الأكبر ودخول الجنة من باب الريان الأزهر.
فالصوم وقت السهو والغفلة ومجاهدة النفس على ذلك زمن اللهو والرقدة لا يعلم عظم أجره ومقدار ثوابه إلا الله تعالى.
“إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي”-مسلم-.
” من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه و بين النار خندقا كما بين السماء و الأرض “-أخرجه الترمذي وصححه الألباني-
وفي رواية:” من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من جهنم سبعين عاما.-أخرجه النسائي وصححه الألباني-.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قلت يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له.(وفي رواية لا عدل له)([17]).
خاتمة القول:
إذا كان الله جل جلاه أمرنا بعبادته ورغبنا في طاعته فليس افتقارا منه أو لحاجة، بل هو الغني عن خلقه، فالغنى وصف له ذاتي، كما أن الفقر وصف لنا ذاتي، كما قال شيخ الإسلام عليه رحمة المنان:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا … كما الغنى أبدا وصف له ذاتي.
فعبادة الثقلين لا تزيد في ملكه سبحانه مثقال ذرة كما أن كفرهم لا ينقص من ملكه مثقال ذرة.
فثمرة العبادة إنما تعود على العبد، فإن أي إنسان مكون من مادة وروح وكما أن المادة لا بد لها من أغذية مادية من أكل وشرب وغير ذلك فكذلك الروح لا بد لها من غذاء روحي لا غنى لها عنه إنه القرب من الله وتأليهه وعبادته سبحانه، فعبادته سبحانه حياة القلوب وغذاء الأرواح.
و”صلاح القلب واستقامته، على طريق سيره إلى الله تعالى متوقف على جمعيته على الله، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى”([18]).
ولا ريب أن هذه العبادة يعظم قدرها ويعلو أجرها زمن السهو والغفلات ووقت الفتن والاختلاطات.
وإن العبد إذا رأى توفيقا من الله تعالى له من إقبال على أصناف الطاعات في مثل هذه الأوقات –أوقات الفتن والغفلات- من ذكر وتلاوة القرآن واستغفار بالأسحار وقيام بالليل وصيام بالنهار ومواظبة على الصلوات في المساجد والمصليات… فليستبشر خيرا وليحمد ربه الذي اصطفاه لذلك واجتباه وخصه بقربه في وقت معظم الناس فيه لاهون وعن الآخرة غافلون وعلى حطام الدنيا وشهواتها متكالبون ولحدود الله مقتحمون.
“ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(4)”-الجمعة-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) المفردات في غريب القرآن:362.
([2] ) بفتح الهاء وسكون الراء.
([4] ) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج:18/88.
([5] ) وقد ذكر الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في تاريخ دمشق في ترجمته الحسن بن هانئ أبي نُوَاس الشاعر أنه سئل عن أشعر الناس، فقال الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول : * الناس في غفلاتهم * ورحا المنية تطحن، فسئل من أين اخذ هذا؟ قال من قول الله عز وجل ” اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة “([5]).
([9] ) تفسير السلمي المسمى حقائق التفسير:2/4.
([10] ) وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهو الراجح المختار.
([14] ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”-روا ابن ماجة وغيره وحسنه الألباني-..