العبودية الفكرية
هوية بريس – ابراهيم الناية / مدرس سابق لمادة الفلسفة
أبادر إلى طرح السؤالين: هل يمكن ان اكون حرا وأنا أفكر بعقل غيري ؟ وكيف يمكن التعامل مع فكر الآخر هل من منطلق تأكيد الذات أم من منطلق التبعية ؟.
إن العبودية في عالم البشر ليس لها وجه واحد يتجسد في عبودية السياسة والسلطة بل تتجاوز ذلك إلى عبودية التبعية الفكرية واجترار اطروحات الآخرين واعتبارها عين الصواب ، ومن ثم اختزال نسبية المعرفة الإنسانية في نوع واحد من التفكير وأن لا يطلع المرء إلا عليه ويبقى يردد مقولاته وكأنها هي الحق المطلق.
إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ تجاذبات العقل البشري التي جاءت نتيجة أنماط معرفية أفرزتها بيئآت مختلفة في تشكلاتها السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية والتاريخية والعوامل الذاتية التي أثرت في فكر كل فيلسوف وجعلته يتحدث بتلك النبرة وبذلك الخطاب ، ومن ثم إن اختلاف المعطيات ترتب عنه اختلاف في الرؤىٰ والتصورات. لكن الغريب في الأمر عندما يتم إسقاط واقع تاريخي بكل حيثياته على واقع آخر يختلف عنه جملة وتفصيلا ، كما نجد ذلك في ممارسات بعض المواقف المأزومة التي لا تراعي الاختلافات الإجتماعية ، علما أنك تجد بعضها يصرح أن الواقع الاجتماعي هو الذى يحدد طبيعة الفكر. إن المواقف البشرية هي نتاج لواقع معين لا يمكن تعميم نتائجه على واقع بشري آخر ، وما نجده من حالات التعميم قد يعود إلى مواقف انفعالية بعيدة عن الصواب ، وقد أطلق عليها ” لينين” يوما: مرض الطفولية اليساري في الشيوعية ، ولذلك إن دراسة تاريخ الفلسفة هو تتبع المراحل التي مر منها العقل البشري نحو النضج وكيف كان يفكر الفيلسوف في كل زمن معين وماهي الثوابت المختلفة التي تحكمت في انتاجه ، أما المضامين فهي تتغير حسب البيئآت ، ومن العبث أن لا نقبل إلا رؤية فلسفية واحدة ظهرت في واقع معين ونعتبرها هي الشرط اللازم للمعرفة ، إن التصورات الفلسفية التي ظهرت في التاريخ هي مرتبطة بالواقع الاجتماعي الذي نشأت فيه، وكيف استفادت من التحولات العلمية التي واكبت نشأتها ، ومن المعلوم أن الثورة العلمية التي ظهرت بعد ذلك غيرت كثيرا من المفاهيم التي أسس عليها معظم الفلاسفة تصوراتهم . إن كل الفلاسفة الذين شكلوا تاريخ الفلسفة كانوا يعبرون عن روح حضارتهم فنيتشه مثَّل روح الأمة الألمانية الاستعلائية ككلامه عن الإنسان العالي والوضيع ، وباحتقاره العمل اليدوي لأنه لا يتلائم إلا مع طبيعة العبيد وهي فكرة يونانية ، ولذلك يعتبر الألمان أنهم الورثة الشرعيون للحضارة الإغريقية ، ويصل الاعتزاز بالنفس مداه عند “مارتن هايدگر ” الذي يرى أن الفلسفة لا ينبغي أن تكتب إلا باللغة الألمانية. وقد نال ” سارتر إعجاب الفرنسيين ليس لمضمون فلسفته وإنما لإتقانه اللغة الفرنسية التي يكتب بها. ولذلك على كل دارس للفلسفة أن يعرف المنطلقات الفكرية المحددة لطبيعة تفكير كل فيلسوف ، لأن إطلاق الكلام المرسل على عواهنه يتناقض مع المنطق الذي هو المنظم الاساسي للتفكير الفلسفي ، لكن هناك سؤال يُطرح: لماذا يتم التركيز على الجانب الاديولجي لبعض الفلاسفة واغفال الجانب العلمي من انتاجهم بل نجد أن هناك هجرانا للمعرفة العلمية وكيف أثرت في تشكل العقل ، علما أن المعركة هي معركة علمية بالاساس ؟ ولماذا لا يتم التركيز على الفلسفات المنهجية ؟ ولماذا لا نبني القول الفلسفي على أساليب المنطق من استدلال وحجاج؟. ولماذا لا توظف نتائج العلم في واقع حياتنا وفي منطق تفكيرنا.
إنه لابد من توضيح أثر الفكر العلمي في مجرى تاريخ الفلسفة وفي تحديد مفاهيمها وهكذا نجد الآثار الواضحة “لگاليليو “في فكر ديكارت ،كما أن العلم النيوتوني كان له التأثير البالغ في تحديد السؤال الكانطي: ماذا يمكن لي أن أعرف ؟ كما أن تحديد مفهوم المادة في المادية الجدلية يعود إلى العلم النيوتوني.
يذهب “باشلار ” إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العقل ، وهذا يعني أن هناك تغيرا في تاريخ العلم فهل تاريخ الفلسفة يسوده السكون والجمود ؟ مما يبرر لبعض الأشخاص اجترار ماقاله بعض الفلاسفة في الزمن الماضي وكأنه الحق الذي لا مناص منه . لقد تم تدشين الثورة العلمية بداية من ظهور الهندسات اللاأقليدية التي مثلت انقلابا هائلا فتح آفاقا واسعة في تطور العقل البشري ترتب عنه إلغاء البداهات وظهور الاحتمال وقيام المنهاج الاكسيومي ، كما استفاد العقل الفيزيائي من تطور الرياضيات، وهكذا جاءت نظرية النسبية لتلغي الانسقة المطلقة كما كان لنظرية الكوانطا الدور الهام في تغيير مفهوم المادة الأمر الذي جعل الفلسفات التي أسست رؤيتها على مفهوم المادة كما تصورها نيوتن تراجع كثيرا من مفاهيمها. وبذلك تمت إعادة صياغة الرؤية الفلسفية الجديدة في علاقة الفلسفة بالعلم كما يذهب الى ذلك باشلار “. إن الفلسفة تتحدد في علاقتها بالعلم “.
وإذا كانت الفلسفة قائمة على الاختلاف وتحاور على الدوام العلم ويتبنى اصحابها المنطق العلمي في التحليل والمناقشة، وإذا كان لكل إنسان نصيب من العقل كما ذهب إلى ذلك دكارت ” إن العقل هو القسمة العادلة بين البشر”، فأين هي مساهمات عقل الإنسان الذي يعتبر نفسه عبدا لإنسان آخر لأنه يفكر بعقله ويأتمر بأمره ؟ ألا يكون في هذه الحالة عبدا من أكثر العبيد تبعية؟. وهناك من يقدس بعض الفلاسفة ويعتبرهم اصناما يقدم لهم فروض الطاعة والولاء ويردد على الدوام أفكارهم وتصوراتهم، علما أنهم بشر تتحكم وضعيات مختلفة في انتاجهم، فهل استفادة هؤلاء من التحولات العلمية التي ظهرت في تاريخ العلم وارتبط بها تاريخ الفلسفة؟. ونسي هؤلاء المقلدة الذين يرددون أقاويل غيرهم أن الناس سيسألونهم وماذا قلتم أنتم؟