العرب والفرص التاريخية الضائعة
هوية بريس – د مصطفى حضران / مكوّن بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بين ملال-خنيفرة
ما بالنا نحن العرب نخطئ دوما موعدنا مع التاريخ، ونهدر اللحظات التي يجود بها الزمان، ولا نحسن استثمارها للخروج من حالة الضعف والهوان والتخلف. فعوض أن نكون فاعلين على مسرح التاريخ، ونوجه بوصلة أحداثه لصالحنا، يظل عملنا محصورا في ردود أفعال طائشة، ونردد ما تجود به أقلام المفكرين الغربيين، ونتيه في زحمة تحليلاتهم وتنظيراتهم، فتضيع اللحظة ولا نحصّل منها سوى الفتات الذي يتساقط من موائدهم.
هذه اللحظات لن يتلقفها، ولا يحسن استثمارها إلا من يدرك سنن الله في الكون، وفي الأنفس، وفي الاجتماع البشري. وكأن قدرنا أن نتخلف عن المواعيد التي تحقق الطفرات الاجتماعية والتحولات التاريخية في حياة الشعوب، ونعيش التخلف والتقهقر دائما حتى صار من لوازم ومسلمات حياتنا.
فالأصل أن نجتهد في توفير الأجواء العلمية والفكرية والاجتماعية والسياسية، التي تخلق لحظات التحول في المجتمعات، إذ الأمة الفاعلية هي التي تخلق الحدث، وحتى الدول التي لا تقوى نخبها فكريا وعمليا على صناعة الأحداث فهي على الأقل تتلقف هذه التطورات وتوجهها لصالحها، فتلك أمم تحترم نفسها، وتترقب كل ما يمكن أن تقذف به الأيام والأزمنة حتى لا تفاجئها الأحداث فتحوها من الفعل إلى ردة الفعل.
أعتقد أن الوضع العالمي اليوم خاصة بعد انتشار هذا الوباء، يفتح لنا ذراعيه لمساءلته ولقراءته واكتشاف حقيقته، ومن أول هذه الملاحظات التي يقف عندها المتأمل التحول الظاهر في السلوك السياسي لهذه الدول التي تسمى عظمى، فيرى اختلافات جوهرية بين خطاباتها قبل انتشار هذا الوباء وبعدما نزل بقوته وكلكله، وجعل سكانها وشعوبها يشكون فيما في أيديهم من وسائل وتقنيات، ويفرون إلى البيوت لعلها تقيهم شره وبأسه. لقد انقلبت أولوياتهم واضطربت حساباتهم وتغيرت لغاتهم من لغة الحرب والتهديد والعجرفة ؛ إلى لغة قد تبدو غريبة عمن ألفوا إصدار الأوامر والاستعلاء على الناس والزهو والغرور بالمنجزات التي حققوها حتى ظنوا أنهم خلقوا ليخدمهم الآخرين، فلم نعد نسمع منذ انتشار الوباء عددا من المقولات التي تفرق العالم إلى دول متخلفة وأخرى متقدمة، أو مقولة الشمال المتحضر والجنوب المتخلف، بل جعل كل الدول كتلة واحدة مستهدفة لا فرق بين المتقدمين والمتخلفين،كما أنه أبان عن اختلالات كبيرة سواء في العلاقات الدولية أو قدرة هذه الدول التي كنا نحسبها أنها فوق كل شيء. لأن الفيروس عمل على تحييد الوسائل المتطورة، ولم يعد لها كبير أثر رغم توفوها، فقد أجمع المختصون على أن الوسيلة الفعالة في محاصرته متوقفة على وعي الإنسان وحبس نفس طواعية في بيته، وهذا سلاح يتساوى فيه الجميع، فيكون الكورونا ساوى بين الجميع في وسائل محاربته، وما كنا لنصدق لو أعلنا عن معالم هذه الأزمة الحقيقية التي تعيشها هذه الدول قبل هذه الجائحة وما أفرزته.
لقد مكنتنا هذه الجائحة من فهم كثير من العلاقات والحقائق، والوقوف على كثير من الخبايا التي تبين مستوى العلاقات بين الدول خاصة التي تجمع بينها اتحادات ومعاهدات التعاون والتضامن، إن موقف الإيطاليين من الاتحاد الأوربي الذين يرون فيه أنه تركهم لمصيرهم وتخلى عنهم في وقت المحنة، وبيان عجز الولايات المتحدة أخلاقيا أمام ظهور وبروز الموقف الصيني الذي وصلت مساعداتها إلى أوروبا، هذه الأحداث ستترك جرحا غائرا في قلوب المتضررين، وأكاد أجزم أن العالم على الأقل لا يمكن أن يبقى كما كان قبل الوباء، فعالم جديد لابد أنه يتشكل لتظهر زعامات جديدة تقوده، لقد تبين أن العالم بعد الكرونا يحتاج لقيادة على قدر كبير من الأخلاق الإنسانية التي تؤهلها لزرع بذور عالم جديد يعلو فيه صوت الإنسانية ويخفت فيه صوت المدفع وتتبدد على مسرحه الأخلاق المكيافلية التي تبرر أخطاء الذات وتكيل بمكيالين.
لكن أين نحن من كل هذا الذي يطبخ على نار هادئة، إنها فرصة حقيقية لإعادة ترتيب أولويات البيت العربي، وتحديد اصطفافات جديدة، وربط علاقات مع دول لا تحرس تخلفنا كمل يقول -برهان غليون- وتعمل على إطالة أمده، فنحن بحاجة إلى نسج علاقات مع دول لا تؤمن بأنها المركز وغيرها هوامش وأتباع، دول تنظر إلى أن بناء الحضارة الإنسانية متوقف على مساهمة الجميع فهي تراكم إنساني وليس طائفي وعنصري.
نحن في حاجة إلى نخبة علمية وسياسية عربية حقيقية تقود المجتمع وتؤثر إيجابا في توجهاته، وليس نخبا تافهة تتخبط في سفاسف الأمور انظروا مثلا إلى مستوى بعض من نعتبرهم نخبا، كيف يتفاعلون مع الأحداث وكأن على قلوبهم وعقولهم غشاوة، فهم لا يفقهون القول ولا يحسنون الفعل، هذه النخب التائهة مشغولة بصراعات وخلافات وهمية لا تقدم ولا تؤخر، النخب الحقيقية ليست هي التي تهرب النقاشات الحقيقية والاختيارات الوازنة إلى عناوين تافهة، فنجد منهم من تفاعل مع حدث كورونا بالاستهزاء بالعقائد والأديان، ومنهم من رده إلى خطايا الإنسان وسوء فعله وفساد أخلاقه، وكأن في إقرار هذا الأمر أو ذاك حلا ينجي الإنسانية من مصائب هذه الجائحة التي لا تميز بين بيني البشر، إنه الفراغ العلمي والفكري وبؤس الأيديولوجية القاتل التي تحجب خلق الاعتراف بالآخر.
ليس القصد أن نكون قادة العالم، إنما القصد أن يكون للعرب موقع وموقف مستقل يسمع، وهذا أمر يتحقق إذا ما خلصت النيات وتوحدت الجهود واحترمنا فقه الأولويات، إن هذا الوباء أزاح عن كراسي الصف الأول من وسائل الإعلام تلكم النماذج التافهة وتوارت عن الأنظار، وأعاد إلى الواجهة نماذج حقيقية بانية ألم نعد نسمع بشكل فوري ويومي قيمة ورمزية وجميل فعل رجال الصحة ورجال التعليم ورجال الأمن، واحتلالهم للصدارة في الفعل الاجتماعي اليومي، إنها فرصة لترتيب أولوياتنا وأعمالنا، أولوية اليوم الاستثمار في الإنسان تنمية روحه وذوقه وعقله، وبناء المشاريع الفكرية والعلمية الحقيقية وبعد ذلك سيتحدد موقعنا في خريطة دول العالم وسيكون لنا تبعا لذلك صوت مسموع ومحترم.
نحن أمة إسلام، والحل باختصار: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة.
قال الله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون).
وقال الخليفة العربي الراشد العادل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما معناه: لقد كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
ولكن أكثرنا معرضون.