العفة والإباحية.. وجها لوجه
هوية بريس – حماد القباج
منذ فجر التاريخ والأشرار يعملون على استدراج الإنسان بعيدا عما أكرمه الله به من قيم العفة والحياء وصيانة العرض[1]، وهي من أبرز مكارم الأخلاق التي بُعث الأنبياء عليهم السلام لإتمامها ودعوة البشر إلى التحلي بها بصفتها قيما سامية وأخلاقا عالية وأذواقا راقية لا تكتمل الحياة السعيدة إلا بها ..
وقد جعل الله تعالى الحفاظ على هذه الأخلاق وصيانتها من تمرد الشهوة وجنوح الغريزة؛ تكليفا ربانيا رتب عليه المغفرة والأجر العظيم:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
ولما كان الحفاظ على العفة يحتاج إلى صبر ومجاهدة وتضحية؛ فقد ارتقى الإسلام بجزائه إلى أن جعله: ضمان الجنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، ضمنت له الجنة” [متفق عليه].
ومن هنا اشتمل التشريع الإسلامي على عشرات الأحكام والآداب التي تصون العرض وتحفظ شرفه وتحرس فضيلة العفة في المجتمع، بل جعل التشريع الإسلامي حفظ العرض من الضروريات الخمس؛ وهي: النفس والعرض والعقل والمال والصحة.
وقد انعكس هذا على المجتمع الإسلامي[2] الذي زخر بصور سامية من صور العفة وصيانة الشرف؛ من مثل ما ذكره ابن رجب عن رجل أنه راود امرأةً في فلاة ليلاً فأبت، فقال لها: “ما يرانا إلا الكواكب؟”
فقالت: “فأين مُكَوكِبُها (أي أين الله؟) ألا يرانا”؟!
قال النابغة فى العفّة، (قيل: وهو أحسن ما قيل فيها):
رقاق النعال طيّب حجزاتهم … يحيّون بالرّيحان يوم السّباسب[3]
ومنهج الإسلام في معالجة موضوع الدافع الجنسي يقوم على عنصرين أساسيين:
العنصر الأول: الحث على الزواج والتبكير به؛ لأن الزواج يضمن تلبية الدافع الجنسي بأفضل الصور وأسلمها.
وقد اعترف باحثون بأن الزواج هو التصرف الطبيعي الذي يمكن للإنسان أن يقوم به، وليست العلاقات غير المشروعة.
وفي مقالة نشرت على جريدة ديلي ميل البريطانية بتاريخ 19/12/2008 اعترفوا بأن الزواج أفضل للأطفال، وأن العلاقات الزوجية تكون أكثر استقراراً، وبالتالي تنعكس على استقرار الأطفال في المنزل.
كما وجدوا أن 70% من المجرمين يأتون من بيوت غير شرعية!
العنصر الثاني: حماية المسلم من الكبت وآثاره حين لا يتهيأ له الزواج المشروع، وعماد هذه الحماية الأمور التالية:
1- الثقة بحكمة الله في قضائه وقدره والتسليم الكامل لمقاديره والأمل بالثواب العظيم على العفة والصبر عن المعصية.
2- ترسيخ عقيدة اليوم الآخر وأن فيه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية للمؤمن، وأن الدنيا ظل زائل ومتاع غرور لا يدوم ولا يبقى.
3- توجيه النفس لعبادة الله تعالى وفعل الخير وتوجيه الإرادة لكل أمر سام يصرف همة النفس وطاقاتها إلى الفضائل.
4- إضعاف مثيرات الجنس الداخلية في الجسد بالصيام.
5- إبعاد المسلم عن المثيرات الخارجية؛ بما شرعه الإسلام من أحكام الحجاب بمفهومه العام الذي يشمل الستر وغض البصر ومنع الاختلاط والخلوة ..
6- اليقين بالفرج بعد الشدة وأن مسبب الأسباب سيهيئ له أسباب التمكن من الزواج: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]
وفي مقابل هذا المنهاج الرباني؛ تمرد شيطان الإباحية ودعا الناس إلى تأليه شهوة الفرج ورفع جميع القيود عن السلوك الجنسي للإنسان، واستجاب لهذه الدعوة فئام من البشر؛ فمنهم من أطلق العنان لنفسه فكان انحرافه فرديا، ومنهم من سعى لفلسفته وتسويغه علميا وتربويا ومن خلال “الأدب الماجن” ..
وهنا برز “سكموند فرويد” بمدرسته في التحليل النفسي، وهو يهودي نمساوي من أبوين يهوديين عاش ما بين 1856 و1939، وهو مؤسس مدرسة التحليل النفسي التي حاول من خلالها تفسير نشأة المجتمع والدين والحضارة ..
أما أصل فكرة التحليل النفسي وإجراء الدراسات النفسية العلمية القائمة على الملاحظة والاستقراء والتجرية؛ فهذا من البحث العلمي الذي يشجعه الإسلام ويرشد إليه القرآن؛ وقد حث القرآن على دراسة النفس وتدقيق النظر والبحث في أعماقها، وكان هذا من أعظم ما تنبني عليه التربية في الإسلام.
إلا أن مدرسة التحليل النفسي التي أسسها “فرويد” أقامها على أساسين فاسدين:
الأساس الأول: الإلحاد بالله وإنكار الغيب
الأساس الثاني: الإباحية الجنسية، وأن الرغبة الجنسية للإنسان لا ينبغي أن تقف أمامها قيود دينية ولا أخلاقية ولا غيرها.
وفي هذا الإطار كتب “فرويد” أفكاره وآراءه في علم النفس وجعل منها نظريات علمية، ولذلك انكشف أنه لم يكن باحثا نزيها متجردا موضوعيا؛ بقدر ما كان يخدم المشروع الصهيوني الخفي الذي يرمي إلى استغلال النوازع والغرائز والشهوات لهدم أبنية الفكر الديني ونشر الإلحاد والإباحية والفساد، وهو ما يؤدي إلى تدمير الأمم والشعوب وسلبها مادة قوتها وتماسكها، تمهيدا لقيام الدولة اليهودية العالمية القابضة على ناصية الشعوب والأمم وخيراتها.
فهذا “المخطط اليهودي” عمل على بلورة وتكريس فكرة “الحرية الفردية” التي يراد لها أن تنطلق شرهة شرسة متمردة على قيود الدين والأخلاق والضوابط الاجتماعية.
ومن هنا تلخصت آراء فرويد فيما يلي:
1- الإنسان كائن مادي ناتج عن تطور المادة تطورا ذاتيا
2- كل سلوك الإنسان يرجع إلى دافع وحيد في كيانه منذ ميلاده حتى موته؛ ألا وهو الدافع الجنسي
3- ينبغي إعطاء الدافع الجنسي الحرية المطلقة وعدم تقييده بأية قيود دينية أو خلقية أو قانونية أو أسرية، وزعم أن مقتضيات الصحة النفسية تدعو إلى إطلاق هذا الدافع وعدم كبته
4- ادعى أن كبت الدافع الجنسي هو المسؤول عن الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية.
وهنا اخترع قصة خرافية، زعم أنها حدثت في تاريخ البشرية وأنها السبب في ظهور الدين والأخلاق والتقاليد؛ وهي أن الأولاد في العائلة القديمة شعروا بالرغبة الجنسية نحو أمهم، لكن أباهم منعهم، فقتلوه ليستمتعوا بأمهم ..
كما زعم بأن كل الأطفال الذكور يصابون بعقدة (أوديب) في أول طفولتهم، وهذه العقدة هي ميل الطفل الذكر جنسيا نحو أمه، ويقابلها عقدة (أليكترا) وهي ميل البنت جنسيا نحو أبيها.
إن هذه الآراء والأفكار الشيطانية سرعان ما تهاوت تحت معاول العلم والتجربة الإنسانية، كما جرى لنظيرتها “نظرية النشوء والترقي”؛ فنظرية الإباحية الجنسية كشف بطلانها واقع الغرب المادي والشرق الشيوعي؛ حيث لم تنفع شعوبها للتخلص من أمراضها النفسية القديمة، بل ما ازدادت بهذه الأفكار إلا مرضا على مرض وألما على ألم، فضلا عما أنتجته الإباحية الجنسية من أمراض عضوية فتاكة؛ كمرض الزهري والسيدا؛ مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم” [رواه ابن ماجه والبيهقي وصححه الألباني]
وصدق الخالق جل وعلا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]
ومن المؤسف أن هذا التوجه الإباحي تبنته هيئة الأمم المتحدة، وجعلت مقتضياته من حقوق الإنسان، وتسعى لعولمته وإلزام الدول بتلك المقتضيات.
والأخطر من ذلك؛ أنها ذهبت في هذا الصدد إلى أبعد الحدود:
فقد كشفت (اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل) عن تقرير خطير أعدّه (خبراء) تابعون للأمم المتحدة، حول وضع الطفلة التي هي دون الثامنة عشر وحقوقها المزعومة، وذلك لمناقشته خلال الجلسة الحادية والخمسين لـ(لجنة المرأة) بالأمم المتحدة.
يحتوي التقرير على حق الطفلة دون الثامنة عشر في الحرية الجنسية بعيداً عن أي توجيهات أسرية أو مجتمعية! وحق الطفلة في الجنس خارج إطار الزواج! وكذا التوصية بمنع الزواج المبكر! وشدّد على ضرورة سن قوانين صارمة ضد من يخالف ذلك!!..
والأعجب أن التقرير أوصى بما أسماه حقوق الفتيات السحاقيات والشاذات جنسياً، وحق تحديد الهوية الجنسية للفتيات؛ بمعنى حرية اختيار الشريك من نفس الجنس أو من الجنس الآخر، وزعم أن الدين -خاصة في الدول التي يعتبر فيها أساس التشريع- يُقَيّد ويحد من فرص المساواة، ويزيد من حدة العنف، وطالب ببذل الجهود لتغيير المعتقدات والأعراف!! وأن التركيز على عذرية الفتاة وخصوبتها تمثل شكلاً من أشكال التمييز ضد الأنثى!!
وبديهي أن مثل هذه التقارير، ومن ثم ما يترتب عليها من توصيات، تتحول إلى قرارات موجهة أساساً إلى العالم الإسلامي، لأن الدول المسيحية مثلاً لا تلتزم بشرائع دينها في هذا الصدد، ومن ثم فالتوجه يكون نحو الحكومات في الدول الإسلامية التي تُرصد لمراقبتها جمعيات ومنظمات تم إيجادها وإمدادها من طرف الإمبريالية المهيمنة على شؤون الشعوب في إطار العولمة الاقتصادية المذلة، والشوملة الاجتماعية الماسخة..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يقول علماء الأدب: الحياء والكرم والصيانة والأنفة؛ كلها داخلةٌ في باب العفة.
[2] – لم تكن الانحرافات الجنسية منعدمة، لكنها كانت قليلة ومعزولة مقارنة مع مظاهر العفة.
[3] – الحجزات: جمع حجزة، وهى حيث يثنى طرف الإزار فى لوث الإزار، كنى به عن الفروج، يريد أنهم أعفاء الفروج. يوم السباسب: عيد للنصارى يسمونه يوم السعانين.