العلامة عبد الله كنون والتعريب
ذ. حماد القباج
هوية بريس – الخميس 12 نونبر 2015
لم تكن مطالب المصلحين المغاربة وليدة ما بعد الاستقلال، بل ارتبطت بمطالب الوطنيين على إثر حملة الظهير البربري في الثلاثينيات، وقد كان الأستاذ عبد الله كنون من الأوائل الذين تَصدّوا للفَرْنسة الفكرية، ودعوا إلى ضرورة تعريب التعليم والإدارة، فقد كتب في جريدة ((الأطلس)) يرد على ادعاءات المستشرق ((كولان))، وانتهى إلى أن الشعب المغربي جِدُّ متشبت بعربيته، ويقدمها في الطلب على كل لغة أخرى، يساعده في ذلك أساتذة المعاهد الدينية وعلى رأسها القرويين))1.
وعند الأستاذ كنون منطلقات ومرتكزات أساسية في اتجاه التعريب وخدمة أهدافه وغاياته تنم عن بعد نظره وتفهمه العميق للمشاكل التي يتخبط فيها النظام التعليمي بالمغرب، وقد حررها في كتابه النفيس ((معارك)) تحت عنوان: ((معركة التعريب)) وخلاصته:
– إننا لا نريد التعريب بحُجّة أن اللغة العربية قادرة أو ليست قادرة على نقل العلوم واستيعاب جميع ضروب النشاط الفكري، وإنما نريد العربية وبكل وجه، بل حتى لو كانت أحط لغات العالم وأقصرها على التعبير عن أي شيء – وما هي كذلك – نريدها لأنها لغتنا القومية وكفى!..
والذين يُزْرُون بلغتهم عليهم أن ينظروا إلى إسرائيل التي أحيت العبرية بعد موتها وجعلتها لغة التعليم والإدارة في ظرف بضع سنين، وتلك هي الهمم على حد قوله!
– إن التخلي عن العربية هو تخل عن ماض مجيد وحافل بالعظمة يزيد على ثلاثة عشر قرنا، رضيت دولنا فيه اللغة العربية، وجعلت منها اللغة الرسمية، سواء من هذه الدول من كان عربي الأصل أو بربري الأرومة، فلا نتخلى عنها، وإلا تخلينا عن تاريخنا وشخصيتنا الحضارية.
– إن تعريب التعليم وإرساءه على اللغة القومية، هو سبيل الخروج من التخلف، ((فالتعليم باللغة الأجنبية يتناقض وسياسة التنمية الاقتصادية التي تنهجها الحكومة، وتكاد تخصص لها كل نشاطها وإذا كان أول ما يخطر بالبال في هذا الصدد هو شهادة البنك الدولي للإنشاء والتعمير، والتي أوصت بتعريب التعليم، لأن الازدواجية والفرنسة مما يهدم كل جهد يبذل في سبيل التنمية، فإننا نُعَوِّل على أدلتنا الخاصة في هذا الصدد، وهي مما يدركه كل أحد بتأمل بسيط))2.
– إن الجهود التي تبذل في سبيل نشر التعليم على جميع المستويات لا ينكرها أحد، إلا من في قلبه مرض، وأن ميزانيته توازي 25 % من الميزانية العامة تقريبا، وهذا لو كان في بلد له سياسة تعليمية قومية وقارّة، لأتى بنتائج مذهلة في التطور والخروج من دائرة التخلف، ذلك أن أعظم ما يتوخى من نشر التعليم على نطاق شعبي، هو تعميم المعرفة بين أفراد الشعب وتنوير عقولهم، وجعلهم في مستوى الحياة الحضارية، وهذا لا يتأتى إلا إذا كان تلقين العلم باللغة القومية، أما التلقين باللغة الأجنبية، فنتيجته تكوين متعلمين منفصلين عن الشعب، بل عن بيئتهم الخاصة التي تشمل حتى بيتهم الذي نشأوا فيه، فغاية ما استفدناه من الجهود المبذولة في تهيئة هذا المتعلم، هو أننا أضفنا متعلما إلى القوم الذين درس بلغتهم وتثقف بلسانهم، مع تكوين عقليته وطبعها بطابع ما تحمله كل لغة من التعصب لأهلها والتعالي على غيرهم!
ومن هنا يجيء مُرَكَّب احتقار اللغة القومية وازدراء الثقافة الإسلامية عند المتعلمين بلغة أجنبية إلا من رحم ربك.
– إن الفرنسية التي اخترناها لغة تلقين في تعليمنا، أول ما تتميز به أنها لغة أمة لائكية تفصل الدين عن الدولة ومصالحها العامة، وأهمها التعليم، فتعليمُ أهلها مبني على استبعاد الفكر الديني وعدم التعريج عليه بحال، وهذا يؤثر في ناشئتنا التي تتلقاها من الابتدائي إلى العالي سلبيا، من حيث رقة الدين وضعف الإيمان، والمهم هو أن نعرف من أين يأتينا الخروج والمروق.
ويتوجه صوب الإدارة فيرى أنها غير معربة، وأن التعريب الإداري هو مِنَّا بِطرَف الثُّمام[3]، لأنه ليس عملية فنية مستعصية ولا متعلقة بموظفين أجانب، لأن الإدارة ممغربة، ويضرب المثال لسهولة تعريب الإدارة بالقطاعات التي تم تعريبها مثل القضاء وجهاز العدالة بكامله، بحيث لما أرادوا هذا التعريب لم يكن هناك شيء يقف في طريقه، ولا أسهل من تنفيذه، مع أن أجهزته ومشاكله أكثر استعصاء على تعريب الإدارة ومصالحها.
– إننا أعطينا اللغة الأجنبية أكثر مما تستحق ونشرناها أكثر مما يجب، وذلك أننا لا نتعلمها كما يتعلم أي شعب لغة أجنبية، بل إننا نحرص على تعلمها بأصولها وتاريخها وأدبها، وذلك طبعا على حساب لغتنا القومية، التي نكاد نجد كل مثقف باللغة الأجنبية يتلجلج لسانه في النطق بها ويلحن في أبسط قواعدها، ولا يعرف من كنوزها العلمية شيئا، ثم إننا جعلناها أولى الكفاءات وأعظم المؤهلات لنيل جميع الحقوق، وتولية كل الوظائف حتى الفنية منها، وكأن هذه اللغة أصبحت هي الاختصاص نفسه، وكأن كلماته وحروفها تتكون من معاني الإدارة والتدبير4.
– ويرى العلامة كنون أن الظهير البربري قد خيف منه في عهد الاستعمار فرنسة الناطقين بالبربرية في البلاد، فإن عهد الاستقلال عمل على فرنسة العرب أيضا، وأصبح اليوم الملايين من المغاربة لغتهم المفضلة هم وأولادهم هي الفرنسية، وأكثر معاملات الدولة مع الشعب بالفرنسية، وتبعها في ذلك جميع القطاعات الخاصة من شركات ومعامل ومصارف وغيرها، وأصبحنا في نظر العرف الدولي نُعَدُّ من الدول الناطقة باللغة الفرنسية، ولذلك صارت الدبلوماسية الأجنبية لا تعتمد لها في المغرب سفراء لا يحسنون اللغة الفرنسية5.
واختصارا فهو يرى ((أن هذا الأمر أثر من آثار الاستعمار الفكري الذي ما يزال يعشِّشُ ويُفرِّخ في بعض الأذهان، وإلا فإن أي تكوين علمي مزعوم لا يساوي تجريد الأمة من أهم مُشَخِّصَاتها وهو لغتها القومية، ويجعلها ذنبا في الشعور والتفكير لأمة أخرى ما تزال جروح أبنائها لنا لم تندمل بعد، ولقد أحسن الأستاذ حسن الزهراوي التعبير حين قال: إن الأوربيين في فجر نهضتهم لما أخذوا العلم عن العرب لم يأخذوا العربية أيضا بحجة أنها لغة العلم، وإنما أحيوا لغاتهم وجعلوها تساير النهضة العلمية))6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الدراسات الأدبية في المغرب؛ الأستاذ عبد الله كنون نموذجا، للدكتور أحمد الشايب (ص:249).
[2] معارك (ص:243).
[3] الثمام والثُّمة: نبات قصير في متناول كافة البهائم، لا يتأثر بكثرة الرعي إلا في الجفاف، والعرب تقول للشيء الذي لا يعسر تناوله: هو على طرف الثمام. اللسان مادة: ثمم.
[4] معارك (ص:247).
[5] المرجع نفسه (ص:234).
[6] معارك (ص:233).