العلامة عَبْد الله كْنُّونْ وَالتَّعَصُّبُ المَذْهَبِيُّ
هوية بريس – نور الدين درواش
قال العلامة العبقري عبد الله كنون رحمه الله:”كانت الفتوى قبل اليوم تدور في فلك المذهب وقواعده وتعتمد أقوال علمائه، وحاملي رايته، لا تكاد تخرج عن ذلك نادرا حينما يكون الدليل الشرعي واضحا وبمتناول الجميع، أما اليوم وبعد أن نشرت كتب السنة وشروحها، وكتب الخلاف العالي، والمذاهب الفقهية المتعددة، وأصبحت متداولة بين أيدي الناس، واطلع الفقهاء وطلبة العلم على ما بها من أدلة ومدارك تخالف ما كانوا يعهدونه، ويتمسكون به في بعض المسائل، فإن المفتي الآن صار مطالبا بتخريج المسألة على مقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، وما في حكمهما، ومقارنة المذاهب وأقوال الأئمة والترجيح بينها.” [من مقدمته لفتاوى محمد كنوني المذكوري.]
التعليق:
في الوقت الذي شعت في أنوار السنة النبوية وانتشر بين الناس فقه الدليل، وتعلق أكثر العلماء وطلبة العلم بالحجة والبرهان ما زال الكثير من الناس يُصِرُّ على التخندق داخل مدرسة فقهية معينة وعدم الخروج عنها في صغير أو كبير، حتى لو ثبت أن قول الإمام خطأ مصادم لنصوص ثابتة لم تبلغه أو لم تثبت عنده أو غير ذلك من الأسباب التي بَيَّن أكثرها الإمام ابن تيمية في كتابه (رفعُ المَلامِ عن الأئمة الأعلامِ).
لقد تعبد الله الأمة باتباع نبيها صلى الله عليه وسلم، لا باتباع غيره، وجعل الحجة في نصوص الوحيين لا في أقوال الائمة المتبوعين. ومن هنا تتابعت أقول الأئمة في التحذير من التقيد باقولهم دون النظر إلى الدليل وقد جمع طائفة من هذه الأقوال الألباني رحمه الله في مقدمة كتابه المستطاب (صِفَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ومنها:
* قال أبو حنيفة:” “إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي”.
* وقال مالك:” إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”
* وقال الشافعي:” إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت”.
* وقال أحمد:” لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا”
فالشاهد أن المتبع للأئمة حقا لا يمكن أن يترك الركن الذي أقاموا عليه مدارسهم والأساس الذي بنوا على تَدَيُّنَهُم والروح التي تتنفسها مذاهبهم وهو الاتباع؛ ويكبل نفسه في اجتهادات بشرية لا يرتضي التقيد بها وتقديمها على الدليل صاحب المذهب نفسه.
ورحم الله شيخ الإسلام إذ قول:” وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُنَصِّبَ لِلْأُمَّةِ شَخْصًا يَدْعُو إلَى طَرِيقَتِهِ وَيُوَالِي وَيُعَادِي عَلَيْهَا غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُنَصِّبَ لَهُمْ كَلَامًا يُوَالِي عَلَيْهِ وَيُعَادِي غَيْرَ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ بَلْ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ لَهُمْ شَخْصًا أَوْ كَلَامًا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ يُوَالُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ أَوْ تِلْكَ النِّسْبَةِ وَيُعَادُونَ”[مجموع الفتاوى 20/164].
والعلامة عبد الله كنون واحد من الأئمة الذين صدعوا يهذه الحقيقة العظيمة وهي وجوب مراعاة العالم للدليل والمصير إليه حتى لو أدى ذلك إلى خلاف المذهب.
ويزيد رحمه الله الأمر وضوحا في مقام آخر فيقول :”لا يجوز الأخذ بقول أحد من الناس مهما عظمت منزلته، إلا إذا صحب ذلك القول دليل قوي من كتاب أو سنة، أو إجماع، كما أنه لا يجوز تقديس أحد من الناس وجعله فوق النقد والانقياد إليه بلا حجة، فإن ذلك ليس من شرع الإسلام، وإذا كان هذا في حق الصحابة رضوان الله عليهم وهم أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، فأحرى في غيرهم.[مفاهيم إسلامية، ص:44]
مع التنبيه على أن البعد عن التعصب المذهبي؛ لا يعني أبدا إقرار تلك الظاهرة الخطيرة التي استشرت بين العديد من غير المؤهلين والمتمثلة في الجرأة على التصدي والتصدر للفتوى والترجيح بين أئمة الفقه من غير أهلية.
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتورعون عن ذلك ويتدافعون الفتوى ويفرون منها مع جلالة أقدارهم ورسوخهم وتلقيهم عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم… عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى , قَالَ: «أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا , وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّلِ» [الفقيه والمتفقه2/23].
ولا يعني هذا أيضا إقرار ظاهرة أقبح وأشنع طالما حذر منها العلماء، وهي التوجه لاستنباط الأحكام من النصوص الحديثية أصالة دون الرجوع لأئمة الفقه، ولا لكتب الشروح، فتجد الواحد يقرأ في كتاب حديثي كـصحيح الجامع أو غيره، فيستنبط بناء على فهمه القاصر من النصوص دون عناية ولا اعتبار لفقه الحديث، فيَتَوَهَّم العمومَ في موطن التخصيص، أو الإطلاقَ في موطن التقييد، أو يَتَبَنَّى حكماً منسوخاً بالإجماع أو يستقل بحكم أو فهم لم يُسبق إليه أو ينشر رأيا شاذا مات وعفى عنه الزمان لضعف حجته … أو غير ذلك من الآفات التي يقع فيها أصحاب هذا المسلك…وإذا استُقبح هذا من بعض من حَصَّل بعض العلوم أو مفاتيحها، فهو من العامي أسوأ حالا وأضَلُّ عن سواء السبيل.
والله الموفق والهادي إلى صراطه المستقيم