العلمانيون… (ختم النبوة) يعني (نسخ الشريعة الإسلامية)!
هوية بريس – ذ. طارق الحمودي
من المباحث اللطيفة التي وضع لها أبو بكر ابن العربي المالكي عنوانا في كتابه الناسخ والمنسوخ: “نسخ القرآن كله”، لكنه منع من صحة هذه الدعوى رادا على من يزعمها، وقد وجد في بعض المنتسبين للفكر الحداثي من يقول بجواز نسخ الشريعة الإسلامية وإسقاط التكاليف القرآنية، ولعل السؤال الوارد هنا، كيف يستطيع أحد دعوى نسخ الشريعة؟ ومن أي مدخل يستطيع ذلك؟
اختار عبد المجيد الشرفي التونسي طريقة غريبة في الوصول إلى تقرير هذا النسخ، وكانت نظريته قائمة على مفهوم ختم النبوة، فكيف فعل ذلك؟
يذهب الشرفي إلى أن ختم النبوة معنها «الختم لها من الخارج، أي أن هذا الختم يضع حدا نهائيا لضرورة اعتماد الإنسان على مصدر في المعرفة ومعيار في السلوك مستمدين من غير مؤهلاته الذاتية، إنه إيذان بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبة، إنه تدشين لمرحلة جديدة في التاريخ لا يحتاج فيها الإنسان وقد بلغ سن الرشد إلى من يقوده وإلى من يتكئ عليه في كل صغيرة وكبيرة، وتكون وظيفة نبي الإسلام في هذه الحالة إرشاد الإنسان إلى مسؤوليته الجديدة وتحميله تبعات اختياراته، مثله إذن مثل من أغلق باب بيته الذي هو بالنسبة إليه بيت النبوة، بيت جميع الأنبياء وختمه من الخارج، فلم يبق سجينا له، وساح في أرض الله الواسعة، ويكون بذلك قد أذن بحرية الإنسان في أن يسكن البيوت التي يبنيها بجهده الخاص بما يدله عليه عقله، بما يوفره له ذكاؤه، بما تقتضيه مصلحته الفردية والجماعية».
لم يكن ولن يكون -غالبا- الشرفي وحيدا في هذه الدعوى الصريحة، بل مثله عدد من العلمانيين، منهم محمد شحرور السوري الذي لم يتردد في التصريح بذلك فإنه قال: (التاريخ الإنساني حسب التنزيل الحكيم يمكن أن يقسم إلى مرحلتين، المرحلة الأولى مرحلة الرسالات التي انتهت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والمرحلة الثانية مرحلة ما بعد الرسالات والتي نعيشها نحن، أي أن الإنسانية الآن لا تحتاج إلى أية رسالة أو نبوة، بل هي قادرة على اكتشاف الوجود بنفسها بدون نبوات، وقادرة على التشريع بنفسها بدون رسالات)، وهذا واضح في أنه دعوة إلى إسقاط الشريعة الإسلامية إسقاط بالجملة والتفصيل.
ختم النبوة من الخارج -على حد تعبير الشرفي- يعني في عرف بني علمان نسخ الشريعة، بما في معنى النسخ من الإزالة والإقالة والإسقاط، فهي عنده تضع حدا لتسلط الشريعة الإسلامية الربانية النازلة على الإنسان، وتحرره من قيود التكليف الرباني، للاعتماد على العقل اللاديني وحده مكتفيا به عن الوحي والنبوة، مستقلا بما يمتلك الإنسان مما قد يبدو ذكاءه عن حكم الله ورسوله المضمن في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
لأن الختم يعني إسقاط التكاليف وتجاوزها إلى ما يفرزه العقل البشري من شريعة وضعية يشترك الجميع في وضعها، كل على حسب اجتهاده في توافق وتضامن، ضمن وحدة أديان جامعة، تمثل حرية الفعل الإنساني أحدَ عناصرها مع العقل وقدراته، لكن الشرفي يخفف من أثر ما قاله، بأن أعطى للوحي دورا في كل هذا، فقال: «هكذا يكون محمد بن عبد الله قد ختم النبوة ليقضي على التكرار والاجترار، وليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية، والمسؤولية الفردية والتضامن الخلاق، هكذا يكون قد أرسى الدعائم المتينة الأخلاقية Ethique كونية بحق، ولا يكون دوره محصورا في تقديم وصفات جاهزة ما على المسلم إلا أن يطبقها تطبيقا آليا أجوف».
فحصر دور الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذا الختمِ النسخِ في التوجيه العام إلى الأخلاق والمبادئ الإنسانية مثله مثل جميع الديانات الوضعية والفلسفات الأخلاقية، مع تعطيل جانب الرسالة التشريعية فيه، فإن الدعوة إلى الأخلاق قدر مشترك بين جميع الناس، وأما ما يميز الرسول فرسالته وشريعته، فالشرفي يقصد هنا نسخ الشريعة المحمدية بشريعة وضعية يتواضع عليها الناس جميعا ويتعاونون على صياغتها بعقولهم، والخلاصة في نظرية الشرفي القول بحصول نسخ الشريعة الإسلامية بشريعة إنسانية، ينتجها العقل المستغني عن الوحي في حرية وإرادة مطلقة عن قيد الحكم الإلهي المباشر، والقولُ باستقلال العقل المجرد عن الوحي قول قديم لطوائف باطنية كافرة بالله ورسوله.
قول الشرفي ونظراؤه، اجترار للنظرية البئيسة السائدة عند ملاحدة الغرب، وهي نظرية تنتهي إلى تجريد الألوهية من خصائصها، وتعطيلها من صلاحياتها ليغدو الإله الحق أشبه بملك الإنجليز يملك ولا تحكم، مدعية أن الإنسان شب عن الطوق وصار قادرا على الاعتماد على نفسه في استكناه الغيب، واستلهام قصة الوجود، ورسم الأنماط السوكية الناظمة للعلاقات البينية فيما يتعلق بالكون والحياة والآخر.
وهذه النظرية البئيسة هتك سترها وأبان عن قلقها وتهافتها ما انتهت إليه البحوث الفلسفية من اضطرابات وتناقضات وتهافتات جعلت الفلاسفة فرقا يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا وكذلك الواقع الأخلاقي المتردي المعيش