العلم النافعُ وعلاماتُ أهلِه (2)

هوية بريس – إسماعيل المرغادي

فالعلمُ النافع من هذه العلوم كلِّها هو ضبطُ نصوص الكتاب والسنة وفهمُ معانيها والتقيُّدُ في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث وفيما ورد من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك. فيجتهد في تمييزِ صحيحه من سقيمه أولاً، ثم يجتهد في الوقوف على معانيه وتفهُّمِه ثانيا ، وفي ذلك كفايةٌ لمن عقل وشُغلٌ لمن بالعلم النافع عَنِيَ واشتغل.

وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحا لكلام يتعلق بكلامهم.

فعلى العبد أن يعتني بكتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن على حذر مما حدث بعدهم وممن انتسب إلى متابعة السنة وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ بما لم يأخذ به الأئمة من قبله.

وليحذر الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فإنه شر محض. وقَلَّ من دخل في شيء من ذلك إلا تلطَّخَ ببعض أوضارهم (أي أوساخهم). ولهذا كان أئمة السلف يـُحَذِّرون من أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة. وأما من قال بذمِّ من لا يتوسع في الخصومات والجدال ونسبتِه إلى الجهل أو إلى الحشو، وإلى أنه غير عارف بالله أو غير عارف بدينه، فإن ذلك من خطوات الشيطان نعوذ بالله منه.

فمن اعتنى بكلام السلف، وكان على حذر مما ذكرنا، وأخلص القصد في ذلك لله تعالى واستعان به أعانه وهداه ووفقه وفهَّمه وألهمه. وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية الله تعالى،  كما قال عز وجل: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} [سورة فاطر:28].

وقال بعض السلف: ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية.

وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:

أحدهما: على معرفة الله تعالى وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الباهرة. وذلك يستلزم إجلالَه وإعظامَه وخشيتَه ومحبتَه ورجاءَه والتوكلَ عليه والرضا بقضائه والصبرَ على بلائه.

والثاني: على المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال. فيوجب ذلك المسارعةَ إلى ما فيه رضى الله تعالى والتباعدَ عما فيه سخطُه.

فإذا أثمر العلمُ لصاحبه هذا فهو علم نافع وهو يوجب أن تكون بين العبد وبين ربه معرفةٌ خاصةٌ، فإذا سألهُ أعطاهُ وإن دعاه أجابَه كما قال في الحديث الإلهي: “ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه” إلى قوله: “فلئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه”.^[1] وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك. تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة”.^[2]

وبهذه المعرفة يجد العبدُ حلاوةَ ذكرِ الله تعالى ودعائِه ومناجاتِه، ولا يجدُها إلا من أطاعه في سرِّه وعلانيتِه.

والناس في هذا على ثلاثة أقسام ذكرها بعض السلف فقال: “العلماء ثلاثة: عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله ليس عالماً بأمرِه، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله”.

وأكملُهم الأولُ وهو الذي يخشى الله تعالى ويعرفُ أحكامَه، فإنه جمَعَ بين أصل العلم وهو العلمُ بالله الذي يوجب خشيتَه ومحبته، والعلمِ بأحكام الله.

ومن تحقق بهذين العِلْمَين كان علمُه نافعا، ومن فاته هذا العلم النافعُ وقع فيما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وصار علمه وَبالاً عليه. هذا إن كان علمه علما يمكن الانتفاع به وهو المتلقَّى من الكتاب والسنة. فإن كان متلقًّى من غير ذلك فهو علم غير نافع في نفسه ولا يمكن الانتفاع به، بل ضره أكثر من نفعه.

وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهوَ والفخرَ والخيلاءَ وطلبَ العلو في الدنيا والمنافسة فيها، وطلبَ مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه. وهذا بخلاف ما كان عليه السلف من احتقار نفوسهم وازدرائها باطنا وظاهرا.

ومن علاماته عدمُ قبول الحق والانقيادِ إليه، والتكبرُ على من يقول الحق والإمرارُ على الباطلِ خشيةَ تفرقِ قلوبِ الناسِ عنه بإظهاره الرجوع إلى الحق.

ومنها قبولُ المدح واستجلابه مما ينافي الصدق والإخلاص؛ فإن الصادقَ يخاف على نفسه النفاق ويخشى على نفسه من سوء الخاتمة. فهو في شغل شاغل عن قبول المدح واستحسانه. وأهل العلم النافع يكرهون بقلوبهم التزكية والمدح ولا يتكبرون على أحد. وإن وقع لهم شيء مما يخالف ذلك من غير قصد واختيار كانوا في خوف شديد من عاقبته، بحيث أنهم يخشون أن يكون مكراَ واستدراجا. كما كان الإمام أحمد يخاف على نفسه عند اشتهار اسمه وبُعْدِ صيته.

ومن علامات العلم غير النافع أن صاحبه يكون متكبرا بعلمه على الناس، وشُغْلُه إظهارُ فضل علمه عليهم، ونسبتُهم إلى الجهل وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم. وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو.

وأما صاحب العلم النافع فلا يدعي العلمَ، ولا يفخرُ به على أحدٍ ولا ينسبُ غيرَه إلى الجهل، إلا من خالف السنةَ وأهلها، فإنه يتكلم فيه غضبا لله لا غضبا لنفسه ولا قصدا لرفعتها على أحد.

ويحسِنُ الظن بمن سلف من العلماء ويقر بفضلهم وعَـجْزِه عن بلوغ مراتبهم أو مقاربَتِها. وما أحسن قولَ أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود: أيهما أفضل؟: والله ما نحن بأهل أن نذْكُرَهم فكيف نفضل بينهم.

ولا بد للمؤمن من صبرٍ قليل حتى يصل إلى راحة طويلة، فإن جزع ولم يصبر فهو كما قال ابن المبارك: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع.

وكان الإمام الشافعي رحمه الله ينشد:

يا نفـس مـا هـي إلا صــبر أيــــام            كأن مدتها أضغاث أحلام

يا نفس جوزي من الدنيا مبادرة        وخَلِّ عنها فإن العيش قدام

نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل به. ونعوذ به سبحانه من علم لا ينفع يكون حجة على صاحبه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه. والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  أخرجه البخاري (6502).

[2]  أخرجه الترمذي (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد (2803). وحسنه جماعة من المحدثين وصححه آخرون.