التنوير بين الفايد والفقهاء
هوية بريس – محمد بن خالي بن عيسى
حرك الدكتور محمد الفايد مياها راكدة في المشهد الثقافي المغربي خاصة والعربي عامة، وهي مياه على العموم كان لبد من تحريكها، خاصة وأن المسلمين يمرون في القرون الأخيرة بأزمة حضارية خانقة تجعلهم يتذيلون مؤخرة الترتيب في العالم على كل المستويات مقارنة مع أغلبية دول المعمور. لكن هل لمجرد أننا نعيش انتكاسة حضارية ينبغي علينا أن نفقد تركيزنا ونخلط الحابل بالنابل، ونسارع إلى المس بعقيدة المسلم وتراثه الفقهي؟ رغم ان الكل غير راضي على الوضع المأزوم للأمة حضاريا، لسيما ان الأمر صادر عن شخصية معروفة وطنيا وعربيا، والأغرب من ذلك أنها شخصية متدينة محسوبة على الصف الإسلامي، وفي نفس الوقت تدعو إلى التنوير والتحرر من الخرافات التي التصقت بعقول المسلمين، وهي دعوة نتفق معه حولها، رغم اختلافنا على محتوى الدعوة التي مست بمقدسات المسلمين وعقائدهم، وكذلك الطريقة التي توسل بها الدكتور محمد الفايد كانت طريقة غريبة ومستفزة، لم يراعي فيها الرجل قدره ومكانته ، حتى لو أدى هذا التنوير المزعوم برأيه إلى المس بعقيدة المسلم الثابتة في القران والسنة كقضية الإسراء والمعراج ومسألة الحور العين مثلا، فلا مشكلة لديه إطلاقا، وهو الأمر الذي يدعوا إلى الإستغراب حقا، ولو خص الدكتور الفايد دعوته بفقهاء محددين دون إطلاق، كفقهاء تبرير الاستبداد السياسي لقلنا كذاك معه حق ، لكن ان تجمع الفقهاء والعلماء في سلة واحدة وكذلك الفقه وتصفه بفقه الحيض والنفاس، فإن الأمر يدعوا إلى الشك والريبة.
ومع أن الدعوة ليست جديدة، إذ مافتئت التيارات العلمانية الحداثية تثير مثل هذه القضايا لتبرير تخلف المسلمين واعتبار الدين الإسلامي سبب انتكاساتنا الحضارية، وهذا ليس غريبا على خط هذه القوى العلمانية، ولكن الغريب
أن يتم الدعوة لمثل هذه الأفكار من قبل شخصية متدينة محسوبة على الصف الإسلامي و التيار المحافظ، إذ ذهب بعيدا في إنكار قضيتي الإسراء والمعراج والحور العين قبل ان يتراجع عن موقفه بمبررات غير مقنعة، بعد كمية النقد الحاد الذي جوبه به من قبل مختلف قوى المجتمع المحافظة ، ولو أراد حقا صاحب هذه الدعوة ان يذهب بعيدا في نشر افكاره التنويرية داخل المجتمع ، كان عليه بالأحرى ان يبتعد عن التوسل بأدوات الخصوم الحداثيين المعروفة، وهي إنكار الثوابت الدينية والمعتقدات الإسلامية، وكان
الأولى به ان يتوسل بأدوات أكثر نضجا وعقلانية نابعة من داخل الإسلام وليس من خارجه في معالجة تلك المسائل وذلك بالدعوة إلى تحرير العقل المسلم من الخرافات والخزعبلات وتحرير الدين من المتلاعبين به سياسيا، وليس التحرر من النصوص الدينية الثابتة والمعتقدات الإسلامية ، وسنكون إذاك معه في طرحه جملة وتفصيلا .
فالعالم الإسلامي لايخلو من تيار التنوير الإسلامي العقلاني الذي دشنه الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، والذين لم يصلوا إلى حد إنكار بعض العقائد الدينية عند المسلمين، حينما استعملوا الحجة بالحجة والدليل بالدليل في الرد على المخالفين والدهريين والمستعمرين للنهوض بالعالم الإسلامي من تخلفه وسباته ، وليس برفع الصوت والصراخ والشتائم، والتهجم على المخالفين، ونعتهم بأقدح النعوت، مما يدل أن الرجل لم يتخلص من افكاره السلفية القديمة، رغم ادعائه أنه يحاول غرس أو تكريس فكر إسلامي تنويري عقلاني جديد في جسد الأمة العربية الإسلامية، والتي تعاني من هزيمة حضارية عميقة، لكن كيف يمكن خلق نقاش مجتمعي هادئ وحوار متزن لتكريس العقلانية والتنوير بأدوات عقلانية إسلامية ، وانت تتوسل بخطاب أقل مايقال عنه أنه اندفاعي وتهجمي يمتح من قاموس لا أعرف كيف أصفه ، بالإضافة إلى التهجم على ثوابت العقيدة الإسلامية، والتي وردت فيها نصوص قرآنية صريحة كقصة الإسراء والمعراج وقضية الحور العين، فهل بهكذا خطاب ينكر المعتقدات الدينية الإسلامية ستنافح عن فكرة أفضلية العلوم الكونية التجريبية على العلوم الشرعية؟ وما وجه الأفضلية بينهما؟ ألا يكمل بعضهما بعضا؟ ولماذا لم تهاجم العلوم النظرية الإنسانية الأخرى كعلم الإجتماع والنفس والتاريخ والفلسفة؟ أليست هي كذلك علوم نظرية لاتحتاج لمختبرات ولاتجارب؟
ونفعها احيانا نفسه نفع علوم الدين ؟ ام ان إستعداء الدين وأهله صار وسلية كل من يعتقد أنه ملخص الأمة من الانحطاط ؟ وما التجارب المختبرية التي قمتم بها لتعرفوا أن الفكر الديني والتراث الفقهي عند الفقهاء والعلماء هو سبب تخلف الأمة؟ ولماذا لاتقدرون على توجيه أصابع الإتهام إلى المسؤول عن تخلفنا التاريخي وركودنا الحضاري ؟
بدل مسح اخفاقنا الحضاري في الفقهاء والعلماء وفي الفقه الذي أصبح بجرة قلم فقه الحيض والنفاس ؟ وحيث إن فقه الحيض والنفاس ورد ذكره في القرآن الكريم ونعلم أن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، كما ورد في الآية الكريمة، فكيف نستهزىء به إذن؟
إن طرق مثل هذه المواضيع التي مافتىء الحداثيون والعلمانيون يثيرونها لن يغير من واقع الأمر شيئا مادام الخوف يسكن النخب التي تختبيء وراء فكرة ان الدين سبب كل اخفقاتنا الحضارية، فالمجتمع المسلم يعي جيدا الفرق بين التنوير العقلاني الإسلامي والتنوير العقلاني على الطريقة الغربية التي تعادي الدين وأهله، وبذلك يعتبرها دعوة صادرة عن أناس يعادون ثوابته الدينية والعقدية ولايقيم لهم وزنا، وأكبر ماينقض دعوة الدكتور الفايد ومن على شاكلته، كون الدين الإسلامي لم يسجل عليه في تاريخه الطويل معارضته للعلم أو التصدي للعلوم على أصنافها، اذا راعت هذه العلوم مصلحة الإنسان والحيوان والطبيعة، بعكس الغرب المسيحي الذي شهد معارك بين رجال الدين ورجال العلم التجريبي في القرون الوسطى ، فلماذا يصر الفايد ومن على دربه على ان الإهتمام بالعلوم الحقة من طب وفيزياء وكيمياء هو مايفصل بين حضارة وأخرى،
بين تقدمها وتخلفها ، بين نهضتها ونكستها، أليس الدين ايضا ضرورة اجتماعية ومطلب روحي أساسي لتحقيق التوازن النفسي؟
فما الجديد في الموضوع إذن ؟
الجديد في الموضوع أن دعوة الفايد هي نفسها دعوة أعداء الإسلام من العلمانيين والملاحدة، ومن تيار التنوير والعقلانية والحداثة على الطريقة الغربية، إذ سبقوا إلى طرح هذه المواضيع عدة مرات، وكان منهجهم هو التشكيك في عقيدة المسلمين، والتشكيك في الأحاديث النبوية الشريفة وبعض تفسيرات القران الكريم، والطعن في الفقهاء والعلماء والتقليل من شأنهم وإسقاط القدوات، ولو أن محمد الفايد تبنى التنوير على الطريقة الإسلامية التي سبقه إليها الكثير من رواد التنوير الإسلامي وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده ، وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان، ومحمد بن العربي العلوي وعلال الفاسي وابن باديس وغيرهم ، لقلنا الرجل مجتهد ويريد تحرير الأمة من الفكر الخرافي كما فعل هؤلاء الذين ذكرت ، وهم تيار السلفية الإصلاحية، التي تتبنى افكار التحديث والتنوير والعقلانية الدينية كمنهج بديل عن القراءات التقليدية دون الخروج عن الثوابت الدينية والمعتقدات، لكن محمد الفايد ذهب مباشرة إلى هدم العقائد، التي وصفها (بمكاين لاحور عين ولا ستي سطاش) وهي دعوة تلتقي مع تيار التنوير المادي العلماني المعادي للدين في العالم الإسلامي ، كيف تريد يالسي محمد الفايد أن يكون لفكرك صدى مثل افكار الإصلاحيين الكبار وانت تطعن في معتقد المسلم، وأكثر من ذلك، انك تريد أن تستفرد بالفتوى وتعطي حكمك الشرعي في النوازل الفقهية المستجدة ، فقط لأنك كما قلت، انت من تطلع على خبايا الصناعة الغذائية ومايتعلق بها، وبالتالي لاتحتاج فقيها يفتيك. إذا كان الأمر كذلك فلماذا تقدح في الفقه والفتوى وتعتبر الفقه فقه حيض ونفاس، أليس هذا تناقض؟ تريد أن تفتي الناس كفقيه حافظ للقران لكنك تنزع ذلك عن غيرك وتقدح فمن يشتغل بالفقه، إذ صار الفقه عندك فقه حيض ونفاس لايقدم ولايؤخر؟
إنه فهم قاصر نوعا ما، لأن الأحكام الفقهية وتفريعاتها أصولا وفروعا لم يأتي عبثا هكذا ، بل كان وراءه اختلاف مذهبي من الخارج ومن الداخل، لإيجاد حلول لمشكلات وقضايا لصالح الناس وأسئلة المجتمع ، حتى لايتم احتكار الفتوى وفرض رأي واحد على الناس في كل نازلة ، واحتكار الحكم الشرعي والتضييق على الناس في فهم الدين ، بل لبد ان يتسع المجال للأقوال والاراء في النازلة الواحدة ، وهذا ماغيبه محمد الفايد عن الناس وهو يعي هذه الأمور جيدا ، فهو يريد ان يقول انه هو من عليه إصدار الفتوى باعتباره متخصصا في الصناعات الغذائية، وليس الفقيه من عليه إصدار الفتوى الذي لم يصنع غذاء ولم يشارك فيه ، وهي دعوة جاهلة حملها قبله محمد شحرور المهندس، لكن كيف يريد محمد الفايد المهندس مثلا استصدار الفتوى والأحكام وهو متخصص في علوم تجريبية وغذائية ويمنع ذلك عن علماء الشريعة الذين هم متخصصون في صناعة الفتوى بالاستناد إلى الحكم الشرعي والحكم العلمي التي تصدره الجهات المختصة؟ فمتى كان الفرق عندنا بين العلم الشرعي والتجريبي ؟ انهما علمان يكملان بعضهما البعض،
ألم يكن ابن رشد طبيبا وفقيها وابن سينا والفارابي كذلك. وأسماء اخرى زاوجوا بين العلم الشرعي والعلم التجريبي دون اي حرج ، ودون قدح في الفقه والصناعة الفقهية، ولنا في إبن رشد خير مثال إذ ألف كتابا في الفقه أسماه ‘ بداية المجتهد ونهاية المقتصد ‘ وهو كتاب في المقارنة الفقية
بين المذاهب واختلاف الأقوال والآراء في الأحكام الفقية ، لكن إبن رشد رغم تخصصاته المتعددة لم يقدح الفقه ولم ينتقص من قدر الصناعة الفقهية ولا قال ان الاشتغال بها سبب تخلف المسلمين ، بالرغم من تمكنه من العلم العلوم الدنيوية الأخرى ، بل دافعوا عن الشريعة من كل هجمات الغنوصيين ومختلف المذاهب المادية التي كانت تحاول هدم روح الدين، لقد أخطا الدكتور محمد الفايد رغم احترامنا له عندما انتقص من العلم الشرعي علم دم الحيض والنفاس حسب رأيه وجعل العلم الشرعي علم في متناول الجميع وعلم من السهولة بمكان وهذا خطأ اخر.
لقد تناول الدكتور الفايد الموضوع بسطحية موجهة للاستهلاك اليوتوبي الفيسبوكي وليست موجهة لأولي الألباب ، اذ بهذا المعنى، فحتى العلوم الإنسانية من علم الإجتماع والنفس والتاريخ لاطائل من ورائها، مادمت مجرد علوم نظرية لاتستند الى العلم التجربي والمختبرات.
فلماذا اذن تخصيص العلوم الشرعية وحدها دون غيرها
بهذا الوصف القدحي .
كيف نتهجم على الفقهاء وننسب لهم كل عاهة أصابت الأمة، فحين أن هؤلاء الذين يشحدون أسلحتهم ضد العلماء والفقهاء لايجرؤون على انتقاد الأنظمة التي لارغبة لديها في تطوير البحث العلمي ولارغبة لديها في القضاء على الجهل والفقر والأمية، فماذا يستفيد الأمي الغير متعلم أن نأتيه بطبيب يخطب عليه يوم الجمعة في علوم تتطلب قدرا كبيرا من الدراسة والالمام، ماذا سيخبره؟ كيف سيحصل التواصل بينهما؟ كيف يمكن له تبسيط العلوم لتصير في متناول الأمي؟ إنها دعوة غريبة لن نجني منها إلا تكريس واقع الجهل، فالناس بحاجة لمن يخاطبهم على قدر عقولهم وافهامهم ، ثم الم يعالج القرآن الكريم ظواهر كونية فيزيائية علمية دون الدخول في التفاصيل، لأنه يعلم أن طبيعة المجتمع القبلي المكي وقبائل العرب بصفة عامة، لاقدرة لها على فهم خطاب علمي دقيق حول خلق السماوات والأرض مثلا، أو خلق الحياة، لذلك خاطب القرآن الكريم الناس أو العرب على قدر معرفتهم، وقدر ما يكمن ان يستوعبون دون غوص في التفاصيل، فكيف تريد من السادة العلماء والفقهاء أن يتفضلوا بشرح ظواهر كونية فيزيائية وكميائية لعامة الناس ، قد نتفق على ذلك لو حصلت لدينا ثورة ثقافية حقيقية وقضينا على الجهل والفقر والأمية لكان ذلك ممكنا، ولكن والأمر خلاف ذلك فلا مجال للوم الفقهاء، ثم متى كان الفقهاء ضد العلم وضد البحث العلمي مثل ما كان عليه الحال في أوربا الكنسية أوروبا القرون الوسطى؟ حينما تصدت الكنسية، للعلم والعلماء ورفضت القول بكراوية الأرض ، كما أثبت ذلك كاليلي وكوبيرنيكوس، فلم يشهد العالم الإسلامي مثل هذه الدعوة المعادية للعلم، بل بالعكس كان لدينا فقهاء وفي نفس الوقت أطباء وموسيقيين كحال ابن رشد وابن سينا والفارابي وغيرهم كثير، إن التركيز يحب ان يتجه إلى من يعرقل عجلة التقدم في المجتمع، هل هي الأنظمة ام الدول الغربية ام هما معا، أما الأفكار الدينية في العقيدة والفقه فلا اضن انها مسؤولة عن شىء من هذا القبيل، فلكل مجتمع مهما كان متقدما، له لاهوتيوه وثيولوجيوه ، إن أصحاب هذه الدعوات أناس يريدون تفكيك أو هدم الدين من الداخل واقبار وجوده بين الناس، رغم اني ابريء الدكتور محمد الفايد من هذه النية، أما مسألة الخرافات التي يروجون لها فهي مصيبة اصبتهم في عقولهم، فحتى المجتمعات الغربية المتقدمة لازالت تؤمن بشىء من الخرافة لأن طبيعة الإنسان هكذا، ولنا في المجتمع الياباني والصيني المتقدمين خير مثال، فمهما بلغوا مبلغا من العلم لازالو يعبدون الأصنام ويؤمنون بالخرافات ، وكذلك حال المجتمعات الغربية لازالوا يؤمنون بالخرافة رغم تقدمهم العلمي، وهو شىء عادي يعزى إلى الطبيعة الإنسانية.
إن ماينبغي ان يناقشه هؤلاء هو الرأسمالية الغربية المتوحشة ودولها التي تحرم على المجتمعات المسلمة امتلاك التقنية وامتلاك الصناعات ، وإن تجرأت هذه الدول السائرة فى طريق النمو على فرض الأمر الواقع يفرضون عليها أشد العقوبات الإقتصادية كحال العراق المسلم وإيران المسلمة وباكستان، وغيرها من الدول الإسلامية التي حاولت الانعتاق من التخلف لكن خناجر الغرب كانت لها بالمرصاد، ولو أدى ذلك إلى تسخير مخابراتهم للقيام باغتيالات وقتل العلماء المسلمين.
المهدي على الابواب
جزاك الله خيرا اخي وضعت اصبعك على مكمن الداء ووفيت
(ماكدو فيل زادوه فيلا) نعاني من العلمانيين الذين ابتلينا بهم وبتسرطنهم جاءنا من نعتبره منا ونحن منه….!!!