العمل الاجتماعي وسؤال مضاعفة الجهود وتضافرها
هوية بريس – الحبيب عكي
شابة ثلاثينية تمارس مهنة رجولية اضطرتها ظروفها القاسية ببدل مجهود فوق طاقتها للتكيف مع متطلبات المهنة المقنعة وقساوتها خاصة في تعاملها مع زبناء من مختلف الفئات، يغشون عليها فضائها المفتوح ولا تكترث في أن تعاملهم تعاملا مسترجلا.. جافا و سوقيا، ربما لترد على بعضهم بالمثل أو تسبق إلى فرض نفسها على غيرها كمسيطرة كفئة على الميدان، وكيفما كان الحال، فيظهر أنها بتلك المواقف الحادة والتصرفات الخشنة فقدت كثيرا من مظاهر أنوثتها وفطرتها في الشكل والمضمون. سأل السائلون عن حالتها فقيل أنها حالة اجتماعية مزرية تعيش في الشارع ظروفا صعبة وهي تدري أو لا تدري لا رزقها وفرت ولا آدميتها أبقت؟.
حالة من مئات وآلاف الحالات الإنسانية في مختلف المدن والقرى، متشردين ومتشردات.. متسولين ومتسولات.. مدمنين ومدمنات.. نشالين ونشالات.. عانسين وعانسات.. مطلقين ومطلقات.. بائعي الهوى وبائعات.. منتحلين ومنتحلات.. بطاليين مكدين وبطاليات مكديات.. مرضى ومتمارضين.. رقاة متطفلين وراقيات متطفلات.. مهاجرين سريين ومهاجرات..؟. الفقر والهشاشة والخوف والانحراف والتفكك والاضطرار يطال منهم الشباب الكبار والأطفال الصغار، مما يسائل المجتمع ككل عن حياة هؤلاء الآدميين كآدميين، بل عن مستقبل الأمة في ظل كل خطاباتها حول المواطنة والأخوة والتضامن وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا؟.
وضع اجتماعي جد مأساوي تمكنت بعض الدول الراقية من القضاء عليه، وبعضها النامي من التخفيف من كوارثه، وبعضها المتخلف لا زال يعافسه بكل قيمه الدينية ورؤاه التنموية وخططه الاستراتيجية وسياساته العمومية وبرامجه التنموية، وهو بذلك إنما يعافس خطورة ما تنتجه هذه الظاهرة المقيتة من سيادة قيم الفردانية والأنانية في المجتمع، من الاقتصاديات المتوحشة، من تفشي سلوك الحقد والغل والقطيعة بدل التراحم بين الفقراء والأغنياء، من السطو الهمجي على ممتلكات الناس وأرزاقهم بكل الطرق والممارسات، إلى غير ذلك من الاضطراب المجتمعي الذي يدفع المتضررين الضحايا للخروج على قيم المواطنة وقوانين الأمن وهم بوعي منهم أو غير وعي لا يبالون؟.
أكيد أن هناك جهودا جبارة في العمل الاجتماعي والتضامني في بلادنا كغيرها من البلدان، جهود رسمية منظمة وأخرى مدنية تطوعية، وجهود معتبرة للعديد من الهيئات والفعاليات والمحسنين والعلماء الأفاضل..، وكل هذا جيد، ولكنه لا زال يبقي السؤال حارقا مؤرقا، لماذا لا زالت تزداد عندنا ظاهرة الفقر والهشاشة والتفكك والحرمان ولا تنقص؟. ولماذا لا زالت تدخلات محاربتها في المجمل خدماتية إحسانية تفقر ولا تغني؟. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الحاجة جد ماسة وتدعو إلى ضرورة مراجعة سياستنا الاجتماعية بحزم وعزم وصدق، وفي الاتجاه الذي يحررها من شوائبها ونقائصها وموسميتها وحدود مجالاتها وبما يحقق كفايتها ونجاعتها وشموليتها، ومن أجل ذلك لابد من:
1- اليقين في الرؤية الإسلامية لتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية، رؤية تقوم بكل وضوح على مبدإ التضامن وقيم التكافل والتعاون، قال تعالى بكل وضوح وجلال: ” إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ” التوبة/60. وهذا مبدأ واضح يجعل الأموال والخدمات والمساعدات دولة بين الجميع، من الجميع وإلى الجميع وليس بين الأغنياء فقط، وهو تزكية تربوية وقيمة خلقية تغني الفقراء ولا تفقر الأغنياء؟.
2- مضاعفة وتنظيم الدولة لجهودها في المجال الاجتماعي، باستنهاض كل موارده المعطلة كالوقف والزكاة وترشيد مصارفه غير المحكمة، في شكل خطط وبرامج ناجعة وهيئات ومؤسسات فعالة، تتعقب كل مظاهر العوز والحاجة الاجتماعية عبر الزمان والمكان وتستبقها كحق للمحتاجين يحقق لهم كرامة المواطنة وعدل الإنصاف، بحيث تسعى مستحقاتهم إلى كل المستهدفين المستحقين منهم وتصل إليهم بكل يسر في الوقت المناسب، لا كما هو الحال في بعض الأحوال يطلبونها وينتظرونها فلا يجدونها ولو ولج الجمل في سم الخياط، أو يجدون بعض فتاتها طوارئ دون طوارئ وفي موسم دون موسم أو في مجال دون مجال؟.
3- تحمل ذوي القربى مسؤولياتهم اتجاه ذويهم ومعارفهم من الفقراء والمحتاجين والأصدقاء، وهم الأقرب إليهم مودة وثقة، والأعرف بهم وبظروفهم وملابساتهم ونفسياتهم وحاجياتهم، ولو أن كل الأقارب اعتنوا بأقاربهم وأصدقائهم فقط قدر الإمكان ما اكتظت كل هذه الشوارع والمحطات والملاجىء بكل هذه الجحافل من المهملين من المسنين الكبار والهاربين من الأطفال الصغار، ممن كان قبل هذا يتكلف بهم مجرد المحسنين من الأخوة والأخوات والآباء والأمهات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والجيران والأصدقاء والجارات والصديقات..؟.
4- تشجيع جمعيات المجتمع المدني والقطاع الخاص المواطن على الإسهام في التخفيف من الوطأة الاجتماعية في الاتجاه التشاركي الخدماتي، نعم، ولكن أيضا في الاتجاه الترافعي التشريعي لدمقرطة الخدمات وتعددها واستدامتها، وأيضا في اتجاه البحث العلمي حول المعضلة الاجتماعية تجاربها وتطوراتها.. تعقيداتها وإبداعاتها، وفي الاتجاه التكويني المنتج أو ما يسمى بالاقتصاد الاجتماعي التضامني والمشاريع المدرة للدخل كما يقول المثل: “لا تعطيني كل يوم سمكة ولكن علمني كيف أصطادها”، هذا التشجيع الذي لن يكون – كما يحدث اليوم – بالحسابات السياسوية والمقاربات الأمنية الضيقة، ولا القوانين الزجرية التي تفرض وكأنها لتعميق المعضلة الاجتماعية وتشديد وطأتها، كقانون الإحسان العمومي (18.18) الذي جاء يضيق على الأعراف الوطنية في الوقف والصدقات وفي التبرع والعباسيات، ورغم ذلك مرره الممررون جملة وتفصيلا رغم رفض الجمعيات الخيرية والإحسانية له وترافعها القوي ضده؟.
5- مساعدة الضحايا لأنفسهم وبذل وسعهم لإنقاذهم وتحسين أحوالهم بأنفسهم، خاصة الذين يمكن لهم ذلك وكثير ما هم، فما حك جلدك مثل ظفرك وما حل إشكالك مثل جهدك وسعيك، وطبعا، قد يكون مثل هذا الأمر صعبا جدا من الناحية المادية الهشة والمنعدمة للمحتاجين، ولكنه قد يكون جد ممكنا من الناحية المعنوية، فقط، لو يجد هؤلاء المحتاجون المعانون من يرفع من معنوياتهم والثقة بأنفسهم وإزالة ما علق بطيبوبتهم وفطرتهم من أدران، ويوضح لهم عبر مرافقته لهم حقيقة ما يحول دونهم ودون طموحهم من أوهام ويحول دونهم ودون مبادراتهم وبداياتهم من أسقام، وكلها عوامل مهمة لصقل جوهرهم الإنساني الناصع واستعادة آدميتهم الدفينة وكرامتهم المسحوقة وتحقيق طموحاتهم الممكنة؟.
قد يرضى المرء بقضاء الله وقدره في أن يكون فقيرا محتاجا، وقد يقبل أن يمارس أي شيء حقير تحت ضغط المرارة والاضطرار ما لم يكن حراما، لأنه قد “قد تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”، ولكن، من الصعب أن يقبل المرء بالمذلة والمهانة وهي كل يوم تأتي على آدميته وتريق من كرامته وما تبقى له من شعوره الإنساني، وتسقي فيه جذور التوتر والغل ضد من يعتقدهم يأكلون غلة شبابه ويضيعون حاجة شيبته.. يضيعون كرامته ومواطنته في دولة طالما رفعت شعار: “الدولة الاجتماعية”.. “الدولة المواطنة”.. “الدولة الحقوقية”.. “الدولة التضامنية”..، لكن بأي معنى وبأي مبنى إذا لم تتضاعف وتتضافر جهود الجميع في المعضلة الاجتماعية كما تستوجب ذلك الحاجة الميدانية الملحة والمتسعة والمتفاقمة لجحافل من الفقراء والمساكين، وضجيج الأرقام يتحدث عن حوالي 80 % من المواطنين غير موظفين، وأزمة “كوفيد 19” أوصلت المساعدات إلى حوالي 500 ألف أسرة عدد أفرادها يفوق 25 مليون نسمة.. وهم ينتظرون وينتظرون في كل المناسبات.. وحتى لا يكون جزاء انتظارهم مجرد السخط والانتظار لابد من تدارك هذا التضييق المجاني في الموضوع مع الإبقاء على المراقبة اللازمة في أنشطته، وذلك حتى تكون جهودنا رسمية قطاعية ومدنية تطوعية.. جماعية ومنتظمة.. مضطردة وكافية.. شاملة ودائمة.. وطنية ومجالية.. قريبة وميسرة.. ويشعر الجميع بدفء تضامنها وهو من دفء تضامن واستقرار وازدهار هذا الوطن؟