العناية بالكتاتيب القرآنية المسماة أيضا بالمحضرات أو المحاضر
هوية بريس – متابعة
كما أن الدارس لا يفوته أن يضع اليد على بعض السر وراء ما عرف به المغاربة من شفوف المنزلة في الحفظ على غيرهم، ذلك أن البلاد المغربية قد فتحت في الحقيقة بالقرآن، ولم تفتح بالسيف والسنان، ومن ثم فقد كان القرآن أول ما توجهت إليه هممهم، فلم يقنعوا منه بما دون المثل الأعلى في الحذق والرسوخ كما تمثل فيهم بحق قول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فـتـمكـنــــا
ومن هنا لم يكن مستغربا أن نسمع عن الكثرة والوفرة التي عرفتها حركة إقامة الكتاتيب في الحواضر والبوادي، منذ أول الفتح وفي سائر العهود اللاحقة، حتى إن عددا من الدول التي حكمت المغرب كان مؤسسوها معلمين في الكتاب كعبد الله بن ياسين الجزولي، ومهدي الموحدين محمد بن تومرت الهرغي المصمودي، وصاحبه عبد المؤمن بن علي الكومي. ومن محاضرهم تلك انطلقت حركاتهم ودعواتهم.
وإذا كنا نقرأ في كتب التاريخ الأندلسي في عهد ازدهار حكم بني أمية بها عن مقدار ما بلغته الرعاية الرسمية في احتضان التعليم القرآني، حتى قيل إنه في عهد الحكم المستنصر (ت366هـ ــ977م) بلغ عدد الكتاتيب المقامة حول جامع قرطبة لتعليم أبناء الفقراء سبعة وعشرين كتابا، وحتى قال في ذلك الشاعر ابن شُخَيص يمدح المستنصر المذكور بذلك:
وساحة المسجد الأعلى مكللةٌ
مـكاتبا لليتامى في نواحيهـا
لو مكّنَتْ سُوَرُ القرآن من كَلِمٍ 1
نادتك يا خيرَ راعيها وتاليها
وزيادة في إكرام المؤدبين (المعلمين) (حبَّسَ الحكم المستنصر حوانيت السراجين بقرطبة على المعلمين لأولاد الضعفاء).2
إذا كنا نقرأ ذلك عند ابن عذاري المراكشي، فإننا لا نفاجأ بعدها بما ذكره عبد الواحد المراكشي صاحب “المُعجب في تلخيص أخبار المغرب” من قوله نقلا عن ابن فياض صاحب تاريخ قرطبة حيث يقول: “كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة، كلهن يكتُبن المصاحف بالخط الكوفي”.
وقد علق صاحب المعجب على ذلك بقوله: “هذا ما في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها” .3
في مراكـش
وفي مراكش، بعد قيام الوحدة بين عدوتي المغرب والأندلس في أوائل عهد الدولة المرابطية على يد يوسف بن تاشفين (ت500هـ ــ1107م)، تدفق هذا النشاط القرائي العارم فصادف التربة الخصبة النقية وترعرع، ولم يلبث أن بلغ أوجه مع استبحار العمران في عاصمة البلاد حتى ذكر الحافظ الذهبي 4 في ترجمة يعقوب المنصور الموحدي 5 في سير أعلام النبلاء أنه أنشأ بمراكش كتابا لتعليم اليتامى وأبناء الفقراء كان فيه نحو ألف طفل، وكان يقوم بتعليمهم عشرة من المعلمين (سير أعلام النبلاء: 317/21).
في أطراف البلاد عبر العصور التاريخية
وقد تقاسمت الجهات المغربية هذه العناية والرعاية، فقام أهل كل أفق بالمنافسة في ذلك حتى بلغوا فيه كل مبلغ، ونبغ منهم النوابغ الموصوفون بالحفظ والتحصيل ورسوخ القدم في هذا الفن، بل كان لبعض الجهات ما يشبه التخصص في جوانب معينة، كاشتهار أهل سوس 5 بإتقان الرسم والضبط، وأهل جبالة 6 بحفظ العدد (الحَطَّ)، وأهل سجلماسة 7 بقواعد التجويد والأداء، وأهل فاس بحفظ القراءات والأسانيد. وقد كان بقبيلة السراغنة دوار يسمى بأولاد صبيح قد صار يسمى في تلك الأوساط في القرن الماضي بدوار “الشيخ حمزة”، وذلك لكثرة من كان يحفظ قراءة “حمزة” فيه من سكانه. وهذه التسمية ظلت معروفة إلى وقت قريب كما ذكر ذلك العلامة الفقيه الرحالي في بعض مقالاته في مجلة “دعوة الحق”.
على صعيد القبائل والمناطق
فقد اشتهر عند طلبة القرآن في العصور الأخيرة هذا الرمز الذي يرمزون به للقبائل والمناطق التي اشتهرت بازدهار قراءة القرآن فيها بصفة متميزة، فيرمزون لها برمز (مسجد) فالميم مسفيوة 8 ، والسين سوس، والجيم جبالة، والدال دكالة 9. وقد ذكر بعض المشايخ أنه في مدرسة سيدي الزوين10 كان يجتمع القرآن كله في الألواح.
في عهد السلطان المولى الحسن الأول
ولما كان المولى الحسن الأول (ت1311هـ-1894م) قد ورث عن أسلافه الميامين هذه الرعاية السامية، فقد نفخ فيها روحا جديدة بما سنه من إجراء مسابقات موسمية بين الحفاظ يرشح لها النبغاء والحذاق، لاسيما من جمعوا بين الحفظ المكين وبين صغر السن. وقد خلد لنا التاريخ قوله حين عُرِضَ عليه الشيخ أبو شعيب الدكالي 11 وهو في الصبا، وقد حفظ القراءات السبع وربع العبادات من متن الشيخ خليل: “تضاعف لأبي شعيب الجائزة، لصِغَر سنه، وكِبَر فنه” 12.
الخاءات الثلاث
وقد كان مما يقال في عهد المولى الحسن، وكان شائعا ما بين الطلبة: “من أراد الحظوة والمنزلة عند السلطان فعليه بحفظ الخاءات الثلاث: “خليل وخَلَف وخلاد” يعنون بذلك حفظ متن خليل في الفقه المالكي. وحفظ قراءة حمزة من روايتي راوييه: خَلَفٍ 13 وخلاّد”.14
في عهد السلطان سيدي محمد الخامس
وفي عهد الملك سيدي محمد الخامس، ولا سيما بعد أن تنفس المغاربة الصعداء، وتنسموا نسائم التحرر من الاحتلال، عادت العزائم جذعة، وانطلقت همم الملك وشعبه لإعادة بناء مغرب الاستقلال، وإحياء ما اندرس أو كاد من المعاهد والمدارس والجوامع القرآنية، والمؤسسات الدينية، فكانت الوثبة التي أنعشت الأمل في النفوس، وأخذ الغراس الخير في مدارس القرآن وكتاتيبه في المدن والقرى يؤتي أكله الزكي كل حين.
فما زال صوت الشيخ المقرئ المجود سيدي محمد ابن موسى رحمه الله الذي اكتشفه السلطان محمد الخامس، واستبان فيه تلك الموهبة التي ما زلنا نعيش من خلالها ذكراه مع ما يذاع إلى اليوم من تسجيلاته بالطريقة الفذة التي خلد فيها طابع مدرسته في القراءة المغربية إلى الأبد. وإنما كان المجود ابن موسى واحداً في طبيعة الكوكبة التي أعطت لأهل القرآن رسمياً ذلك النفس الذي بقي متواصلاً إلى اليوم.
في عهد الملك المجدد المولى الحسن الثاني
وفي عهد المولى الحسن الثاني اكتمل هذا الصرح واستطال وزاد شموخاً، فانطلقت المؤسسات تجني ثمار عقود من البناء استطاعت من خلالها أن تجدد هياكلها، وأن توسع من ميادين عملها في أكثر من اتجاه، وانتعشت مدارس القراءات، واتسعت حركة الكتاتيب، وفتحت الدولة عن طريق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية آفاقاً جديدة ورحبة لتفتيق مواهب الناشئة في ميادين الحفظ لكتاب الله، وتجويده والمنافسة فيه، فأحدثت لذلك البرامج الإذاعية، والمسابقات الموسمية، ورصدت الجوائز القيمة والمكافآت المهمة لحفز همم الناشئة ولطلب المزيد من الحذق والتبريز في هذا الشأن.
وهكذا أصبح قراؤنا، في أواخر القرن الماضي، يشاركون وينافسون في مسابقات ومباريات التجويد والحفظ، ويحصلون على الجوائز والمراتب المشرفة في عدد كبير من دول المشرق العربي والعالم الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ انظر كتاب البيان المُغرب في تاريخ المغرب لابن عذاري المراكشي. مجلد 2 ص 241-240.
2 ــ البيان المغرب الجـزء الثانـي ص 249، وانظر كتاب قراءة الإمــام نافع عند المغــاربة للدكـتور عبد الهادي حميتو، مجـــلد 1 ص 55. نشـــر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
3 ــ انظر المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي. ص 520، بتحقيق بديع حقي.
ــ هو أبو العباس أحمد بن محمد بن قيماز الذهبي الدمشقي صاحب كتاب سير النبلاء، ومعرفة القراء الكبار توفي سنة 748هـ ــ1347م.
4 ــ هو يعقوب بن يوسف بن عبد المومن بن علي أشهر ملوك الموحدين وصــاحب المنــشآت الأثرية الفخمة كصومعة الكتبية بــمراكش وحســان بالرباط والخيرالدا بإشبيلية، وهو مؤسس مدينة رباط الفتح (عاصمة المغرب). توفي سنة 595هـ ــ1199م.
5 ــ يطلق هذا الاسم قديما على قبائل الجنوب المغربي ما بين نهر أم الربيع والصـحراء المغربيــة، وفي زمننا على القبــائل الجنوبية مما يلي تارودانت وأكادير إلى مدينة كلميم في أول الصحراء المغربية.
6 ــ يطلق هذا الاسم على سائر قبائل شمال المغرب ابتداء من فاس إلى سواحل الحسيمة وتطوان وطنجة.
7 ــ هي عاصمة بني مدرار قديما، وتقع أطلالها اليوم في مدخل مدينة الريصاني بإقليم الرشيدية في شرق المغرب.
8 ــ هي القبيلة المحاذية لمدينـة مراكش من جهة الشــرق، وتمــتد على سفوح الأطلـــس الكبير، وعاصمتها قديـــما مدينة أغمـــات، وتمتاز بوفرة مياههــا وكثرة ثمارها.
9 ــ هي القبيلة الواقعة على ضفة نهر أم الربيع ما بين الشاوية وعبدة وأحمر والرحامنة وقاعدتها مدينة الجديدة.
10 ــ هي المدرسة القرآنية التي أنشأها المقرئ والولي الشهير سيدي محمد الزوين الحوزي الشرادي بقرب سوق اثنين الأودايــة بحوز مراكش على بعــد نحو ثلاثين كلم غربا، وقد اشتهر بالقراءات السبع منذ تأسيسها إلى اليوم، توفي مؤسسها سنة 1311هـ ــ1894م. في نفس السنة التي توفي فيها المولى الحسن الأول، وكان يزوره في مدرسته.
11 ــ هو شيخ الجماعة في زمنه ومحدث المغرب، له رحلة إلى المشرق تلقى فيها العلم بالأزهر الشريف ورجع إلى المغرب فأسند إليه تدريس الحديث ثم ولي الوزارة، وكانت له مجالس حديثية سلطانية مشهورة، كما أقرأ الشاطبية دروسا بالزاوية الناصرية بسلا. توفي سنة 1356 هـ1937م.
12 ــ كتاب شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي الصديقي للدكتور محمد رياض:105.
13 ــ هو خلف بن هشام البغدادي المقرئ أحد راويي قراءة حمزة. توفي سنة 229هـ ــ844م.
14 ــ هو خلاد بن خالد الراوي الثاني عن سليم عن حمزة الكوفي.
مجلة “دعوة الحق” موقع حبوس.
للأسف الشديد دور القرٱن و الكتاتيب القرٱنية أصبحت من الماضي لا يأبه لها و لا تقترح برامج لإعادة فتحها.
نرجو من المسؤولين أن يعيدوا لها الإعتبار عسى أن يرفع الله عنا البلاء.
إتقوا الله في دور العبادة و تحفيظ القرٱن