العنف الرمزي وتجلياته في الإعلام وشبكات التواصل الحديثة
هوية بريس – ذ. محمد بادرة
(ليس ثمة شك ونحن نعيش العصر الالي في ان امتلاك السياسة بما هي قوة فاعلة –عنف- يكمن في تملك التقنية وليس في امتلاكها (محمد النحيل)).
-1-ان التضليل الاعلامي لعقول الناس على حد قول باولو فرير Paulo Freire هو اداة القهر الجديدة وهكذا تمثل وسائل التواصل والاتصال الحديثة احدى الوسائط المهمة التي تسعى الطبقة السائدة من خلالها الى قهر او تطويع الناس لأهدافها الخاصة وبتظليلها لعقول الناس ووعيهم انما تتامر على وجودهم المؤثر في الحقل الاجتماعي فتنتفي الحاجة الى اتخاذ تدابير اجتماعية بديلة حتى يضمن المضللون التأييد التام للنظام الاجتماعي القائم.
ان المؤسسات الاعلامية الموجهة حين تعمد الى طرح افكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي انما الغاية هو استحداث معنى زائف وانتاج وعي لا يستطيع ان يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة او ان يرفضها سواء على المستوى الشخصي او الاجتماعي.
ان السلطة في كثير من الدول لا تلجا للتضليل الاعلامي كما يوضح باولو فرير الا عندما يبدا الناس في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية اما قبل ذلك فلا وجود للتضليل الاعلامي او القهر او العنف الاعلامي بل نجد بالأحرى قمعا ماديا واجتماعيا حيث لا ضرورة لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لأذانهم في بؤس الواقع !!! وهكذا يكون التضليل الاعلامي اداة اساسية للهيمنة الاجتماعية.
2-شبكة الفايسبوك –مثلا- تعتبر من اكبر شبكات التواصل الاجتماعي في العالم وجدرانه تحولت الى فضاءات تعبيرية افتراضية يلجها الجميع بدون اذن او ترخيص “ليبصم” عليها قولا او رمزا او صورة بلا حسيب ولا رقيب وفي جدرانه اللامتناهية تنتشر كل الرموز والاشارات المثيرة والشاذة التي قد تندرج ضمن العنف الرمزي عنف يخل بالمنظومة الاخلاقية او بالبنية الاخلاقية للغة.
وتزداد خطورة هذا “الوحش” الشبكي المتشابك بالعنف الرمزي مع الناس (الفايسبوك) بسبب سرعة انتشاره وكثرة التداول والوصول الى جهاز الالتقاط البشري في سرعة اقوى من سرعة الصوت ويزداد عنف سمه المتسلل الى شرايين الجهاز العصبي للإنسان نظرا لقوته على التخفي والانسياب في العقل دون ان يشعر الفرد بهذه القوة التي تجعله يخضع لها ويصبح بذلك اداة تحركه كما تشاء ووقت ما تشاء. انها السلطة والرغبة القوية في استعمال (المخدر الرقمي).
تحول موقع الفايسبوك وباقي مواقع الشبكات التواصلية الاخرى الى فضاء للنزال والعراك “الدونكيشوتي” لكن بأسلحة الكلمة والصورة والرمز من سباب وشتم وهتك للحقيقة وتحامل وعنف لفظي وتنمر وصور البونوغرافيا وعرض “المناطق السرية” للجسد وفي مستوى افظع واعنف وصل العنف الى تطرفات لاأخلاقية من الصعب ان نتكهن بنتائجها فقبحها ولا اخلاقيتها لا تجد هدفا امامها سوى فصل كل ما هو انساني واخلاقي عن كل عقيدة ودين وسلوك قويم وعبر تجريف وتحريف معنى الحرية في الراي والاختلاف والتعدد والتالف الى تالف “التفاهات” و”السفاسف” والتسطيح او السطحية في التفكير ضمن منطق كارثي يريد الاستحواذ على العقل والفكر والقيم والتحكم في “الحشود البشرية” عبر تقنيات الاعلام والتواصل. وهي وسائل جبارة قوية لا حدود لعنفها وامتدادها تعمل ليل نهار لان يعيش الانسان واقعا منفصلا عن تاريخه الحضاري والثقافي ومنفصلا عن جوهر وجوده الاخلاقي.
ما يثير الخوف والهلع هو تداول هذا النوع من الخطاب “العولمي” المتطرف اخلاقيا وسلوكيا واجتماعيا في شبكات التواصل الاجتماعي لأنه لا يمر سريعا ثم يمحى بل يسكن الجوانب اللاواعية لذى الفرد ثم يصبح مألوفا معتادا ومقبولا في مجتمعنا مثل كل الظواهر السلبية للحياة والواقع ( الاستهتار بالقيم الانسانية – تقديح الجميل وتجميل القبيح – تعميم صور الخلاعة والبشاعة – نشر الاشاعات – التشكيك في القيم والاخلاق الدينية – ممارسة العنف اللفظي والرمزي على الاخر… ) فلا نقدر على صده ولا محاربته وهو ما يصطلح عليه في الدراسات الاعلامية (اضعاف الحساسية ضد الممنوعات الثقافية) وبالرغم من المعايير الدولية لحرية الانترنيت التي نصت على احترام حقوق الانسان وحريات الاخرين يبقى هذ الفضاء الافتراضي منبعا للعنف الرمزي وللتجاوزات وانتشار الكلمات والصور والرموز العنيفة والخطاب الظلامي القائم على التبخيس والتشكيك والعنف ضد راي الاخر او احتقار ثقافة الاخر او التعدي الرمزي على الاخرين …. كل هذا العنف المتشاكل والمتشابك اصبح مادة مستهلكة في مواقع الفايسبوك وما شاكله مما يعكس سوء استعمال خدمات هذه المواقع الافتراضية.
3-تؤكد الكثير من الدراسات والبحوث الميدانية ان مشاهدة الاطفال لأعمال العنف عبر اجهزة الاعلام من فضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي التي تعرض الاشرطة والصور العنيفة بشكل مكثف ومتواصل ثم “يبتلعها” الاطفال عبر المشاهدة لعدة سنوات من عمرهم تيسر اكتسابهم للسلوك العدواني، وعلينا ان لا ننسى ان تكرار مشاهدة اشرطة وصور العنف والدعم الاعلامي الشامل لها يمثلان عوامل جوهرية في نشر رسالة العنف في مجتمعاتنا ومؤسساتنا واسرنا ومدننا واحيائنا..
وتوجد علاقة قوية بين كثافة مشاهدة الطفل لأفلام العنف وسلوكه العدواني وكذلك بين عدوانيته وهو طفل وعدوانيته وهو مراهق او عدوانيته وهو اب او مسؤول او.. وفي مؤسساتنا التعليمية والتربوية اذا اعتاد الطفل او المراهق العدوان انخفض اداؤه الدراسي وتناقصت مهارته الاجتماعية وحين يتكرر تعرضه لمواقف محبطة فإنها تستثير بدورها غضبه وهو ما قد يتبعه عنف وعدوان.
ان ضغط وسائل الاعلام وعنفها تساهم بشكل مباشر في تكوين ضغط اجتماعي وتؤثر بشكل اكثر فعالية في تشكيل العقول ومنظومة القيم والسلوكات فهي تملك التقنيات الفنية الاساسية القادرة على ايصال الرسالة او الصورة بنجاح تام لخدمة النظام المؤسساتي المتحكم والمهيمن، فمثلا في الوصلات الاشهارية قد يبرر التدخين كعلامة للنضج والرجولة والاستقلال من خلال رسم صورة ايجابية للمدخن يتم فيها تضخيم الصفات المرغوب فيها بشكل يصل الى درجة الاقتداء.. ويبرر بدء التدخين وتعاطي المؤثرات (الطبيعية والمصنعة) بالاعتقاد في فوائد تعاطي التدخين واستشراءه في صفوف الشباب واليافعين ذكورا واناثا كما ان للإعلام وشبكات التواصل الحديثة دور كبير في خلق سياق نفسي واجتماعي يحبذ تعاطي التدخين وكل المؤثرات العقلية وهو ما يفسر وجود عنف مادي ورمزي في حق جيل يرى وسائل التواصل الحديثة مدرسة لتعلم ما لم تسمح به مؤسسات التنشئة الاجتماعية والتربوية !!
ان وسائل الاعلام والاتصال الحديثة ساهمت في خلق مشهد جديد لا يعدو ان يكون لعبة استعراض قوامها خلق ثقافة (حداثية) سطحية تتلاعب بالعقول والعواطف مشكلة من فيروسات سلوكية عنيفة او ما يسميه (بوديار) “شفافية الشر و العنف” وحيث ان وفرة الانتاج من قبل امبراطوريات الاعلام والاتصال العالمي تفرض الادعان والرضوخ لعنف التقنية والتكنولوجيا الاعلامية وبما اننا نعيش هشاشة ثقافية لا تحصننا من اي غزو او تأثير فانه من الطبيعي ان يصاب التركيب المناعي للإنسان بالتلاشي والتحلل. والفرد الذي لا يملك حصانة اجتماعية واخلاقية وايديولوجية وعلمية ولا يملك رايا مستقلا يدافع عنه فان وسائل الاعلام والاتصال الحديثة تهاجم تربته غير محصنة. وكما جاء في كتاب الاشارات لابن سينا ان (المعلومات تحدث في النفس انفعالا يترتب عليه عزم او نية يدفع لاستجابة سلوكية).