العنف والعنف الرمزي وتجلياتهما في مؤسساتنا الاجتماعية والتعليمية

10 يوليو 2024 19:46

هوية بريس – ذ. محمد بادرة

العنف والعنف الرمزي ظاهرتان متفشيتان في نظامنا التربوي ومؤسساتنا الاجتماعية التقليدية منها والحديثة على السواء لان السلطة والعنف تمتد جذورهما عميقا في مجتمعنا وانهما لا يربطان الزوج بزوجته او الاباء بأبنائهم فحسب بل يربطان ايضا المدرس بتلميذه والسيد بتابعه ورب العمل بعامله والحاكم بمحكومه والشيخ بمريديه…

ان العلاقات التي تسود مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية يطغى عليها مناخ الكبت الفكري الذي يعمل على تعطيل طاقات النمو حيث استخدام القوة لذات القوة ومنها العقاب والتهديد والتوبيخ والعنف المادي والرمزي والتمييز والحرمان من الحقوق بل وحتى مصادرة الحركات الارادية واللاإرادية لأجل التحكم وفرض الانضباط داخل الفصل الدراسي وفي كل الفضاءات التربوية والاجتماعية عموما وتحولت المدرسة بفعل كثافة العنف والعنف الرمزي الى شبه سجن في متخيل الطفل والمتعلم وتبدو المؤسسة في هذا الوضع المختل عبارة عن فضاء ومكان لتصريف العنف وان العقاب يتهدد “مرتاديه ” كما ينعكس هذا العنف سلبيا على تركيبة الطفل النفسية ونموه المعرفي. (محمد بوبكري).

ان السلطة التربوية القائمة على الانضباط والامتثال بواسطة العنف والعنف الرمزي ما هي الا استمرارا لعملية التنشئة الاجتماعية في مجتمع ابوي قاهر عنيف ومتسلط حيث يترعرع الاطفال في كنف سلطة يرهبونها ويجب عليهم احترامها والرضوخ لها بل والاعجاب بها.

من داخل الاسرة ومن المحيط العائلي تتسيد السلطة الابوية من خلال تنشئة الاطفال على الطاعة والخضوع والتبعية للكبير والقوي مع فرض اساليب عنف مادية ورمزية.  والأسرة هي الرحم الذي ينشا فيه الفرد وينمو ويكتسب ثقافته ويشكل شخصيته ويستمد منها سلوكاته ولذا فان القيم المتأصلة المتوارثة هي التي توجه سلوكات افراد الاسرة وهي التي تتحكم وتحكم العلاقات الاجتماعية بشكل عام ومن مظاهرها تلك الممارسات السلوكية التي يؤطرها العنف والطاعة والانصياع باستعمال كل الاساليب الصارمة من التهديد والوعيد – او استعمال الضرب المباشر ضد الاطفال الخارجين او المخالفين لقواعد الانضباط السلوكي المتوارث ابا عن جد – او الحكم السلبي عليهم بنعتهم بأوصاف مذلة ومحتقرة كتشبيههم بالحيوانات او ما شابه.. كما ان اسرنا في العديد من المناطق القروية لا تزال تلجا الى استعمال خطاب التخويف عبر سرد اساطير وحكايات عجائبية وغرائبية  تفوح منها رائحة الموت والقتل والدم كحكايات (الغولة والجن والاسد والذئب..) وشعور الطفل هو شعور من (لا حول ولا قوة له امام قوى الشر التي تتسلل الى مخيلته فتزرع فيه الخوف والانكماش والطاعة والاستسلام..) والخوف من الاب الذي يأمر ويريد ان يطاع، يفرض رايه ويرفض المناقشة، يتحدث ولا يحب ان يقاطع، يسال ويكره ان يساءل، يغضب ويثور ويرفض ان يسال عن سبب غضبه..) محمد بوبكري

وفي الوقت الذي يكون فيه الفضول الطبيعي لذى الطفل بحاجة الى ان يمارس بكيفية ايجابية واعتيادية دون قيود او ضوابط الا انه لا يشجع على اقتحامه او مكافاته عليه بل يكبت هذا الفضول الطبيعي الانساني الفطري وان كل تساؤل فضولي او غيره يأتي من جانب الطفل الا  ويعتبر في نظر اولياء اموره بمثابة وقاحة و”سوء التربية” مما يضطره الى التخلي عن طرح الاسئلة او البحث عن الحقيقة معتقدا بان الظواهر التي تدفع اليها لا تستحق الاعتبار والتنويه من طرف الاباء والمربين ولا تستحق اهتمامهم فيتخذ الطفل تجاه العالم المحيط به موقف عدم الاكتراث اما الامهات فيقدمن للطفل رؤية مفزعة عن العالم مسكونا بالأغوال والجن وقوى الشر معادية للإنسان ولكن يجب عليه ان ينقاد لممارسة اعمال سحرية وخرافية للفوز برضاهم فيرسخ في ذهن الطفل ان الانسان لا يستطيع شيئا بنفسه وكل ما يمكن ان يناله من خير او شر هو من عمل قوى خارجية لا ضابط لها !!!

ان الاباء يضعون ابناءهم موضع الاستصغار والدونية كلما احسوا ان سلطتهم اصبحت مهددة برغبة ابنائهم نحو الاستقلال ” الذاتي” فيعملون على تكثيف كل انواع الضبط والخنق والكبث والاكراه مما يجعل الطفل يضطر الى التكيف مع السلطة الابوية رغما عنه عن طريق التخلي عن التحرر وكبث رغبته في الاستقلال “الذاتي”.

واشارت الكثير من الدراسات والبحوث العلمية ان العنف المادي المسلط على الاطفال يقود الى نتائج سلبية وخيمة ومنها انخفاض التحصيل الدراسي والاكتئاب والشعور بالذنب والخجل واختلال الصورة الذاتية والعزلة وضعف الثقة بالنفس وضعف التركيز والشعور بالعدوان المضاد والتحول نحو الاجرام، والطفل حين يتعرض لهذه السلوكات المحبطة والضغوطات النفسية السلبية قد يصبح متمردا وعصيا ومعاديا لنظام الاسرة والمجتمع  وحين تزيد الاسرة من وتيرة العنف يزداد الطفل تمردا وعدوانية مما قد يقوده للإدمان او الاجرام او الانتحار.

يقول ابن خلدون في كتاب “المقدمة” وفي فصل سماه – فصل في ان الشدة على المتعلمين مضرة بهم- جاء فيه (ان ارهاق الجسد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في اصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر وضيق على النفس من انبساطها وذهب بنشاطها ودعا الى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الايدي بالقهر عليه …)

وعن النظام الاخلاقي السائد في المجتمع يرى علماء الاجتماع ان التربية في مجتمعاتنا تغذي قيم العنف والتعصب للأسرة والعائلة والقبيلة والعشيرة والطائفة وهي قيم تغرس في اجواء الاسرة والمجتمع فيتنفسها الطفل مع نسمات الحياة اليومية وعواطفها وبهذا المعنى تكون التربية داخل الاسرة والقبيلة والعشيرة لا تقتل في الطفل مقومات انسانيته ووجوده الانساني فحسب بل تجعل منه جلادا لا يرحم.

ان كل من يتأمل بعمق في مقرراتنا الدراسية وحياتنا المدرسية يجد بان هذه المقررات والمناهج متشبعة بالعنف الرمزي لغة وخطابا ويطغى عليها تاريخ الاغتيالات والحروب وتصفية الصراعات بالقتل والشنق والاعدام. وان التاريخ الذي يدرس لهؤلاء الاطفال في كل المراحل والمستويات الدراسية لا يبرز فيه الا جانب الدمار والخراب والحروب والقتل الجماعي والتصفية الجسدية للخصوم والاعداء ( حضور تاريخ الحروب لا تاريخ بناء الحضارات) ومن امثلة ذلك ما يقرا ويدرس عن تاريخ العباسيين والامويين ودولة الممالك وبلاد الاندلس شعرا ونثرا وكتابة وتاريخا (المتنبي : السيف اصدق انباء من الكتب ..) او ما يدرس عن تاريخ الحروب العرقية والطائفية والصليبية او ما يدرس ويقرا عن تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية او ما يقدم للأطفال المتمدرسين عن سير الزعماء التاريخيين في الحروب من جينكيزخان الى نابليون الى هتلر وموسوليني وغيرهم ولقد وضعوا لهم مفردات هذا المقرر فلا يجدون في تاريخ هذه الحروب والصراعات غير القضايا الدرامية الدموية التي كانت تقع بين الحكام ومعارضيهم وابنائهم في صراع دموي مجنون من اجل الوصول الى الحكم والسلطة.. وبهكذا تربية وتعليم تتم عملية غرس قيم العنف وسفك الدماء في نفوس الطلاب والاطفال في وقت مبكر من تاريخ نموهم النفسي والتربوي. الم تكن لهذه التربية التي كانت تصر على تلقين كل طفل خطبة الحجاج بن يوسف عن الرؤوس التي اينعت وحان قطافها علاقة بالعنف والموت؟؟

في هذا السياق الثقافي والتربوي يقول سعد الدين ابراهيم في وصفه للوضعية التربوية التي تعزز مفاهيم الاباحية الدموية والعنف (ان جيلا كاملا في بعض دول منطقتنا الان عاش فترة تكوينه النفسي والعقلي في ظل مفاهيم تبيح القتل والتدمير ولا ترى السلام طريقة عيش ومنهج حياة) ومن شب على شيء شاب عليه وهي قاعدة منطقية فالتعصب بما ينطوي عليه من تصورات نمطية هو شيء مكتسب يتعلمه الاطفال من الكبار خلال عملية التنشئة الاجتماعية السائدة.

وفي نفس الاتجاه يؤكد قاسم الصراف على وضعية التشبع بالعنف بقوله (ان مناهجنا التربوية مشبعة بمفاهيم الحرب والدمار والعداوة والبغضاء والعنف والظلم والكراهية).

وفي هذا المنحى السلبي سارت مدرستنا (تسعى الى احراز مبدا الطاعة العمياء والمحافظة على قيم ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية القهر الاجتماعي فجزء كبير مما يتعلمه التلميذ ليس له علاقة بمحتويات الدروس وانما يقصد به طلب الطاعة المطلقة وجعل التلميذ يستهلك استهلاكا سلبيا كل التحيزات القيمية والايديولوجية التي يزخر بها اي مجتمع).

في ظل هذه الاوضاع التربوية المتسلطة غالبا ما تسود هذه العلاقات التي تفتقر الى التسامح والحب والحنان والدعم النفسي والتعزيز والمساندة والتفاهم والحوار بين اطراف العائلة خاصة بين الابناء والاباء وعلى خلاف ذلك كله يسود التنافر العاطفي والتعصب وتهيمن اساليب التسلط والتعنيف وانفعالات الغضب والعدوان وتسود النزعة الى ايجاد الحلول التربوية عن طريق القوة والقهر. وفي هذا المناخ التسلطي يفرض الاباء على الابناء انماط سلوكهم وحركتهم وفعاليتهم ولا يسمح لهم بإبداء الراي والاعتراض.

هكذا نرى ان (التعامل مع الفرد ابتداء من البيت ومرورا بالمدرسة وانتهاء بالجامعة  وسائر المؤسسات الاجتماعية الاخرى يتم في بعض الاحيان بطريقة سلطوية ولا انسانية وجامدة تقوم على اصدار الاوامر وفرضها …حتى تعودت اجيالنا الحديثة على ان يفكر لها الاخرون في كل ما يتعلق بحياتها ومستقبلها وشؤونها) وتسبب ذلك في نشوء ما اسماه بعض الباحثين ب(نهج اغتيال العقول والنفوس ) وهو ما سبب في فشل كل الاصلاحات التربوية في تحقيق احد الاهداف الرئيسية للتعليم وهو تطوير الملكات النقدية والفكر المستقل.(يزيد عيسى السورطي –السلطوية في التربية العربية)  

ان التربية السليمة والتعليم المتحرر من العنف والعنف الرمزي  هما اللذان يمكنهما ان يؤديا ادوارا ايجابية في بناء شخصية الانسان بشكل كامل متكامل ومتوازن في حين ان العنف والقمع والكبث لا ينتج الا شخصية ضعيفة مشوهة ومضطربة و غير متوازنة وهنا تبدو اهمية التربية المتحررة من القيود اذا مورست بشكل انساني ويكمن هذا الدور الايجابي في احترام حقوق الانسان واحترام حقوق الطفل والايمان بالعدالة الاجتماعية وهو ما يعني ضرورة التأكيد على مبدا التربية الاخلاقية وقيم التسامح في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية والمجتمعية.

 

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M