الغرور في زمن الفجور
هوية بريس – د.أحمد اللويزة
نحن في زمن غريب بكل المقاييس، غريب أهله في فكرهم وسلوكهم وتصرفاتهم ومواقفهم. وإن من مما يثير الغرابة هو تلك الثقة الزائدة في النفس فيما يتعلق بعلاقة الناسبربهم..
فقد مضى زمن كان الواحد من العصاة إذا نصحته اعتذر وأظهر الندم وسأل الدعاء بالهداية، مقرا بالتقصير ومعترفا بالتفريط. حتى جاء زمان لم يعد يشعر بالذنب ولا يحس بالجرم ولا يدرك شناعة المعصيةإلا نوادر من الناس وقلة قليلة. وفي حين تجد الكثرة من الناس راضون تمام الرضى عما هم فيه وعليه.
وإن منهم من أوشكأن يغرق كلا لا جزء في وحل المعاصي والموبقات ممارسة ومجاهرة وافتخارا،وإذا كلمته أو أمرتهأو نهيته أو نصحته أظهر لك من الغرور ما لا مزيد عليه، وقابلك بالقول أنهأطهر قلبا، وأزكى نفسا وأطيبها، وأن علاقته بربه أقوى وأفضل من كثير من المصلين والصائمين والعابدين والملتزمين والملتزمات.
جواب تسمعه من الرجل والمرأة، من الكبير والصغير، من الشاب والعجوز.. تسمعه من جوقة الانحراف والإفساد؛ من مغنين وممثلين وراقصات وشواذ وعاهرات وسكارى وحشاشين، ومن مختلف الغارقين في أوحال المعاصي التائهين في ظلمات الهوى والعصيان.
مفارقة عجيبة وتناقض غريب ذاك الذي يعيش عليه كثير من المنتسبين إلى الإسلام للأسف. ففي علاقتهم بربهم راضون تمامالرضى رغم بشاعة التقصير. وفي الدنيا غير راضين عن أنفسهم رغم النعيم والتيسير. مع أن العكس هو الذي ينبغي ان يصدر من العاقل الفطن الذي يرجو النجاة يوم لقاء العزيز الكبير.
إن مقارنة بين واقع المسلمين اليوم وبين ما وصلوا إليه من الغرور مع ما وصلوا إليه من الفجور والانحراف عن صراط الله والتمادي في العصيان، وبين جيل السلف من الصحابة والتابعين ومن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكيف كانت حالهم من الشعور بالعجز والتقصير في حق الله وعدم الرضى عن النفس في علاقتهم بربهم، رغم أن لهم صورا في التعبد والطاعة يعجز عنها أفضل الناس اليوم في علاقته بربه تكشف لنا حجم الغرور وبشاعته الذي سيطر على النفوس والقلوب.
وإني سأضرب أمثلة لذلكحتى ينكشف عنا وعن القوم غشاوة الغرور والاعتداد بالنفس وادعاء الصفاء والنقاء ..ليعلم هؤلاء ونعلم جميعا أن كل من شعر بالرضى وزعم أن علاقته بربه بخير وعلى خير فهو عكس ما يدعى، وأن علاقته بربه (زي الزفت كما يقولون) وهذه قاعدة فلتحفظ، فقد قالسبحانه: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
فالمؤمن التقي الزكي النقي لم يزل في خوف ووجل من لقاء ربه غير راض عن عمله ولا واثق من نفسه إلى درجة الغرور، يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَ اآتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {61}).
ولنتأمل في حديث عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم حول هذه الآية، حين قالت: يارسول الله، (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبه موجلة)،هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟قال: “لا يابنت أبي بكر، يابنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل”.
إن هذا البيان من رسول الله يجعلنا نخجل من أنفسنا ونحن نسعى جادين في طاعة، فكيف بمن هو غارق في براثين الفجور والعصيان.
ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما الشيخين أبي بكر وعمر عبرة لمن يعتبر، حتى ينفض عن عينه غبار الاغترار والاعتزاز بالذات دون خوف من عاقبة الذنوب والمعاصي. فإن أبا بكر وعمر من المبشرين بالجنة وممن ضمن له مقعدا في الجنة، تلك الجنة التي نريدها نحن اليوم بلا مقابل؛ فقط بالأماني والأوهام. رغم تلك البشارة لم يعرف عنهما ولا عن كل المبشرين بالجنة مثقال ذرة من غرور أو عجرفة واعتداد بالنفس. بل لم يعرف عنهم إلا الشعور بالتفريط والتنقيص من النفس والخوف من لقاء الله. فلا وجود للغرور والعجب بالعمل ولا الطاعة، بله الغرور بلا طاعة كما هو الحال الكثير اليوم.
حدث أبو عَبْدِ اللهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة سورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه فسمعته قرأ بأم القرآن وبهذه الآية ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. [آلعمران 3-8].
قال العلماء: قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة. فهذا الصديق أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة المبشر بالجنة الذي ما ترك خيرا ولا برا إلا سبق إليه يخاف على نفسه الردة والانتكاس، ولم يغتر بكل مناقبه ومزاياه وعظائم الصالحات ومنها ما لم يعلمه أحد غيره. فأين نحن من هذا التواضع معشر المغرورين وبلا عمل.
أما عمر الفاروق ثاني أفضل رجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمبشر بالجنة والذي كان الشيطان يهابه فلا يمر من طريق يمر منه عمر، لكن لما حضرته الوفاة لم تعجبه نفسه ولا تغره انجازاته، وقد جعل النَّاس يُثْنونَ عليه،ويذكرون أعماله العظيمة في الإسلام؛ فكان يجيبهم في قول: “إن المغرور من تغرُّونه”… وقدأظهر خوفا على نفسه في منتهى الاعجاب يصيب المغرورين منا بالخرس، إن لم يوقنوا بالهلاك.
فاقرأ ماذا قال عمر لما دخل عليه شابٌّ، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله ﷺ، وقدم في الإسلام، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال عمر: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي.
وقال لابنه: ألصق خدي بالأرض، فوضعته حتى وضع لحيته وخده بالأرض. فقال: ويلك عمر إن لم يغفر الله لك” .رواه البخاري.
فلئن كان عمر يخاف على نفسه الهلاك يوم القيامة، فأي صفاقة هذه عند البعض ليدعي أنه على خير وأن قلبه أبيض وأنه ليس بينه وبين الجنة إلا الموت.
إن المأثور عن الصحابة والتابعين من العباد الزهاد في احتقار النفس وعدم الاغترار بالعمل -وهم أهل عمل- الشيء الكثير، وهم الذين قال فيهم الإمام التقي أبو عمرو بن العلاء البصري: (مَانَحْنُ فيمن مَضَى إلاّ كبَقْلٍ في أُصولِ نَخْلٍ طُوالٍ) (موضح أوهام الجمع والتفريق).
وقد اكتفيت بذكر مثالين لأعظم رجلين في الأمة ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، ليعلم المغرورون من هذه الأمة في الزمن الغريب أن حالهم في مقابل حال أولئك أدعى لاحتقار النفس وليس ركوب أمواج الغرور المفضي للهلاك حتما يوم لقاء رب العالمين.
وإن من الغريب أن أكثر المغرورين اليوم هم الغارقون في صنوف العصيان المرتكبين للمنكرات والمزينين للباطل المنتقصين من السلف الطاهر. ولعمر الله إن هذا الغرور لهو حبل لفه إبليس على أعناقهم يجرهم به إلى دار البوار جرا، وغرهم بالله الغرور.وإن هؤلاء ليصدق فيهم قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا).
نعوذ بالله من الغرور.
جزاكم الله خيرا