الفارق بين عالم يصنع التاريخ، وعالِم يُستدعى لتبريره

24 ديسمبر 2025 01:42
حينما يكون الصوفي والأشعري.. حنبليا!

هوية بريس – احسان الفقيه

في التاريخ العربي الإسلامي، لم يكن العالِم الشرعي او رجل الدين، كائنا هامشيا يعيش في أطراف مجالس أهل السلطة، ولا تابعا يتزيّن به البلاط حين يحتاج إلى شرعنة قراراته…

كان العالِم – في لحظاته الكبرى – طرفا فاعلا في معركة المعنى والوجود، يحدّد أين تقف الحقيقة، وأين يجب أن تتوقف السلطة.

لم يكن الخلاف بين العلماء والسلطة صراع نفوذ، بل صراع تعريف:
من يملك حق القول باسم الحق؟
وأين تنتهي الطاعة وتبدأ المسؤولية الأخلاقية؟

– حين وقف أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، لم يكن يخوض معركة لاهوتية مجردة، ولا يدافع عن رأي كلامي بعينه، بل كان يضع حدّا خطيرا لتغوّل الدولة على الوعي…
رفض أن تتحول السلطة السياسية إلى مرجع للعقيدة، وأن يُفرض الإيمان بمرسوم. لم يحمل سيفا، ولم يُحرّض على ثورة، لكنه مارس أخطر أشكال المقاومة: الامتناع عن منح الشرعية…
صبره ذلك لم يكن خضوعا، بل إدراكا أن كسر هذا الحاجز يعني أن الحقيقة ستُدار مستقبلا بميزان القوة والسيف لا بميزان الحجّة والبرهان…

– وبعده بقرون، جاء العز بن عبد السلام ليعيد تعريف السلطة من داخل منطقها. لم يواجه الحُكّام بوصفهم طغاة مُجردين، بل حاكمهم بمعيار لم يكن مألوفا:
**المصلحة العامة**
كان ذلك حين قال عبارته الشهيرة : “إن الولاة لا يملكون التصرف في شؤون الناس إلا بقدر ما يحقق العدل والمنفعة” ،،،
لم يكن يعظ، بل كان يؤسّس لفقه سياسي يربط القوة بالمسؤولية..
أجبر السلاطين على بيع أنفسهم في سوق الرقيق ليصحّ حكمهم، لا انتقاما، بل لأن الشرعية – في نظره – ليست لقبا يُورّث، بل عقدا أخلاقيا مع المجتمع.
– أما ابن تيمية، فقد مثّل نموذج العالِم الذي لا يختبئ خلف النص حين يُهدَّد الوجود…
حين داهم التتار المجتمع، لم يكتفِ بالفتوى النظرية، بل انتقل إلى موقع التعبئة والمقاومة…
فهم أن اللحظة ليست لحظة تفصيل فقهي، بل لحظة دفاع عن الكيان والهوية.
لم يرَ في الحياد فضيلة، ولا في الصمت حكمة، بل اعتبر أن العالِم الذي لا يتحرك حين تُسحق الجماعة، يتحول -ولو دون قصد- إلى شاهد زور.

** وعلى الضفة الأخرى، اختار ابن خلدون مسارا مختلفا، لا يقل عمقا ولا خطورة.
ففي زمن الانهيارات المتلاحقة، لم يكتب بيانات تحريضية، ولم يصنع بطولات لفظية من فوق منصّات الميادين بين الحشود المدفوعين بالحماسة الايدلوجية أو الغضب على ما هو قائم، بل فكّك منطق السلطة نفسه…
سأل أو تساءل: لماذا تنهار الدول؟
كيف تتحول العصبية من طاقة بناء إلى أداة فساد؟
ولماذا تفسد السلطة حين تنفصل عن العمران؟

كان ابن خلدون عالما بحق حين كان الآخرون خطباء ومُفوّهين وباحثين عن “ترند” واستعراض ..
كان فيلسوفا حين كانت العاطفة ورفع الصوت والصراخ أسهل من التفكير… أدرك أن بعض اللحظات لا تحتاج إلى صرخة، بل إلى تشريح بارد يمنع تكرار المأساة.
ما يجمع هذه النماذج ليس موقفا واحدا من السلطة، بل القدرة على قراءة اللحظة.

العالِم لم يكن دائما مُعارضا، ولا دائما مُواليا، بل كان – حين أدى دوره – مُستقلا في مرجعيته، حُرّا في ضميره، غير قابل للاستخدام.

العالِم في تراثنا لم يُخلق ليكون بوقا، ولا أيقونة أخلاقية بلا أثر، بل عقلا نقديا يحمي المجتمع من تقديس القوة، ومن تحويل الدين إلى أداة حكم، أو تحويل الحكم إلى عقيدة.

وحين غاب هذا الدور، لم تسقط الدول فقط، بل ضاع المعنى، وتحوّل الدين إلى شعار، والسلطة إلى غاية سواء عند أهل الحكم أو مُعارضيهم، بينما الناس تحوّلوا إلى وقود على هيئة حشود وذباب وأطنان من التشكيكات والتلفيقات والأكاذيب…

ذلك هو الفارق بين عالم يصنع التاريخ، وعالِم يُستدعى لتبريره.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
15°
الخميس
17°
الجمعة
15°
السبت
14°
أحد

كاريكاتير

حديث الصورة