الفايد.. أما آن لك أن تستحي من نفسك؟ أهكذا يُردُّ العلم؟! أهكذا تُهان السنّة؟!

هوية بريس – إلياس الرشيد
أيا من خلط الغذاء بالحديث، فجعل من المطبخ منبرًا، ومن الملعقة ميزانًا، ومن وصفة الكمون حاكمة على حديث المعصوم، أما آن لك أن تستحي من نفسك؟ أهكذا يُردُّ العلم؟! أهكذا تُهان السنّة؟!
أتظن أن حديث رسول الله ﷺ يُوزن بميزان التغذية، أو أن سنة المصطفى ﷺ تُقاس بتركيبة “مضادة للأكسدة”؟
ما لك ولهذا البحر الخِضم، وأنت ما زلت تحبو على شاطئ القشرة، فالسنةُ علمٌ، لا “حساءُ شفاء”، والحديثُ ضبط صدر وكتاب، لا “نصيحة للمعدة”.
أتراك ظننتَ أن البخاري، الذي كان يُصلّي ركعتين قبل أن يُسطّر حديثًا، يساويه رجلٌ يحاضر بين أرفف البقالة، ويخلط في كلامه بين عصير الجزر ومعجزات الوحي؟
كلا والله، لقد طعنتَ في جبلٍ لا تهزه ريح، وفي قلعةٍ ما اهتزّت لكبار النّقاد، أفتهتز لسهمٍ أطلقه عشّاب؟
فلا تتصدّر ما لم تُؤهَّل له، فإن هذا المقام لا يبلغه إلا من خلع عن قلبه رداء الهوى، وتجرد من حجاب العُجب، وسار إليه على جسرٍ من خشية.
تطعن في البخاري؟!
إمام المحدّثين، وأمير المؤمنين في الحديث، الذي إذا ذُكر اسمه في مجلس العلماء، خيّم عليهم الصمت، ونزل الوقار كما ينزل السُّكون على القلوب الخاشعة.
ذاك الذي لم يخطّ حرفًا في “الجامع الصحيح” إلا بعد رحلةٍ تطواف في الأمصار، ومجالسٍ عامرة بأكابر الأقران، وتنقيةٍ دقيقة للرواة، وسهرٍ متواصل بين الأسانيد والمتون، حتى صار كتابه أصقل من الصوارم المُهَنَّدة، لا يشوبه ضعف، ولا يعروه تكلّف، يُتلقّاه أهل العلم بالقبول جيلًا بعد جيل، ويُروى كما تُروى الدرر في أعناق السند المتّصل إلى رسول الله ﷺ.
هو الصّدّيق في الحديث، نسيج وحده في الرواية، والمتقن في النقل، من روى عن الثقات، وسكن المدينة، وعرج إلى مكة، ودار في العراق وما وراء النهر، وأمضى عمره بين يدي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى طَهُر كتابُه من الزلل كما طهُر قلبه من الهوى.
فما دوّن سطرًا إلا بعد وزنٍ دقيق، ولا كتب حديثًا إلا بعد نظرٍ عميق، حتى صار “صحيحه” ميزانًا للسنّة، وتاجًا على رؤوس كتب الحديث، لا يُدانيه شيءٌ في جلال التلقّي ولا يُقاربه كتابٌ في إجماع العلماء.
ثم تأتي أنت، بشهرةٍ نفختك، ونرجسيةٍ أضلتك، -والعجب لا ينقضي- لتقول: “فيه ما فيه”، كأنك خبّازٌ يذوق العسل بلسانٍ لم يُدرّب على البيان، ثم يقول: “فيه مرارة”!
فما كتاب البخاري عندنا كأيّ كتاب، بل هو سندُ السنة، وعقدُ الذهب في سلسلة الوحي بعد كتاب الله، وما أجمعت الأمة على كتابٍ بعد كتاب الله، كما أجمعت على صحيحه.
فإن كنت تردّ هذا الإجماع، فأي دين بقي لك؟
يا هذا، قد علمنا أن في بعض الطعام ما ينفخ البطن، ولكن في كلامك ما ينفخ الكِبر، وفي عقلك من الانتفاخ ما يعمي البصيرة، ويعكّر صفو الفهم، حتى لا يكاد يرى الحقّ لو وُضع بين عينيه.
فما ترك لك الهوى من نورٍ إلا وأطفأه، ولا من سدادٍ إلا وعلاه دخانُ العُجب.
وإن العجب ليأخذني في زمنٍ صار فيه من لا يحفظ حديثًا بلا هاتف، يتكلّم على من كان يُصلي ركعتين قبل أن يدوّن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما سمعت قول أئمة العلم: ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلمَ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظَ له مِن محمد بن إسماعيل البخاري.
فإن كنتَ تنقض هذا، فأخبرنا: من أنت؟ وما صنعت؟ وما قدّمت للإسلام؟
هل قالوا عنك: وجدنا علمًا وأدبًا وورعًا؟ أم قالوا: كان يُكثّر الجلبة ويقلّ الزاد؟
وربي قد صرتَ بمنزلة من يطعن في النهر، ويشتكي العطش، ثم يشرب من الطين. وما حديثك في العلم إلا حديث الصبي الغر في السياسة.
وهذا حالك: هجرتَ ماء السنة الصافي، وذهبت إلى حفر الحداثة المعطّنة، فخرجت علينا بلسانٍ معوجّ، وقلبٍ قد علاه الغرور.
أما نحن، فقد سلّمنا قلوبنا لحديث النبي، وسلمنا لمعارف من نقله بأمانة وضبط وتقى، وإنَّ بيننا وبينك حديثًا يُتلى، وسندًا يُروى، وسلسلةً من الرجال لو نظرت في وجوههم، لخجلت من جهلك.
فعد إلى رشدك، قبل أن يُختم على قلبك.
تقول: البخاري أساطير؟
ويحك! أساطير؟!
بل أنت الأسطورة، لكن أسطورة في الوهم، والغرور، والجهل المركّب،
أسطورة من نسي أن للحديث رجاله، وأن للنقل قواعده،
وأن البخاري ما وضع حرفًا إلا بميزانٍ من خشية، وما دون حديثًا إلا وقد اغتسل له قلبه، قبل أن تمسّه يده.
أيها البيطري، أما علمتَ أن البخاري ما روى عن دوابّ، ولا أخذ عن بقرٍ تُلقّح صناعيًا، بل روى عن بشرٍ ربّاهم الله، عمن تلقى عن جبريل، ورجالٍ كان أحدهم يقطع الفيافي ليسمع حديثًا واحدًا.
ولا عجب أن تنكر الصحيح، فأنت ما تعودت إلا على تشخيص أمراض العجول، لا علوم الرسول، وما شغلتك إلا جراثيم المعدة، لا دقائق الفهم في شرح باب بدء الوحي.
فإذا نظرتَ في سند: حدثنا الحميدي عن سفيان ظننتَ أنه نوع من الأعلاف المركبة، وإذا رأيت: قال الزهري عن عروة عن عائشة حسبته تقريرًا بيطريًا عن نسل ناقة مهجّنة!
فدع عنك البخاري، فإن من تعوّد فحص الأبقار لا يُحسن فحص الأخبار ومن لم يعرف “علل الحديث”، لا يحق له أن يتكلم إلا عن “علل العجول”.
وإنك لو قلت: هذا العلف فيه أساطير، لأجزنا لك أن تناقش،أما إذا قلت: البخاري فيه أساطير؟! فذاك والله قولُ من أراد أن يُحاكم السماء بمنظار الحظيرة.
البخاري عندنا ليس مجرد كتاب، بل حُرمة، وسلسلةُ صدقٍ متصلةٌ من قلب النبوة إلى قلب الأمة، فإذا قلت فيه “أساطير”، فما أبقيتَ من الدين إلا قشرة، ولا من السنة إلا صورة، ولا من الفهم إلا بضاعة في سوق الغفلة، يشتريها من لا يعرف الذهب من الطين.
ومن جهل مقادير الرجال، جهل قدره أولاً.