الفرق بين عالِم الدين في دولة إيران وبين عالِم الدين في الدول السنية: مركزية التأثير وتهميش الوظيفة

09 يوليو 2025 16:49

هوية بريس – د. رشيد بن كيران

يـعـدّ الموقع الذي يشغله عالِم الدين في المنظومة السياسية ومراكز القرار أحد أبرز الفوارق المنهجية بين النموذج الشيعي الإيراني والنموذج السني المعتمد في أغلب الدول ذات الغالبية السنية. والحديث هنا لا يروم إصدار أحكام قيمة مرسلة، بل يسعى إلى تفكيك بنية العلاقة بين المؤسسة الدينية ومراكز القرار السياسي، من خلال ملاحظة مكانة عالم الدين في السياقين؛ السياق الشيعي في إيران، والسياق السني في بقية العالم الإسلامي السني.

أولا: موقع عالِم الدين في البنية الدستورية

يلاحظ أن إيران، منذ قيام الثورة الإسلامية سنة 1979م، قد أرست نموذجا فريدا في دمج المرجعية الدينية بالمنظومة السياسية، فبموجب مبدأ “ولاية الفقيه” أصبح العالم صاحب المرجع هو أعلى سلطة في الدولة، لا يعلوه أحد في سلم القرار، سواء في تدبير الشأن العام الداخلي أو في السياسة الخارجية. وبالتالي؛ فعالم الدين في السياق الشيعي الإيراني لا يمثل مجرد مستشار أخلاقي أو مرشد معنوي، بل هو الفاعل المحوري في قيادة الدولة وتوجيه سياستها.

في المقابل، تغلب على الأنظمة السياسية في الدول السنية سمات الفصل النسبي أو الكلي بين الشأن الديني والشأن السياسي، سواء أكان هذا الفصل رسميا دستوريا أو عمليا وهو الأغلب . فالعالِم السني، في معظم تلك الدول، يبقى في موقع استشاري أو رمزي، وغالبا ما يوظف في إضفاء الشرعية الدينية على قرارات سياسية اتخذت مسبقا دون مشاورته الحقيقية. بل في بعض الدول السنية (وأقول الدول السنية بين قوسين) يستغنى عنه حتى في إضفاء تلك الشرعية الدينية. وتبقى مؤسسات العلماء أو الإفتاء أو التعليم الديني، في الغالب الأعم، خاضعة لإشراف مباشر من الدولة، سواء عبر وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية أو وزارة الداخلية أو غيرهما من الأجهزة الإدارية حسب تدبير كل دولة.

ثانيا: التصور الفقهي للسلطة الدينية
الفكر السياسي الشيعي، خصوصا في صورته الإمامية أو الاثني عشرية ، قد طور نظريات مستحدثة في الربط بين الفقه والسياسة، على رأسها نظرية ولاية الفقيه، التي تمنح الفقيه الجامع للشرائط الدينية حسب مذهب الرافضة سلطة النيابة العامة عن الإمام الغائب (المهدي المنتظر وفق الرواية الشيعية) في تدبير شؤون الأمة. وهذا ما يجعل من عالم الدين أو من يحمل منصب المرشد الأعلى، في هذا السياق، شخصية ذات صلاحيات شاملة، تستمد شرعيتها من المرجعية الدينية لا من صناديق الاقتراع وحدها.

أما في الفقه السني المعاصر، فلم تتبلور نظرية مماثلة في دمج السلطتين في شكل من الأشكال قابلة للتطبيق وفق رؤية شرعية مبتكرة، بل ظل التصور العام الموروث يفترض أن العلماء هم أهل الفتوى والبيان الشرعي فقط، بينما يتولى الحكمَ رؤساء الدول أو الملوك أو الأمراء، في إطار من التمايز الوظيفي، أو بالأحرى في إطار الانفصام النكد بين الديني المهمش والسياسي المهيمن. وإذا تدخل العالم السني في الشأن السياسي، فإنه يـنـظر إليه باعتباره مخالفا للمنهج التقليدي الذي جرى عليه العمل، وغالـبا ما يتهم بتجاوز حدوده أو التعدي على مجال السلطان، وقد يرمى بتهمة الإسلام السياسي المعبر عنها تارة بتهمة الأخونة نسبة لجماعة “الإخوان المسلمون” وتارة ببدعة الحاكمية منسوبة لسيد قطب، أو بتهمة السير على منهج الخوارج.

ثالثا: الشرعية الشعبية لعالِم الدين
العالم الشيعي، خاصة حين يكون مرجعا دينيا كبيرا موثوقا به يشغل منصب آية الله العظمى مثلا، يحظى بشرعية شعبية واسعة، تتجاوز أحيانا الدولة نفسها، وينظر إليه كممثل لخط آل البيت ووارث لسلطة الإمام الغائب. ولهذا السبب، فإن تأثيره في الأوساط الشعبية الشيعية يكون بالغا، وقد يمتد خارج الحدود الوطنية، كما هو الشأن في بعض مرجعيات مدينة قُم كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي مثلا والسيد صادق الحسين الشيرازي وغيرهما.

أما في السياق السني، فإن الشرعية الشعبية للعالم الديني تبقى مرهونة بمسافته من السلطة. فكلما اقترب منها، خسر جزءا من مصداقيته وحضوره الشعبي، وكلما حافظ على استقلاله، زادت وجاهته بين الناس، لا سيما في أوساط الحركات الإسلامية أو التيارات الإصلاحية أو الفئة المتدينة المحافظة. بيد أن هذا التقدير الشعبي نادرا ما يتحول إلى نفوذ سياسي فعلي، بسبب القيود الإقصائية التي تفرضها الأنظمة الحاكمة على كل عالم مؤثر غير رسمي. فالعلماء الرسميون في الغالب ليس لهم شرعية شعبية، والعلماء المستقلون مقصيون ومبعدون عن وسائل التأثير الرسمية التي لها القدرة على تأطير الغالبية العظمى من الشعب.

رابعا: تأثير عالِم الدين في السياسة الخارجية
لا يستغرب في إيران أن يكون لعالم الدين دور مباشر في رسم توجهات السياسة الخارجية، بل إن مواقف إيران الإقليمية، في ملفات محورية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، تصدر عن مؤسسة ترتكز على منطلقات دينية ومذهبية، يُعبر عنها كبار العلماء وأصحاب القرار الروحي. فعالم الدين هنا ليس فقط مشرعا في داخل البلاد، بل أيضا فاعلا في السياسية الخارجية، ضمن تصور شمولي لعقيدة الانتظار والتمهيد لعودة الإمام الغائب وخطة تصدير التشيع للمحيط السني وصناعة الأمن الاستراتيجي.

أما في الدول السنية، فالعالم الديني الرسمي لا يستشار بتاتا في ملفات السياسة الخارجية، ولا تمنحه السلطة الحاكمة موقعا للتأثير في القضايا الإقليمية، لكن قد تستدعيه للحديث الرمزي في مناسبات تتعلق بمكافحة التطرف والإرهاب، أو تتعلق بحوار الأديان والتقريب بينها كاتفاقيات أبرهام، أو التعايش مع الآخر والتسامح معه، وغالبا ما يكون حضوره من باب تأكيد ما قرره السياسي لا من باب التوجيه. أما العالم غير الرسمي أو المستقل فلا يؤبه له وإن تحدث في قضايا إقليمية ذات بعد في السياسية الخارجية. وعليه، فالمحصلة في الحالتين أن الرؤية الدينية لا وجود لها في السياسة الخارجية، والقضية الفلسطينية وما يشهده قطاع غزة في الحرب الجارية شاهد صارخ لهذه المحصلة البئيسة.

خامسا: موقع عالِم الدين بين المتبوعية والتابعية

من اللافت أن العالم الشيعي، وإن كان في قلب السلطة في النموذج الإيراني، فإن استقلالية رأيه قد تتعرض للاحتواء أو المضايقة حين يخالف خط الولي الفقيه، كما حدث مع آية الله حسين علي منتظري في التسعينيات، الذي تم عزله في المجال السياسي والديني وألزم الإقامة الجبرية في منزله. ومن هنا، فإن مركزية عالم الدين الشيعي في بنية السلطة لا تعني دوما حرية القرار وإن كان في الغالب الأعم أن مكانته ورمزيته محفوظة، وخصوصا من يتشبع بنظرية ولاية الفقيه؛ فإنه يكون متبوعا لا تابعا.

أما في الدول السنية، فإن كثيرا من العلماء الرسميين لا يملكون حتى هامش المعارضة الداخلية، ويفرض عليهم الانضباط الكامل لسياسة الدولة، سواء في الفتوى أو التعليم أو الإعلام، وإذا ما خالفوا التوجهات السياسية العامة للحاكم فإن مصيرهم الإبعاد والإقصاء، بل في بعض الدول يكون مصيرهم السجن كما في بعض دول الخليج. وبهذا يكون العالم السني الرسمي تابعا لا متبوعا.

خاتمة:
يتبين من هذه المقارنة أن الفارق الجوهري بين عالم الدين في دولة ايران وبين عالم الدين في الدول السنية لا يتعلق بدرجة تدين المجتمع أو طبيعة المذهب، بل ببنية العلاقة بين الدين والدولة، وبين الشريعة والسياسة، وبالوظيفة الممنوحة لعالم الدين ضمن تلك البنية. ففي إيران، العالم هو السلطة أو جزء منها، بينما في أغلب الدول السنية ( مع التحفظ على هذا إطلاق هذا الوصف على تلك الدول)، هو تابع لها أو مقصي عنها. وما بين سلطة الفقيه في طهران وتهميش العالم أو المفتي في العواصم السنية، تتشكل ملامح أزمة عميقة في توازن الأدوار بين الديني والسياسي في العالم الإسلامي المعاصر.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
17°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة