الفساد والدولة.. العلاقة غير الشرعية للاستمتاع بالنفوذ والثروة

04 فبراير 2024 12:04

هوية بريس – إبراهيم الطالب

في كل المجتمعات والدول يعمل الأثرياء والساسة على أن  يزوِّجوا المال بالسياسة، بعقد غير شرعي، لا يلبث أن يلد غول الفساد حتى قبل أن يستكمل الحمل تسعة أشهر، فيكبر هذا المولود ثم يكبر ويكبر، ليحمل الدولة على أكتافه، فلا يرى الناس فيه إلا الهيبة مستمدة من السلطان، وإذا لم تستوعب الدولة ومَن يُشخِّص مصلحتها، حجم هذا الخطر الداهم، تجد نفسها تتهاوى في منحدر التخلف والجريمة والعنف، فيطغى الفساد ويثور الناس على كل شيء وعلى كل أحد، ليجد أصحابُ النفوذ العالمي، المهتمون بالهيمنة على الدول عبر وكلائهم وخلاياهم النائمة، فرصتهم السانحة ليجعلوا على رأس السلطة كيانا جديدا يضمن استمرار مصالحهم الاستراتيجية في البلاد، كما يضمن استمرارية القابلية للاستعمار والتي تتأسس على: فساد السلطة وإفلاس التعليم وضرب مقومات الهوية وتعطيل فعالية الموجود منها.

إن المزاوجة بين الثروة والسياسية، يجعل الثروة محتكرة في يد فئة قليلة من البشر، الأمر الذي يؤدي إلى فساد السياسة والاقتصاد معا، فيفسد بالتبع القضاءُ والإدارة. وكل هذا يؤذن بانهيار الدولة.

لهذا كان الإسلام واضحا منذ عهده الأول على الأقل من الناحية النظرية: إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل جاء يطلب السلطة: “إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه”.

فالأصل أن الولاة ورعاة الشأن العام ممن يتولون تدبير الدول وميزانياتها، لا يطمحون ابتداءً للحصول على مناصبهم السلطوية والولايات العامة، بل تقترحهم النخبة (أهل الحل والعقد).

صحيح تطور الأمر في مجال السياسة، وكثرة مناصب ممارسة الولايات العامة، فأحدثت الوكالات والمكاتب والصناديق التي تدير ملايير الدراهم، وتأسست الوزارات والجهات والمقاطعات، وأنشئت البرلمانات والمجالس المحلية، فتشعبت الحياة العامة وتعقدت النظم السياسية.

لكن هذا التطور لا ينبغي بحال أن يجعل زواج السفاح بين المال والسياسة، أمرا عاديا، كما هو الشأن في الدول الليبرالية التي لا دين لها، ولا تؤمن بالمقدس ولا الأخلاق خصوصا إذا تناقض مع رفع الدخل والزيادة في الناتج القومي، وتدفق الرأسمال،  ففي أمريكا نجد مثلا، رامسفيلد كان هو وزير الدفاع في حين تدير شركته صفقة غذاء الجنود في العراق أيام غزوها، كما أن له شركات تشتغل في صناعة الأسلحة وتبيع منتوجاتها للدولة، ونجد أيضا ترامب رئيسا وصهره جاريد كوشنر مستشارا في البيت الأبيض، ويستعمل قوة أمريكا لصالح دولته الصهيونية، للضغط على الدول الإسلامية للقبول بالتطبيع وبما سمي صفقة القرن. ولا عجب إذن أن نجد في أمريكا، أن الشركات الكبرى هي من تمول حملات الرؤساء لتستفيد في ولايتهم كما تريد، وهذا ما يجعل زواج المال والسلطة مشروعا في أمريكا. فالقوانين فصلت حسب هذه اللعبة وشروطها، إذ ليس في قيادة الگونغريس سوى حزبين: الديمقراطي والجمهوري، وهم قد وضعوا شروط اللعبة، وحدودها الحمراء من زمن بعيد.

هذا التواطؤ على الفساد المشروع، لم يمنعهم من إظهار النزاهة بالقانون أيضا حيث يحاسب الرئيس على مجرد هدية تلقاها من رئيس دولة أو ملك ما دام في ولايته الرئاسية، حيث تعتبر هذه الهدايا قانونيا في ملك الدولة.

فهكذا استطاع الأغنياء منهم منذ قرون إرساء نظام ينهب بالقانون ويقتل الأبرياء بالقانون، ويأخذ ثروات دافعي الضرائب ليشعل الحروب في بقاع العالم، ورغم ذلك لن ترى ضدهم أي ثورة أبدا رغم أن الإحصائيات الرسمية تثبت أن أكثر من أربعين مليونا من البشر في أمريكا، تعيش تحت خط الفقر، والملايين من بني آدم تبيت الليالي طويلة العدد في العراء وفي السيارات، وبجانبهم ترى برج ترامب وشركات بايدن وبوش.

هكذا استُعبد الإنسان الأمريكي بفعل زواج النال بالسلطة، لكنه دائمُ النشوة بالحرية والديمقراطية.

إلا أن الأمر عندنا يختلف تماما، فقد تأسس مفهوم الدولة على أسس العقيدة والدين و الأخلاق والجهاد، والامتثال لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتطورت الدولة من النبوة إلى الخلافة، ثم توالى نظام الإمارة والملك بعد ذلك، حتى صدمتنا الحضارة الغربية بنظمها العلمانية الليبرالية في حملاتها الإمبريالية، فلبثنا تحت حكمها أربعة عقود وبضع سنوات، كانت كافية لنفقد جزءا كبيرا من كياننا ولتتفكك قبائلنا وكثير من مؤسساتنا الاجتماعية، أما على المستوى السياسي والإداري فقد أرسى الاحتلال العلماني القوانين والمؤسسات الكبرى، ولم يعد الجميع حتى بعد خروجه يرى حلا للتداول على السلطة إلا في تبني “الديمقراطية”، لكن رغم الدماء والسجون فـ”الديمقراطية” جلبت الصراع على السلطة، ولم تنتج العدالة الاجتماعية، لأن الدولة/ (وليس الشعب) التي كان يمثلها القصر فقط، بحكم الشرعية الدينية والتاريخية، احتاجت إلى صناعة أحزاب إدارية وظيفية لتواجه نفوذ الأحزاب التي تشكلت في سياقات المقاومة السياسية ضد إدارة الحماية، واكتسبت الشرعية والكاريزما والزعامة أيضا في سياقات أحداث العمليات الفدائية ومعارك جيش التحرير، لتدخل هذه الأحزاب وقد أصبحت شرطا لقيام نظام ديمقراطي إلى مرحلة الاستقلال، إلا أنها استهلتها بالصراعات الدموية بينها (حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال)، وكذا بالانقسامات الحزبية لدخول الأيديولوجية الاشتراكية، والاغتيالات للنخبة السياسية، كل هذه الظلمات ترعرع في تربتها الفساد الذي وجد في ضعف هياكل الدولة وفراغ مناصب إداراتها فرصة لتثبيت نفوذ أوليائه.

فاجتمعت في البلاد كل العناصر المولدة للفساد من: جهل ووصولية وبيع للمناصب واحتكار للسلطة، واغتيال للنخب، واستمرار التبعية للنفوذ الفرنسي، ليعلن ولي العهد آنذاك “الانقلاب” على حكومة عبد الله إبراهيم رحمه الله، ثم يليها تكوين حكومة محمد الخامس ونائبه ولي العهد الحسن الثاني، ثم إعلان الملك الجديد حل البرلمان وبداية حالة الاستثناء ثم انقلابَي الطائرات والصخيرات، ثم قبلهما وبعدهما سنوات الرصاص والإضرابات، كل هذا الاضطراب والتشاحن جعل الدولة مرتعا للفساد فتواطأ الناس عليه، حتى صار المال المدنس وتزوير الانتخابات وبيع المناصب، والإفلات من العقوبة بالرشاوى والنفوذ شأنا مكشوفا، يعرفه الخاص والعام.

استمر الوضع إلى أن بلغ المغرب مرحلة السكتة القلبية، فنادى الحسن الثاني وقد أثخن فيه المرض، واستيقن أن العهد الجديد على الأبواب وأنه لا محالة مستبدلا ضريح محمد الخامس بعرش ملكه، فأرسل إلى عبد الرحمن اليوسفي وجعله يقسم بالله على المصحف الشريف، بعد أن اتفقا على تشكيل ما سمي بحكومة التناوب، على الإخلاص والتعاون، فشلت حكومة التناوب، ونقلت حزب الوردة البنفسجية من النضال من أجل الاشتراكية والعدالة الاجتماعية إلى الإغراق في خوصصة البلاد وبيع أهم مؤسساته، واستغلال النفوذ من أجل الإثراء غير المشروع، وتكثير نسل زواج السفاح بين المال والثروة.

فشلت حكومة المناضل اليوسفي، وأحنت رأسها لسيوف الفساد، وأسلم الملك الروح لربها، لينتقل  المغرب إلى العهد الجديد عهد محمد السادس، عهد التغيير والإنصاف والمصالحة، وتبني الأسلوب الجديد لممارسة السلطة، والرغبة في بذل الحرية للشعب، والقطع مع الانتهاكات الحقوقية وأساليب الترهيب والاختطاف والاغتيال الذي مورس من قبل، لم تمض إلا مدة قصيرة، لينقلب العالم كله ويدخل سكان الكوكب في الحرب على الإرهاب، الذي رأت أمريكا أن المسؤول عنه هم الإسلاميون سواء كانوا سياسيين أم جهاديين أم سلفيين تقليديين، المهم أن جميعهم سيحملون المسؤولية، وبدأ العلمانيون بالانتقام ورفعوا شعار مؤازرة الدولة في تصفية الوجود الإسلامي، فعشنا التفجيرات في الدار البيضاء ولم يبق مكان في العام إلى سمع دوي القنابل والمتفجرات فيه، لتجد أمريكا ضالتها، فتعيث في الأرض فسادا، قتلت الرؤساء شنقا واغتيالا، وعزلت بعضهم ونفت البعض الآخر هربا من الموت.

كل هذه الأحداث لم تمنع من ازدياد لمعان نجم الإسلاميين، وحيث لم يعد سواهم في المشهد الديمقراطي المزيف في كل البلدان الإسلامية، صار الدور عليهم، فقام الغرب باستغلال الاحتقان الشعبي في بلداننا، وسرع من وتيرة الربيع العربي، ليتحكم فيه، فرأينا بسرعة البرق وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، بعد أن رفعوا شعارات محاربة الفساد، لنرى بعدها مباشرة، بداية حملة الانقلابات المضادة، التي تم التخطيط لها في الإمارات على يد المستشار دحلان مستشار عرفات ومنظمة التحرير، فرأينا مرسي في السجن ليصفى بعدها بنعومة مكشوفة.

توالت الأحداث فصفيت كل الجماعات الإسلامية إما بالاغتيال كما هي حالة اليمن وليبيا، أو بالسجن كما هي حالة السودان والسعودية والإمارات والجزائر من قبل وتونس من بعد، في تلك البلاد اجتمع على الشعوب الفساد والقتل والسجن.

أما في بلد الاستثناء المغربي، فقد حُملت العدالة والتنمية المسؤولية الفكرية عن أحداث 16 ماي الإرهابية، وحوكم الشيوخ الكتاني والحدوشي والفيزازي وغيرهم بنفس التهمة، وإن كانوا اعتقلوا قبل الأحداث، ليبدأ مسلسلان في المغرب: مسلسل السلفيين حيث الْتَهَمتهم السجون، وفاق عدد السجناء الألف بكثير.

ولا زال الكثير منهم يعاني السجن، في ملف ينتظر عملية جديدة للإنصاف والمصالحة وجبر الضرر فقد شمله ظلم كبير، ويبدو أن الوقت قد حان لتصفيته، وإن كان ذلك يتطلب جرأة من النظام ورحمة من القائمين عليه.

وأما المسلسل الثاني وهو مسلسل الإسلاميين، الذين خرج بعضهم من السجن ليتولى الحكم، وعطل الفساد تعطيلا، فوصل أصحاب بنكيران بشكل لم يتوقعه الإسلاميون أنفسهم ولا النظام ولا العالم، ليتولى الزعيم بنكيران زعامة المشهد، والذي وضع له شعارا أكبر من حجم الحزب وحجم الشارع، بل وأكبر من حجم الدولة إن شئنا التحقيق، وهو شعار: “محاربة الفساد”، لكنهم فشلوا، وذلك لأن الفساد بنيوي في المغرب، جَذَّر عروقه في كل بنية، فصار سلوكا للخاص والعام، ويحتاج إلى استراتيجيات وخطط مندمجة ومترابطة ومتساوقة، تُشرف عليها الدولة نفسها، وليس حكومة لا تمتلك حتى أغلبية تمكنها من اتخاذ القرارات بحرية دون تفاوضات وتنازلات تمليها طبيعة الحكومات الائتلافية، بل لم تستطع حكومة بنكيران حتى إقالة مديرة أخبار في القناة الثانية.

تغول الفساد هذا، دفعني إلى أن أكتب في هذا الحيز، مطالبا الدولة أن تنقلب على نفسها، بأن تنقلب على بنية الفساد الصلبة، التي تعتمد عليها، والتي امتزجت ببنياتها الرئيسة مع مصالح الفاسدين والمفسدين، الذين صاروا يتصرفون باسمها، فإن لم تَثُر على فاسديها فستعرف ما عرفته الكثير من الدول فلا دوام للظلم ولا للفساد.

في هذه الظروف اعتلى بن كيران كرسي رئاسة الحكومة ومارس السياسة ومحاربة الفساد، لكنه وجده أكبر مما تصور، كما امتطى شباط صهوة حزب علال الفاسي، في حين تسنم المحنك لشگر حزب اليوسفي ومارس فيه الحكم والتحكم، وكثر “شناقةُ” الخرفان السياسية في سوق الديمقراطية، ورأينا “جماعة” كل الديمقراطيين، التي جُمعت من مقاهي ونوادي فلول اليسار، لترفع بدورها شعار “جئنا لمحاربة الإسلاميين” وأعطيت الميزانيات وفتحت الأبواب لإلياس العماري الذي كان قاعديا يساريا جذريا، فأصبح “قائم مقام” يجلس مع الأعيان كالباكوري وبيد الله ومن هم في السجن اليوم مع المالي يحاكمون.

المهم توالت الأيام من البلوكاج إلى العثماني إلى وهبي إلى أخنوش، مرورا بمسيرة ولد زروال، وحكايات كليلة ودمنة، وشهرزاد وشهريار، فتم نسف الجميع لم يبق في الساحة بعد التناوب والربيع العربي سوى من بقي بعد الاستقلال وسنوات الرصاص، الدولة، حيث ذبلت وردة الاشتراكية، وانطفأ مصباح “الإسلامية”، ولم يعد أحد يتكلم عن “الديمقراطية”، إذ مات من يمكنه ممارستها بنزاهة، ولم يبق في بيتنا عمود يحمل سقفها المهترئ ولو ادعاءً.

فلئن كانت الدولة على عهد الحسن الثاني عرفت الصراع مع اليسار، وكان هذا الصراع من أهم الأسباب التي جعلت المجال السياسي مضطربا على الدوام وأعطت الفرصة للفساد أن يشب ويتقوى ويكبر، ويستحوذ على الثروة ويقتل أي أمل في الإصلاح، فإن الدولة على عهد محمد السادس عرفت نفس الاضطراب بصيغة أخرى، حيث دخلت الحرب العالمية ضد الإرهاب، والتي استهدفت النفوذ الاجتماعي والسياسي للإسلاميين، بغض النظر عما إذا كانوا سلفيين جهاديين أو تقليديين، أم حركيين يعترفون بشرعية الدولة أم لا يعترفون، لذا لم تستطع، هذه الأخيرة الانفكاك من محاربة كل من ينازعها تدبير الدين والتدين، فتم إغلاق جمعيات أتباع الإسلاميين، وقلصت تواجدهم في كراسي المسؤوليات في قطاع التعليم وقطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية.

إن السياسة الميكيافيلية تجعل الدول في حالة من التنافي مع سبب وجودها المتمثل في إقامة العدل وحماية الثروة من المفسدين وحماية الشرع والدين من العابثين، فتضطر لأسباب ما للتعامل مع المفسدين وتركهم يشتغلون بقوة مقابل توظيفهم في إضعاف خصومها، أو من تعتقد أنهم خصومها.

والدولة عموما كلما ابتعدت عن وظيفتها الأصلية إلا وهيمن عليها الفاسدون، الذي يشتغلون بقرارات تعيينهم باسم الدولة، ثم لا يلبثون إلا قليلا ليكونوا سببا في الإجهاز عليها وسقوطها، إن لم تتدارك أمرها، ويبدو أن هذا هو ما تقوم به الدولة المغربية بعد أن فتحت ملفات تصفية الفساد.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. السيد بنكيران ربما يكون غوغائيا لكنه ليس بالفساد بحيث تضعونه في الصورة.

    قليل من العدل و الإنصاف
    هو إستفاد من تقاعد لكن بأمر ملكي و لو كان سارقا لما إحتاح لذالك التقاعد الخاص..

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M