د.لطفي يكتب: الفطرة عند ابن تيمية كيف تبدأ المعرفة من الداخل؟

04 ديسمبر 2025 14:29

الفطرة عند ابن تيمية كيف تبدأ المعرفة من الداخل؟

هوية بريس – د. الحضري لطفي

مقدمة

حين نقترب من مفهوم الفطرة، نحتاج أولا أن نعود إلى مصدره الأصلي كما ورد في القرآن، لا كما أعادت صياغته المدارس الفلسفية اللاحقة. فالفطرة ليست مصطلحا نظريا، بل هي لفظ قرآني يحمل دلالته الخاصة، ويؤسس لرؤية تُبنى من الداخل قبل أن تُبنى من الخارج. يقول الله عز وجل: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، ويقول: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾. هذه الآيات تُعيد توجيه النظر إلى أنّ الفطرة ليست قابلية معرفية فقط، بل بنية خِلقية تُشكّل أساس الإدراك والاهتداء.

وانطلاقا من هذا الأصل، اعتمد هذا المقال على المادة العلمية الواردة في كتاب جيمي ترنر “مفهوم الفطرة والمعرفة الفطرية عند شيخ الإسلام ابن تيمية”، مع الاستفادة من الترجمة والتعليق اللذين قدّمهما وليد الشامي، التزاما بالصدق العلمي ودقة النقل. وقد أتاح هذا المصدر إجراء مقارنة دقيقة بين الإطار القرآني لمفهوم الفطرة وبين توظيف ابن تيمية له قبل أربعة قرون من ظهور مقولات “ريد” و”بلانتينغا” حول الملكات والأداء السليم والحس المشترك.
الفطرة: نقطة البداية قبل التفكير

يقدّم القرآن أصل المفهوم حين يربط بين الخلق والهداية. فالفطرة عند ابن تيمية ليست مجرد استعداد معرفي، بل تكوين عميق وُضع داخل النفس. ولذلك تتضمن أربع قوى كبرى:

1. الإقرار بوجود الله.
2. معرفة الحق وتمييزه.
3. إرادة النافع.
4. كراهية ما يضر الإنسان بدنا وروحا.

ولهذا يقول ابن تيمية: “فإن الفطرة تُحب ما يلائمها وتكره ما يضرها”. هنا تتشكل الصورة الأساسية: “الفطرة ليست معلومة، بل قابلية داخلية تتجه نحو الحقيقة، حتى قبل النظر والاستدلال”.

حين تعمل الفطرة يعمل العقل

يربط ابن تيمية بين الإدراك الصحيح وسلامة الفطرة. فالعقل لا يعمل في فراغ؛ بل يعتمد على صفاء الداخل قبل أدوات النظر. ولهذا يقول: “لولا الاستعداد في القلب لمعرفة الحقائق لم يكن للخطاب والنظر والاستدلال كمال”.
وبذلك تنتظم قاعدة مركزية: صلاح التفكير مرهون بصلاح الفطرة. فإذا تعطلت الفطرة:

1. ماتت البديهيات.
2. وتشوش الحكم.
3. وضعف الحس المشترك.
4. وفقد الإنسان القدرة على رؤية الواضحات.
المعرفة إنتاج طبيعي لا صناعة نظرية

في فلسفة ريد وبلانتينغا الحديثة تُربط المعرفة بـ”الأداء السليم للملكات”. ولكن ابن تيمية سبق هذا الاتجاه حين قال إن المعرفة الصحيحة نتيجة “سلامة الفطرة” لا نتيجة الاجتهاد النظري. ولذلك يؤكد: “الاعتراف بوجود الله ثابت في الفطرة، وهو من أرسخ المعارف”.

المعرفة هنا ليست بناء هندسيا يبدأ بالشك، بل انبثاق فطري يبدأ باليقين، ويُعمَّق بالنظر، ويُهذَّب بالتجربة.

متى تختل المعرفة؟ حين تختل الفطرة

يرى ابن تيمية أن الفطرة إذا فسدت اختل معها الإدراك كله. وقد أوضح “أمير أنجوم (2008): أن فساد الفطرة يعني:

₋ اضطراب الحُكم.

₋ تشوه المعتقدات.

₋ تغير ميزان التمييز.

₋ فقدان القدرة على رؤية الحق.

ولذلك لا يعالج ابن تيمية الخطأ الفكري فقط، بل يعود دائما إلى جذر المشكلة: خلل الفطرة.

الفطرة إحساس مِعياري

يُقدِم الكتاب توصيفا دقيقا حين يرى أن الفطرة عند ابن تيمية تعمل كـ”إحساس معياري قوي”. وهذا التوصيف ينسجم مع بنية الفطرة القرآنية التي تجمع بين:

₋ إدراك الحق.
₋ محبة الخير.
₋ كراهية الشر.
₋ الميل الفطري نحو الصواب.

الفطرة إذن مِعيار معرفي وأخلاقي في الوقت نفسه، وهي التي توجه السلوك قبل أن تتدخل أدوات التحليل.
لماذا نحتاج مفهوم الفطرة اليوم؟ (البعد العملي)

تقدَّم الفطرة هنا ليس كفكرة تاريخية أو مفردة عقدية، بل كمدخل عملي في زمن يكثر فيه التشويش المعرفي واضطراب المعايير وتراكم الضغوط النفسية. فالإنسان حين يعجز عن ترتيب أفكاره أو فهم واقعه، لا يكون الخلل في الغالب في المعطيات الخارجية، بل في الأساس الداخلي الذي يستقبل بها الواقع. وهذا ما تكشفه بحوثنا في علم النفس الفطري، حيث يظهر أن معظم الاضطرابات الإدراكية والوجدانية لا تنشأ من نقص المعلومات، بل من اختلال المنطقة التي تستقبل المعنى وتحوِّله إلى مواقف وسلوك.

ويبين التحليل الفطري أن الفطرة تعمل كأساس إدراكي أولي يوجّه النفس قبل أن تتدخل العمليات العقلية الواعية. فإذا كانت الفطرة مستنيرة، أصبح إدراك الإنسان أكثر اتساقا وقدرته على تفسير الأحداث أكثر توازنا، واستعاد العقل وضوحه. أما إذا طُمست الفطرة أو تشوّهت بضغوط اجتماعية أو نفسية، فإن الفكر يفقد بوصلة التمييز، وتتحول الانفعالات إلى أحكام، والمخاوف إلى تفسيرات، والوساوس إلى يقين.

وفي الإطار العلاجي، تظهر دراساتنا الميدانية أن كثيرا من صور القلق، واضطراب المعنى، وفوضى القرار، ترجع إلى انفصال النفس عن جذورها الفطرية؛ أي عن ذلك الاستعداد الأولي الذي يمكّن الإنسان من إدراك المعنى الصحيح قبل أي تنظير. وعندما نعيد ربط المريض بفطرته، تنخفض حدة القلق، وتنتظم قراءته للحدث، ويصبح أكثر قدرة على التفريق بين ما هو طارئ وما هو أصيل.

لهذه الأسباب، يصبح مفهوم الفطرة اليوم ضرورة عملية. فهو يمنح الإنسان نقطة مرجعية ثابتة في عالم سريع التغير، ويوفّر معيارا داخليا يحميه من الاضطراب، ويوجه إدراكه نحو ما هو أقرب إلى الصواب والاتزان. وفي زمن تتزايد فيه الضوضاء الداخلية والخارجية، يكون الرجوع إلى الفطرة هو الطريق لإعادة ترتيب الداخل، وبناء إدراك سليم، واستعادة النفس لاتزانها ووضوحها.

وحين تستعيد النفس فطرتها:

1. ينتظم الإدراك.
2. ويعود ميزان التمييز.
3. وينضبط الشعور.
4. وتستقر المعرفة على أصلها.

وهذا جوهر المنهج الفطري الذي يبدأ من الداخل قبل الخارج.

التقاطع الخفي بين يقين ابن تيمية وشك الغزالي وديكارت

يمثّل فهم الفطرة عند ابن تيمية خطوة ضرورية لتأسيس رؤية نفسية ومعرفية متماسكة. فالمعرفة لا تبدأ بالشك، بل تبدأ بما وضعه الله في النفس من نور أولي. والفطرة ليست نظرية، بل حقيقة وجودية تُنير للإنسان طريقه، وتصحح له إدراكه، وتعيد توازنه حين يضطرب.

ومن هنا تتضح كيفية التوفيق بين موقف ابن تيمية القائم على اليقين الفطري، وبين مسار الغزالي وديكارت اللذين جعلا من الشك مدخلًا للمعرفة. فالشك عند الغزالي لم يكن نقضا لليقين في أصله، بل كان محاولة للعودة إلى يقين أعمق، يقين يوافق الفطرة ويثبت أمام الوساوس والتقليد، ولذلك انتهى إلى قولته المشهورة بأن نور الله يقذفه في القلب. أما الشك الديكارتي فقد كان أداة منهجية لإزاحة المعارف الموروثة، لا لهدم البديهيات الفطرية، لأن ديكارت نفسه عاد إلى إثبات معارف أولية سماها الأفكار الفطرية.

وبذلك، يصبح اليقين عند ابن تيمية هو الأصل الذي يُبنى عليه كل نظر، ويصبح الشك عند الغزالي وديكارت مجرد مرحلة تطهير للعقل من العوارض، لا قاعدة تأسيسية للمعرفة. الفطرة إذن تسبق الشك، واليقين هو نقطة البدء، بينما الشك وظيفة تنظيرية تُستخدم عند الحاجة لإزالة الغشاوات، لا لإلغاء ما أودعه الله في النفس من نور ابتدائي.

خاتمة:

يظهر من خلال تتبع مفهوم الفطرة عند ابن تيمية أن البناء المعرفي للإنسان يبدأ من الداخل، من استعداد أصيل جعله الله فيه، ثم تتكامل بعده أدوات النظر والتجربة والتحليل. هذا التصور يمنحنا أساسا قويا لفهم اضطراب الإدراك واتزان النفس، ويقدّم إطارا أقرب إلى الواقع النفسي للإنسان كما نرصده في بحوث علم النفس الفطري. فالفطرة ليست مجرد خلفية عقدية، بل هي محور تفسيري يربط بين المعرفة والسلوك والانفعال، ويكشف أن معالجة الانحراف أو الاضطراب لا تتم من الخارج، بل من إعادة ترتيب الداخل واستعادة وضوحه.

وبقراءة متوازنة تجمع بين اليقين الفطري عند ابن تيمية، والشك المنهجي عند الغزالي، يتبين أن الشك مرحلة، بينما الفطرة أصل؛ وأن يقين البداية هو الذي يُقوّم العقل، لا العكس. وبذلك يصبح مفهوم الفطرة مدخلا ضروريا لفهم النفس المعاصرة، وإعادة بنائها على أساس ثابت يواجه الضغوط والتشويش، ويمنح الإنسان قدرة أوضح على القراءة والتفسير واتخاذ القرار.

وهكذا يتضح أن العودة إلى الفطرة ليست رجوعا إلى الماضي، بل استعادة لنقطة البدء التي تمنح الإنسان وعيه واتزانه، وتجعله أقدر على فهم نفسه والعالم ضمن رؤية نفسية ومعرفية متماسكة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة