الفقيه ابن عرضون المفترى عليه

02 يناير 2025 09:24

هوية بريس – د الميلود كعواس

 إن من المسائل التي كثر عنها الحديث بعد الإعلان عن المضامين الرئيسة لمراجعة مدونة الأسرة وقبلها؛ مسألة اقتسام الممتلكات الزوجية بعد الوفاة أو الطلاق.

وقد حاول بعض الناس الاستناد في نصرة قوله في هذا الموضوع على فتاوى بعض العلماء وأقوالهم؛ لعل أشهرهم ورودا على الألسنة؛ الفقيه ابن عرضون الغماري؛ حيث جعل منه هؤلاء أسطورة، واتخذوا منه بطلا وزعيما، على اعتباره أنه قد أفتى في زمانه باستحقاق المرأة النصف من الممتلكات الزوجية بعد الوفاة أو الطلاق، سواء أشاركت زوجها أم لم تشاركه في إنماء تلك الممتلكات، بناء على ما اصطلح عليه بين الفقهاء بحق الكد والسعاية.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما مدى صحة القول المنسوب إلى هذا الفقيه الغماري؟ وما حيثياته؟ وما قواعده وضوابطه؟

سأحاول الجواب عن هذه الأسئلة وفق العناصر الآتية:

من هو ابن عرضون؟

أشير في البدء إلى أن الرجل المشهور ذكره في مسألة الكد والسعاية هو أبو العباس أحمد بن الحسن بن عرضون الزجلي الغماري، وهو من أسرة عربية قرشية الأصول، ولد بمدشر أدلدال، شرقي مدينة شفشاون، سنة: 948هـ/1541م. نشأ في وسط علمي بقرية تلنبوط، حيث كان أبوه خطيبا، ومدرسا بمساجدها، ومن أعيان القبيلة، وإليه يرجع الفضل في تحبيب العلم إليه، وتوجيهه وجهته، حفظ القرآن الكريم، وكثيرا من الأشعار، ثم سارع إلى تلقي مبادئ العلوم عن شيوخ البلد؛ كعبد الله الهبطي، وسليمان بن أبي هلال الملولي… ثم رحل إلى فاس لإتمام دراسته بجامع القرويين، فأخذ عن وجوه الفقهاء، أمثال: محمد القصار، وعبد الله الحميدي، ويحيى السراج، ومحمد بن مجبر المستاري، ورضوان الجنوي، وغيرهم.

ولي بعد رجوعه من فاس قضاء شفشاون، وزاول إلى جانب ذلك مهام متعددة؛ كالخطابة، والتدريس، والإفتاء.

يذكر له المترجمون كتبا عدة أهمها: اللائق لمعلم الوثائق، مسائل ملقوطة من نوازل مازونة، مقنع المحتاج في آداب الزواج، رسالة التوادد والتحاب في آداب الصحبة… توفي رحمه الله بفاس في 10 رجب 992هـ/1584م[1].

وأنبه إلى أن للفقيه أحمد المذكور أخ يسمى: أبو عبد الله محمد بن الحسن بن عرضون (ت1012هـ)؛ وهو من الذين أفتوا بالكد والسعاية أيضا، غير أنه لم يشتهر كما اشتهر أخوه أحمد، بسبب تحديده لمقدار السعاية في نصف الممتلكات المشتركة، وهو ما لم يشتهر به أحد غيره.

ما معنى الكد والسعاية؟

لا أحد يماري بأن فقهاء المغرب؛ وخاصة في غمارة وسوس قد أفتوا بحق الكد والسعاية؛ لكن مقصودهم يخالف تماما ما هو رائج عند بعض الناس اليوم؛ وقد تتبعت تعريفات الفقهاء لهذا المفهوم[2] فتبين بأن حق الكد والسعاية يراد به: حق أحد أفراد الأسرة في أخذ نصيب من الثروة التي أسهم في تكوينها، بعد الموت أو الطلاق.

ومن خلال تأمل هذا التعريف المستخلص من كلام الفقهاء تتضح لنا أمور:

-إن السعاية “يدخل فيها كل من قدر على الاشتغال والتكسب من أفراد الأسرة، لذلك نجد الفقهاء يعبرون هكذا: سعاية اليتيم، سعاية الأخت، سعاية الأخ، سعاية الولد، ومن له عدة زوجات، فلكل واحدة سعايتها”[3].

-السعاية عند الفقهاء خاصة بمن اشتغل في تنمية ثروة الأسرة حصرا، أما من اشتغل في تنمية ثروة أجنبي فإنه لا سعاية له، وإنما يحكم له بالأجرة إن كان أجيرا، أو له حظه إن كان شريكا…

-الكد السعاية حق محصور لمن شارك في تنمية الثروة الأسرية بعمل غير الأعمال المنزلية؛ وكل من لم يسهم في ذلك فلا سعاية له.

 

ما هي الفتوى التي أفتى بها ابن عرضون؟

إن قواعد البحث العلمي تقتضي إيراد نص فتوى ابن عرضون بتمامه؛ وهو ما يتلافاه بعض الناس؛ بحيث يعمدون إلى تشهير الأقوال من غير أدلة، وإذاعة الفتاوى من غير بينة، كما أنهم يعمدون إلى منهج الاجتزاء وفصل الفتوى عن حيثياتها وتفاصيلها وشروطها، بغية التمكين لقول على حساب آخر، وهذا مخالف لمنطق العلم ولقواعد المعرفة الصحيحة.

وأحب أن أشير في البداية إلى أن فتوى الكد والسعاية فتوى مشهورة قبل ابن عرضون، وقد نقل ذلك العلمي وغيره، فقال: «سئل أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن بن عرضون عمن تخدم من نساء البوادي خدمة الرجال، من الحصاد، والدراس، وغير ذلك، فهل لهن حق في الزرع بعد وفاة الزوج لأجل خدمتهن، أو ليس إلا الميراث؟

فأجابه بما أجاب به الشيخ القوري؛ مفتي الحضرة الفاسية، وشيخ الإمام ابن غازي. قال: إن الزرع يقسم على رؤوس من نتج عن خدمتهم. زاد عليه مفتي البلاد الغمارية: جدنا سيدي أبو القاسم خجو، على قدر خدمتهم، وبحسبها من اتفاقهم أو تفاوتهم، وزدت أنا -لله عبد- بعد مراعاة الأرض، والبقر، والآلة، فإن كانوا متساوين فيها أيضا فلا كلام، وإن كانت لواحد حسب له ذلك، والله تعالى أعلم»[4].

وهذه الفتوى كما يظهر من نصها محصورة في مكانها؛ فهي متعلقة بمنطقة غمارة، ومتعلقة بمجال محدد هو العمل الفلاحي، وخاصة بالنساء العاملات عمل الرجال في مجال الفلاحة دون غيرهن، كما أن هذه الفتوى تنص على أن الاستحقاق مرتبط بقدرة الإسهام في الإنتاج، فقد يكون المقدار عُشُرا وقد يكون ربعا وقد يكون نصفا أو غير ذلك.

غير أن هذه الفتوى المذكورة غير مقصودة من لدن المتكلمين في الموضوع، وإنما الفتوى التي يروج لها اليوم هي فتوى أحمد بن الحسن بن عرضون؛ أخو محمد المذكور آنفا؛ ذلك أن الرجل نُسب إليه القول بأنه قد حكم للزوجة باستحقاق النصف من المال المكتسب، على خلاف ما أفتى به الفقهاء قبله.

ورغم شهرة هذه الفتوى، وكثرة الاستدلال بها من لدن بعض الناس اليوم؛ فإن البحث الدقيق يفضي بنا إلى القول بأن الفقيه أحمد بن عرضون قد ظلم في هذا الذي يروج، وافتري عليه فيه؛ وبيان ذلك من وجوه:

الوجه الأول: عدم وجود نص هذه الفتوى القائلة باستحقاق الزوجة النصف، فلفظ هذه الفتوى غير محفوظ بنصه ورسمه وسطره؛ وقد اجتهد الدكتور عمر الجيدي في العثور إلى نصها، غير أنه لم يظفر بشيء؛ يقول: «إننا لم نعثر على نص الفتوى، لكن نستند في تحليلها إلى العرف الذي صار عليه أهل الجبال من لدن صدور الفتوى إلى الآن»[5]. وذكر بأن المعتمد في نقلها هو الرواية الشفوية، فقال: «لم أعثر على نص الفتوى التي أفتى بها ابن عرضون… وتواردت الإشارات إليها بصفة عامة في بعض كتب الفقه والنوازل… وتناقلها الناس مشافهة منذ صدورها إلى الآن»[6]. غير أن الدكتور عمر الجيدي ذكر بأن الأستاذ سعيد أعراب، قد تكلم في بحث له بجريدة “الميثاق”، في العددين: 48 و 50، عن هذه الفتوى، وذكر بأنه وقف على فتوى لأبي العباس أحمد ابن عرضون، قال: «ولعلها بخط يده، تذكر أن للمرأة النصف في مال الزوج، إذا وقع طلاق، أو وفاة، بشروط شرطها، وحدود حدها»[7]. ومع هذا تبقى هذه الإشارة غير كافية لبلوغ المقصود، ذلك أن نص الفتوى وحده هو الكفيل ببيان مقصود ابن عرضون، وتفاصيل فتواه، خاصة وأن الأستاذ أعراب قد ذكر بأن أحمد بن عرضون قد شرط لفتواه شروطا، وحد لها حدودا. فما هي يا ترى هذه الحدود والشروط؟ سؤال لا يمكن الجواب عنه ما دام نص الفتوى مفقودا.

وبناء على هذا يتبين إن المسلك المعتمد في نقل فتوى أحمد بن عرضون هو الرواية الشفوية؛ ومعلوم ما قد يعتور هذا المسلك من مخاطر التصرف في المنقول بالزيادة أو النقصان، أو الغفلة عن نقل الضوابط والقيود، أو الحيثيات والسياقات، أو الشروط وتوابعها، وغير ذلك مما قد يصيب المنقول بالرواية الشفهية.

ورغم أن بعض المتأخرين قد أشاروا إلى هذه الفتوى في كتبهم بناء على ما سمعوه من الناس شفاها، فقد تحفظوا عن نسبتها للفقيه ابن عرضون احتياطا للدين، وحذرا من الافتيات على الرجل؛ وهذا ما نقله المهدي الوزاني (ت1342هـ) عن العلامة سيدي محمد بن قاسم الفلالي وهو يشرح قول الناظم:

قال ابن عرضون لهن قسمة *** على التساوي بحساب الخدمة

قال: «وبالجملة؛ فقد أجمل الناظم رحمه الله في كلامه غاية، إذ لم يبين العرف الذي اعتبر أهل فاس، ولا القسمة التي قال ابن عرضون، ولا خدمة النساء، هل في زرع الأزواج، أو في زرع غيرهم. وكلام ابن عرضون الذي يمكن أن يتضح به المراد لم أظفر به في “اللائق”، ولعله ذكر ذلك في فتوى صدرت منه أو في مؤلف لم أعلمه»[8]. وقد علق المهدي الوزاني، باعتباره أشد الناس انتصارا لفتوى ابن عرضون، على هذا الكلام، وحاول إثبات عدد من مسائل هذه الفتوى، لكنه لم يستطع إثبات نص فتوى أحمد ابن عرضون الذي يمكن من خلاله حل الإشكال.

الوجه الثاني: وعلى فرض أن المنقول عن أحمد ابن عرضون شفويا صحيح؛ فإن ما ينسبه الناس اليوم لابن عرضون غير صحيح، بل فيه افتراء على الرجل من وجه آخر؛ ذلك أنهم قد نسبوا إليه القول بأن الزوجة تستحق النصف من الثروة الزوجية بعد الوفاة أو الطلاق بمحض العمل المنزلي وغيره، وهذا افتراء وبهتان لم يقل به الرجل قط، ولم ينسبه إليه أحد ممن أومأ إلى فتواه أو أشار إليها؛ فالرجل إنما تحدث عن المرأة التي تكد وتعمل خارج البيت؛ في أعمال تدر دخلا على الأسرة أو تسهم في نمائها؛ كالحرث والزرع والحصاد، وغيرها من أعمال الفلاحة المعروفة، ولم يتكلم قط عن عملها المتعلق برعاية أفراد الأسرة في بيتها، لا من قريب ولا من بعيد؛ وقد نظم ذلك أبو زيد الفاسي ذلك فقال[9]:

وخدمة النساء في البـوادي *** للزرع بـالـدراس والحصـاد

قال ابن عرضون لهن قسمه *** على التساوي بحساب الخدمـه

لكن أهل فاس فيها خالفـوا *** قالوا لهم في ذلك عرف يعرف

فأين الحديث في هذا عن العمل المنزلي ورعاية أفراد الأسرة، الذي يصر هؤلاء الناس إصرارا على نسبة القول في ذلك لابن عرضون؟

الوجه الثالث: اشتهر عند المتكلمين في الموضوع بأن أحمد ابن عرضون قد أفتى للساعي والساعية بالنصف من الثروة؛ وهذا أيضا تزوير للحقائق، وادعاء من غير حجة، ذلك أن من أشار إلى فتواه قد ذكر بأن المسهم في نماء الثروة الأسرية يأخذ حقه بقدر إسهامه؛ فقد يكون ذلك عشرا أو ثمنا أو ربعا أو نصفا، أو أقل مما ذكر أو أكثر منه. وهذا ما نص عليه السجلماسي عند قول الناظم «على التساوي بحساب الخدمة»؛ حيث قال: «يريد، والله أعلم، أن خدمة نساء البادية للزرع مع أزواجهن بالحصاد والدراس توجب أن يقسم لهن؛ بأن تعطى المرأة نصيبا من الزرع بحسب خدمتها»[10]، وقال أيضا: «قوله على التساوي: يريد، والله أعلم، مساواة نسبة النصيب من الزرع لنسبة الخدمة من باقي العمل، وهو معنى قوله: بحساب الخدمة»[11]. وهذا ما قرره أيضا المهدي الوزاني؛ حيث يقول: «والمعنى: أن ابن عرضون قال: أي: أفتى في خدمة نساء البادية للزرع بالحصاد والدراس والنقل والتذرية والتنقية، بأن لهن قسمة فيه على التساوي بينهن بحسب الخدمة فيه؛ فكل واحدة منهن يأخذ منه يقدر عملها. فمعنى “القسمة على التساوي”: أخذ كل واحدة منه بقدر خدمتها»[12]. علما بأن المهدي الوزاني قد نصب نفسه مدافعا عن فتوى أحمد ابن عرضون ورد على كل الفقهاء الذين انتقدوا فتواه.

وهذا القول المذكور؛ أي تحديد الكد والسعاية بقدر الخدمة، هو قول الفقهاء قاطبة؛ منهم أبو القاسم خجو، وأبو عبد الله محمد بن الحسن عرضون[13]، والحسن بن عثمان التملي، وعيسى السكتاني، وأبو محمد عبد الله بن يعقوب السملالي، وعبد العزيز الرسموكي، وعلي بن أبي بكر المنتاكي[14]، وعمر بن عبد العزيز الـكـرسيفي[15]، وأبو زيد الفاسي[16] وغيرهم. وأما القول بتحديد قدرها في النصف فمجرد دعوى تحتاج إلى دليل وإثبات ببرهان.

الوجه الرابع: إطلاق القول باستحقاق السعاية من غير ضوابط؛ وهذا مخالفه لما نقل عن كل الفقهاء المفتين بالكد والسعاية سواء في غمارة أو سوس؛ وأحمد ابن عرضون واحد منهم. بل المحفوظ عنهم أنهم قالوا باستحقاق حق الكد؛ أو تامازالت بضوابط وهي[17]:

الضابط الأول: لا تجب السعاية إلا لمن أسهم في تنمية الثروة؛ ومن لم يعمل ولم يكد في مراكمة الثروة لا سعاية له. ولا عبرة عندهم بالعمل المنزلي؛ أي العمل المتعلق برعاية الأسرة من كنس وطهي وتنظيف وغيره، واستدلوا على ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حكم على فاطمة [18] وأسماء[19] رضي الله عنهما بخدمة البيت، ولم يطالب زوجيهما بأن يكفياهما ذلك، ولا بتوفير خادم يخدمهما.

الضابط الثاني: لا حظ في السعاية إلا في عين المال الذي أسهم في إنمائه. فمن عمل في الغزل فلا سعاية له إلا في الغزل، ومن عمل في الزرع فلا سعاية له إلا في الزرع، فكونه أسهم في تنمية جزء من الثروة لا يوجب له حق السعاية في كلها، لما في ذلك من ظلم واعتداء على حقوق الآخرين.

الضابط الثالث: أن تكون الثروة مكتسبة خلال الحياة الزوجية، إذا تعلق الأمر بالزوجة، فما اكتسبه كل من الزوجين، أو آل إليهما بطريق الميراث أو غيره، سواء قبل الزواج أم بعده، لا يعتبر في السعاية.

الضابط الرابع: ألا تكون مدة الحياة الزوجية قصيرة كالأسبوع والأسبوعين، بل حتى الشهر والشهرين. وقد قدرت من لدن بعض النوازليين في العام وما يزيد عنه، قال عبد الواحد بن محمد الأمزوري[20]:

وبعد عام سعيها يحيق *** في أشريات أخذها يليق.

الضابط الخامس: ألا يأخذ الفرد من الثروة المتراكمة إلا بمقدار سعيه وكده.

الضابط السادس: لا حظ في السعاية إلا إذا استقر العرف على ذلك، وجرى به العمل من لدن الفقهاء.

الضابط السابع: إثبات السعي في المال المتراكم، إذ ليس كل من ادعى السعاية في المال يحكم له بذلك، حتى يثبت السعي والكسب؛ للقاعدة المقررة: “البينة على المدعي، واليمين على من أنكر”.

الوجه الخامس: من عجائب من يرى ويسمع أن تقدم فتوى ابن عرضون اليوم للناس على أنها فتوى مسلمة، فصارت عند بعضهم بمثابة القطعي من القرآن المنزل، وهذه غير سليم ألبتة، بل الفتوى لقيت معارضة شديدة من لدن فقهاء الوقت، سواء من لدن فقهاء غمارة وسوس، أم من لدن فقهاء فاس وغيرهم، من أشهرهم[21]: الشيخ يحيى السراج، وأحمد البعل المصوري، والشريف العلمي، والشريف سيدي أحمد بن عبد الوهاب، والشيخ الرهوني، والفقيه عبد القادر الفاسي، وهو من أشد الناس معارضة لها، وقد بسط القول في ذلك وأطال في الرد عليه. وأما المناصرون للفتوى فهم قلة، ولا أعرف منهم إلا الفقيه المهدي الوزاني، الذي انبرى للدفاع عن أحمد ابن عرضون والانتصار له بحجج لم تسلم له، وقد تتبعها الدكتور الفقيه محمد التاويل رحمه الله وبين بطلانها[22].

الوجه السادس: الانتقائية في التعامل مع فتاوى أحمد ابن عرضون وأقواله الفقهية، فابن عرضون، كما هو معلوم، فقيه مالكي المذهب، وقد سار في أقواله الفقهية كلها على السنن المعهود لدى المالكية، وحتى إن وجدت هناك قضايا تقتضي المصلحة فيها مخالفة ما هو مشهور في المذهب، فإنه ينزع إلى قول آخر في المذهب ويعتمد عليه، وفق المنهج المتبع لدى علماء المالكية، ولا يبيح لنفسه الإفتاء أو الاجتهاد خارج دائرة ذلك. والمتتبع لأقواله في مجال الأسرة سيجد بأنه يقول بقول المالكية في وجوب الولي في عقد الزواج، واشتراط الشهود فيه، وإسقاط الحضانة عن المطلقة إذا تزوجت، وإيجاب النفقة بالبناء لا بالعقد، وغيرها من القضايا والمسائل التي هي اليوم مثار نقاش[23].

       فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ههنا هو: لماذا يرفع من شأن ابن عرضون في قضية واحدة فقط، ويشاد بأقواله فيها، وينظر إليها على أنها اجتهاد عميق ودقيق، في حين تتجاهل عن كل آرائه وأقواله في المسائل الأسرية الأخرى وغيرها؟

إن هذا التعامل الانتقائي مع أقوال الرجل وفتاواه ما هو إلا تحايل على الحقائق، وعبث بمفردات المعرفة، وتنكب عن قواعد العلم الصحيح.

خاتمة:

لقد تبين مما سلف ذكره بأن ابن عرضون لا يُقدّم اليوم للناس على أساس أنه علم من الأعلام الذين خدموا المذهب المالكي، وأسهموا فيه تنظيرا وتنزيلا، وإنما يستثمر اسمه في الترويج لقضية واحدة فقط؛ هي حق الزوجة في الكد والسعاية، علما بأن هذا الذي ينسب للرجل غير مسلم؛ سواء من حيث ثبوته أو من حيث أسسه وأصوله. ولذلك حق لكل مشتغل اليوم بتراث أبي العباس أحمد ابن عرضون أن يزيد في سيرته هذا الوسم: “الفقيه ابن عرضون المفترى عليه”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – ينظر ترجمته في: جذوة الاقتباس، لابن القاضي.ص:160- سلوة الأنفاس، للكتاني، 2/302- أعلام المغرب العربي، لعبد الوهاب بن منصور، 5/195- معلمة المغرب، 18/6040- الفكر السامي، للحجوي، 2/271

[2] – ينظر التفاصيل في كتابي: حق الزوجة في الكد والسعاية، دراسة في التراث الفقهي المالكي، منشورات الرابطة المحمدية للعلماء، ط:2، 2013، ص: 17 وما بعدها.

[3] – فقه النوازل في سوس قضايا وأعلام للحسن العبادي، ص: 416- عمل المرأة في سوس للحسن العبادي، ص: 23.

[4]– نوازل العلمي، 1/101- 102. حاشية الرهوني، 4/36-37. المعيار الجديد، 7/560. تحفة أكياس الناس، ص: 277. المنح السامية، 2/285.

[5] – ابن عرضون الكبير. ص: 205.

[6] – نفسه. ص: 194.

[7] – المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير. ص: 199.

[8] – المنح السامية، 2/284.

[9] – المجموع الكامل للمتون، طبع بإشراف مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر.بيروت، ط:2001. ص: 567

[10] – شرح السجلماسي على العمل المطلق، ص: 249.

[11] – شرح السجلماسي على العمل المطلق، ص: 250.

[12] – تحفة أكياس الناس، ص: 276.

[13] – نوازل العلمي، 2/101-102.

[14] – ينظر: فقه النوازل في سوس. ص: 418 وما بعدها، وعمل المرأة في سوس. ص: 26 وما بعدها.

[15] – رسالة في قسمة التركة إذا كان فيها كد وسعاية حفاظا على حقوق المرأة والكسبة. منشورة ضمن “الأعمال الفقهية الكاملة لعمر بن عبد العزيز الكرسيفي، ص: 290

-[16] المجموع الكامل المتون، ص: 567.

[17] – ينظر تفاصيل هذه الضوابط في كتابي: حق الزوجة في الكد والسعاية، ص: 69 وما بعدها.

[18] – ينظر الحديث في صحيح البخاري، كتاب الدعوات. باب التكبير والتسبيح عند المنام. ح 6318.

[19] – الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح. باب الغيرة. ح: 5224.

[20] – شرح العمل السوسي. ص: 284.

[21] – حق الزوجة في الكد والسعاية، ص: 95 وما بعدها.

[22] – إشكالية الأموال المكتسبة مدة الزوجية، ص: 52 وما بعدها.

[23] – ينظر كتابه: مقنع المحتاج في آداب الزواج، وكتابه: اللائق لمعلم الوثائق.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M