الفكر الإسلامي والاشكالات الحركية المعاصرة
هوية بريس – الحبيب عكي
عقودا مضت، والحركة الإسلامية تهتم بوضع تصوراتها في مختلف المجالات، تقعد بها لعملها الحكيم وممارستها الرشيدة، خاصة ما يرتبط منها بهموم الهوية والمرجعية أو يستجد لها وللناس في مجال الرهانات والتحديات أو مجرد الصراع والتدافع الأيديولوجي والحضاري بينها وبين مختلف المناوئيين. هكذا وضعت الحركة الإسلامية أوراقها التصورية في العديد من المجالات التربوية والدعوية.. إلى السياسية والاجتماعية.. والفنية والبيئية..، لكن مع مرور الوقت وتعاقب الأجيال وتجديد الإشكالات الميدانية والرهانات المجالية، جعل الحاجة – في نظر المنصفين – جد ماسة إلى مراجعة هذه الأوراق وتجديد الرؤى والتصورات والمجالات والتوجهات.. والهياكل والآليات والأدوات..، وكل هذا من مهام الفكر الإسلامي المعاصر، ترى، إلى أي حد يقوم هذا الفكر بمهامه ويواكب تحدياته أو هو مؤهل لذلك أصلا؟.
هذا الفكر الذي يظل منبع الذكر والتأمل والبحث والفهم.. ويظل عين النقد والسؤال والتجديد.. ويظل المدخل والمحمل الحقيقي لمعالجة العديد من أمراض القلوب والسلوك والمعاملات.. وظواهر الفتور والفرقة والتيه في الحركيات الدائرية والتآكلية.. وكلها ظواهر تنشء من الأفهام والتصورات على حد قولهم: “التصور عنوان التصرف”، وكذلك على اعتبار كل مشاريع اليقظة والنهضة وحالات السكون والكمون.. إنما هي أيضا تبدأ من الفكر، وهذا الفكر، رغم أهميته القصوى هذه، فيبدو أنه لم ينل مكانته ولا الاهتمام اللازم به.. رغم ما يبدو من تأسيس بعض الحركات الإسلامية لما يسمى باللجنة الفكرية وقسم الإنتاج العلمي، الذي تراكمت عليه إشكالات حركية قديمة واستجدت له أخرى جديدة، ولم يستطع مواكبة أي منهما، فبالأحرى أن يصبح منهج تفكير في كل الأوساط الحركية وأعمالها بدل الروتين الإداري وتقاريره والالتزام التنظيمي ومحاسباته؟.
مجرد أسئلة يطرحها العديد من المفكرين ضمنهم الدكتور والباحث المغربي “محمد همام” في مبحثه “الحركة الإسلامية المغربية من الدولة الإسلامية إلى الدولة المدنية” التحول المطلوب، ولتفجير النقاش، نورد منه بعض التساؤلات الهامة حسب المفهوم من المبحث ذاته ومنها:
-سؤال الدعوة والدولة والصراع المحتدم بينهما: هل صحيح أن من مهام الدعوة مراقبة الدولة؟، وهل صحيح أن دور الدولة هو خدمة الدعوة ورعايتها؟، لماذا الدولة تنادي بفصل الدين (المقدس) عن السياسة(المدنس)؟، ولماذا بعض الدعوات أقصى ما استطاعته فصل الدعوي عن السياسي؟، وهي لا تزال تتشبث بالسياسي في دعوتها بطابعها الشمولي؟. وإذا صحت دعوة الدعاة بمراقبة الدولة وتوجيهها والانكار والحسبة عليها، فكيف لهم بذلك؟، وماذا يملكون من التخصص والتأهل وهم يخوضون في كل شيء؟، بل ماذا يملكون حتى من الانخراط في هذه المؤسسات والعمل من داخلها بدل خارجها؟، كيف سيصلح مجلسا جماعيا أو تشريعيا أو استشاريا من ليس فيه؟، وربما لا يؤمن به وبجدواه أصلا، بل قد يتحاشى التعاطي للسياسة باعتبارها ستخذله وتدنسه وهو يأبى إلا التطهر؟.
–سؤال الدولة المقصودة إنشاؤها في الإسلام:
هل هي في حد ذاتها دولة إسلامية أم دولة مدنية ؟، دولة إسلامية كل شيء فيها من الكتاب والسنة؟، أم دولة مدنية يعني ديمقراطية، لا تستبعد الدين ولكن يمكن أن يكون فيها غيره إذا توافق عليه المواطنون وقوانينهم؟، دولة إسلامية يقودها العلماء أم دولة مدنية تعترف بالآخرين خارج الهوية والمرجعية السائدة للأقليات.. وتوفيهم حقوقهم في الحرية والتمثيلية والمساواة.. على أساس المواطنة والقوانين؟.
–سؤال القوانين والدساتير الوضعية في الدولة:
هل هي قوانين ربانية أم وضعية أم مزيج بينهما؟، شريعة ضابطة بأحكام وفتاوي مقيدة أم مواثيق دولية وحريات كونية واجتهادات عرفية.. زكوات مالية طوعية أم ضرائب استنزافية إجبارية.. وماذا سيفعل الناس بقوانين وضعية يرونها غير منصفة لهم ولا عادلة بينهم؟، وماذا ستفعل الدولة بما اجتاحها من قوانين وضعية وتخضع له من ضغوطات دولية لا تستطيع العيش بدونها وخارج توجهاتها ولا الانفكاك من أحلافها ومساعداتها؟.
–سؤال بناء الدولة والخلافة:
هل فعلا يمكن بناء الدولة بكل الأحلام الحركية وأوهام بعضها من “قومة” أو “انقضاض” أو “مشاركة”… أو… أو حتى دعوة وخلافة؟، أم أن ذلك – إن وقع – فهو لا يعدو مجرد استبدال نظام بآخر وفساد بآخر ربما أشد سيؤول إليه الأمر عاجلا أو آجلا، حيث يأخذ الأمر وقته لاستجماع قواه وإعادة النزال ودورة المغالبة؟، فما بالك بالخلافة والعالم الإسلامي والعربي لم يفشل في شيء فشله الذريع في كل تجارب الوحدة ومشاريعها.. حتى أن دولتين جارتين بينهما توتر وحروب طاحنة.. وحتى أن الدولة الواحدة ينتزع منها جنوبها أو شمالها وهي عاجزة عن التوحد حتى مع ذاتها فكيف مع غيرها؟.
–سؤال الاجتهاد وقضايا العصر:
-هل من الصواب أن نجتهد لقضايا عصرنا المعقدة بنصوص سياسية تراثية قديمة غير مسعفة ولو بلي أعناقها وأفهامها وأسباب نزولها.. أم تكون لنا الجرأة والقدرة على اجتهادات معاصرة تراعي المصالح والمقاصد.. والارتباط بالمرجعية ما أسعفتنا واستطعنا ذلك؟، لماذا نخلط بين الإسلام الوحي والإسلام التاريخ.. وبين تقييم الإنسان والرقي به في عباداته الفردية (قيام.. صيام..) ونحن نريد منه ما يؤهله لتدبير الشأن العام (تفكير.. تدبير..)؟.
–إن أي طيف من أطياف المواطنين مهما قل أو كثر.. يظل مجرد طيف.. لا يملك بأي حال من الأحوال حق مصادرة حق الآخرين في التواجد وحرية التعبير.. ولا الاقتراح والمشاركة في التغيير.. بما يعني ذلك حق الانتظام في تنظيمات والدعوة والتأطير.. والتفاعل مع الآخرين بشكل سلمي وقانوني.. وهذا لا يتيحه غير فكر المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان.. بغض النظر عن الدين واللون والجنس وغيرها مما يمكن كله أن يدلي بدلوه في السياسة العامة وشأن الوطن؟.
–أسئلة الربيع العربي وقضاياه الحارقة وتحدياته الجارفة، على استعارها وتأججها، لا تزال مطروحة على الجميع؟، ورغم مرور أزيد من عقد من الزمن على تفجرها، فلا أحد استطاع الإجابة المقنعة عنها ولو بمقدار، فلا زالت تتفجر وتنشطر وتنشطر.. وتحرق من الناس والآمال ما تحرق، مدوية في كل مكان بكلام ناطق وصمت صارخ: “حرية.. عدالة.. كرامة اجتماعية”، ولكن إلى متى.. وفي أي أفق؟.. لابد من جواب شفاف وشافي، فأفق الصمت والنعامة.. لا يعني غير أفق انفجار آخر لابد آت.. سيكون أشد وقد لا يبقي ولا يذر؟.
إن مثل هذا الفكر الإصلاحي المعاصر، لا ينتشر بغير فكر مفكرين متنورين ودعوة دعاة حركيين وعلم علماء عاملين، لا تزال الحركة الإسلامية متعثرة في تخريج بعض رموزهم وأعلامهم ومؤسساتهم الحركية العلمية المدنية، ولا يعيش عيشة فاعلة بغير حركات تعيش في بحبوحته بعمل مدني راشد، تصورا.. هيكلة.. وممارسة.. نشيط وفعال هيئات ومؤسسات.. تراعى فيها الأبعاد الفكرية والثقافية الأصيلة.. والمناهج التربوية والدعوية الجميلة.. والمشاريع الاجتماعية والترافعية بإنصاف عام وعدالة مجالية.. مثل هذا العمل المدني الراشد، هل هو مع أو ضد؟،.. أو على الأصح، مع ماذا ومتى.. و ضد ماذا وكيف؟، .. وليكن مهما يكن، فهو دائما مع اعتبار الواقع والعدالة والمرجعية.. ومع توسل الهوية والحرية والإبداع.. للرقي بالفكر والدعوة والمشاركة.. بالتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان ؟.