الفَرْنَسة انتهاك للدستور والسيادة الوطنية
هوية بريس – عبد الله النملي (كاتب وباحث)
أثار مشروع القانون الإطار 17.51 القاضي بتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية بالمغرب أزمة جديدة في الوقت الذي كانت فيه الهيئات الجمعوية والفعاليات المدافعة عن اللغة العربية تسارع الخطى للضغط على الحكومة من أجل تعريب التعلبم العالي والحسم في اعتماد العربية لغة التدريس. هذا المشروع غير الدستوري، والذي يمكن الطعن فيه بحكم الفصل 5 من الدستور، يحاول أن يفرض أحادية لغوية أجنبية تستهدف حرمان المغاربة من تعلم المواد العلمية بإحدى اللغتين الوطنيتين. وقد أثار مشروع القانون هذا جدلا كبيرا، وهو يشبه قانونين سابقين حول رفع الدعم عن المحروقات وصندوق التقاعد، تم تمريرهما في الولاية السابقة، على رغم المعارضة الشديدة من جانب النقابات والمجتمع المدني.
وقد أعاد هذا المشروع قضية ” فرنسة” التعليم المغربي مرة أخرى إلى دائرة الضوء، باعتباره تهديدا للغتين الرسميتين في البلاد، العربية و الأمازيغية، وانقلابا على الهوية المغربية ومبادئ الحركة الوطنية الداعية إلى تعريب التعليم و الإدارة، كما شكل صدمة وسخطا كبيرا في صفوف حماة العربية والمدافعين عنها، حيث شن عدد كبير من النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي حملة تحت وسم “فرنسة التعليم خيانة”، رفضا لمشروع القانون الإطار الذي يسعى لفرض هيمنة الفرنسية على التعليم بالمغرب، معتبرين ذلك تخليا عن مظهر من مظاهر سيادتنا القومية في بلادنا، وقبولنا عن طواعية أن نحتفظ لمستعمرنا وجلادنا بالأمس، بمظهر من مظاهر النفوذ والسيطرة والاستعمار، وانتهاكا لإرادة المغاربة المجسدة بنص الدستور الذين اختاروا العربية والأمازيغية لغتين لمخاطبتهم من قبل الدولة وجميع المرافق العمومية الأخرى، كما أنه تصرف لا يمكن تبريره بأي مسوغات واقعية أو قانونية، لكون الفرنسية لا تمثل أي مظهر من مظاهر الهوية المغربية ماضيا وحاضرا وليس لها أي امتداد تاريخي بالمغرب ذي بعد وطني ومشروع.
ويأتي مشروع القانون الإطار في ظل النقاش الدائر حول فشل النموذج التنموي المعتمد من طرف الدولة المغربية، وضرورة التفكير في نموذج تنموي جديد باعتماد الرؤية الإستراتيجية للإصلاح التربوي 2015 -2030 التي تمخضت وخرج منها مشروع القانون الإطار، الصادر عن وزارة تنتمي إلى حكومة يتولى فيها حزب العدالة والتنمية تدبير الشأن السياسي، ما جعله أمام تحد كبير لأن الآمال كانت معقودة عليه لإجراء تغييرات عميقة في الحقل التعليمي والتربوي وخاصة لغة التدريس، كما يأتي أيضا في ظل حملة امتدت على اللغة العربية، لتبلغ مداها مع الأجندات الداعية لفصل المغرب العربي عن الأمة العربية، وسحب عضويته من جامعة الدول العربية، وتغيير مسمى المغرب العربي، والمطالبة بتغيير النشيد الوطني من العربية إلى الدارجة، علاوة على الحروب التي تشنها جهات مُعادية للغة الضاد، تمثل حزب فرنسا بالمغرب، يوظف فيها أصحابها معجم الإستشراق الجديد، لعزلها عن المجتمع وإقصائها عن الحياة العامة، مُتّخذين من الفرنسية والعامية قضايا لغزو معاقل الفصحى، بحجة التبسيط والتأقلم مع معطيات العصر. وقد لاقت نداءات مثل هؤلاء المصابين بداء الشك في اللغة العربية قَبُولا عند البعض، حيث رأى بعضهم أن نَتْرُكَ العربية جانبا، لأن إحيائها بعد موتها أمْر مُعْجز، فضلا عن كونه غير مُجْد فيما يتعلق بتدريس العلوم الحديثة والتأليف فيها، بل إن التعلق باللغة العربية، حسب زعم آخرين، كلام فارغ، وليس من الوطنية في شيء، إذ الوطنية قائمة بحسبهم في المعاني لا في الألفاظ .
وفي تقريرها العالمي لرصد التعليم للجميع 2013/2014، صنفت “اليونسكو” المغرب ضمن أسوأ 21 دولة في مجال التعليم، كما أظهرت نتائج الدراسة الدولية لتطور الكفايات القرائية بيرلز 2011 PIRLS ، أن المغرب يرتب آخر بلد عربي، كما قذف مؤشر جودة التعليم العالمي، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بالمغرب إلى مؤخرة دول العالم، لتنحو الجهات المُتنفذة في البلاد باللائمة على اللغة العربية، تَبَعا لمقولة “طاحت الصمعة علقوا الحجام”. هذا المثل ينطبق تماما على اللوبي الفرنكفوني الذي يؤاخذ اللغة العربية بذنب لم تقترفه أبدا. فهل اللغة العربية هي المسؤولة عن تدني مستوى التعليم؟، وهل التخلي عن تعريب المواد العلمية بالنسبة للتعليم الثانوي وكبح طموحات الجماهير في تعريب التعليم الجامعي يمكن من النهوض بالمنظومة التعليمية ويوفر الحظوظ للنجاح الأكاديمي والمهني للأجيال المتعاقبة؟، أم أنه تكريس للتبعية الثقافية للدول المهيمنة اقتصاديا وثقافيا ؟.
يقول الدكتور عابد الجابري ( لقد اعتدنا سَماع عبارات تَحكم على مستوى التعليم بالتدني، أي بالتراجع إلى الوراء بالنسبة لما كان عليه الحال في فترة ما. مثل هذه الأحكام، ولو أنها صحيحة نسبيا، أحكام ليست بريئة دائما، هناك من يشتكي من انخفاض مستوى التعليم ليصل إلى النتيجة التي يريدها، وهي أن السبب هو التعريب، وبالتالي فالعلاج يكون في العُدول عن التعريب)، ويضيف في نفس السياق ( بخصوص التعريب يجب الفصل بين شيئين: بين ما هو ثابت ومبدئي لا مجال فيه للمراجعة ولا للتراجع، وبين ما هو قابل للتغيير والتطوير. وأقصد بالثابت هذا كون اللغة العربية هي لغة المعرفة في المغرب. ليس هناك في أي مكان من العالم بلد يضع لغته موضوعا للمناقشة. اللغة هي الوعاء التي تنصهر فيه الهوية ووحدة الوطن والمواطنة. ففي هذا الوعاء وبه تتحقق وحدة المشاعر ووحدة الفكر ووحدة الذاكرة ووحدة التطلعات، بدون هذا لن تكون هناك هوية ممتلئة وغنية، ولن تكون هناك جذور ولا ثقة بالنفس. الهوية ليست شيئا جامدا جاهزا، بل هي كيان يكون ويصير، ينمو ويغتني باللغة بما تحمله وتنشره من موروث حضاري)، وأضاف قائلا (هناك بالتأكيد من يرى ويلح على أن تدريس العلوم باللغة الفرنسية في مدارسنا الثانوية مسألة ضرورية تفرضها الظروف، وهذا قلب للأمور).
وتدل الدراسات الميدانية أن أصلح لغة للتعليم هي اللغة التي يفكر بها الطالب، فالمفاهيم العلمية إذا ألقيت على الدارسين باللغة التي يفكرون بها، نَفَذَت بيُسر إلى أعماق أذهانهم، وأمكنهم أن يُبدعوا من خلالها، علاوة عن أن القارئ أو السامع يستوعب مضمون نص عربي بزيادة مقدارها 16_ 20% ، أكثر مما يستوعب نصا بلغة أجنبية، مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة. ويزداد هذا الخطر كلما تقدم الطالب في مراحله التعليمية، لتحل اللغات الأجنبية محل اللغة العربية، ويصبح تابعا ثقافيا وحضاريا لغيره. وفي مجلة اللسان العربي كتب الأستاذ ادريس الكتاني قائلا (وقد حدث أن طلبت الحكومة المغربية عام 1963 من البنك الدولي القيام بدراسة عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب، فأرسل البنك بعثة علمية قضت شهرا في ربوع المغرب في البحث والدراسة، ثم أعدت تقريرا نصحت فيه الحكومة المغربية، ومن وجهة نظر اقتصادية بَحثة، أن تضع حدا لتعليم اللغة الفرنسية في المدارس، توفيرا ل 30% من وقت التلاميذ والمعلمين. كما درست لجنة من خبراء اليونسكو هذا الموضوع، وأكدت بوجوب استعمال اللغة الأم في التعليم العالي، ولا يمنع هذا من أن يتعلم الطالب لغات حية أخرى تُعينه على الاطلاع والاتصال بالعالم المتقدم).
لقد أدت العربية، دورا أساسيا في حياة الفكر الإنساني، حين كان نَشْرُ المعارف والعلوم يكاد يقتصر عليها طيلة المرحلة التاريخية التي ساد فيها العرب، لمدة لا تنقص عن ستة قرون، كان فيها العرب أساتذة الكون في الفكر والحضارة. فلا عجب إن استطاعت بفضل ذلك أن تستوعب الثقافات والعلوم، حين قام المترجمون في عصور الإسلام الأولى بترجمة كتب اليونان والهند والإغريق والفرس وغيرها إلى العربية. وبعد فترة من التعريب في صدر الإسلام، أصبحت اللغة العربية أداة لنقل الاكتشافات على الصعيد الدولي، ولمدة عدة قرون، لغة العلم والمعرفة التي يستعملها العلماء والمؤلفون، في جميع الأقطار الممتدة من الأندلس غربا حتى الصين شرقا. وكان على الطالب في الأندلس أن يدرس كتب البيروني وكتب ابن سينا جَنْبا إلى جَنْب كُتُب علماء الغرب العربي، حتى غَدَت اللغة العربية لغة العلم العالمي، فاضمحلت أمامها لغات عديدة (الآرامية، الكنعانية، الكلدانية، والسريانية) وزالت اللاتينية من أمامها في افريقيا واسبانيا.
وهي بذلك على عكس ما يدعي مُحْتَقروها، حافظت على دورها عبر التاريخ، وفرضت نفسها كلغة عالمية للعلم، وتأثرت بها أغلب الدول الأجنبية، واقتبست من ألفاظها لقرون طويلة من الزمان إبان ازدهار الحضارة الإسلامية. ولعل نظرة عجلى، في تاريخنا القديم والحديث كفيلة بأن تتبث أن اللغة العربية لغة العلم، تَسْبغ وتَهْضم كل ما تلقاه أمامها من أنواع البحث والعلم والحضارة على اختلاف فروعها و مصادرها، لتحوله إلى ثقافة عربية. و إذا أخذنا تعليم الطب على سبيل المثال، فإننا سنلاحظ وبوضوح تام، أن تعليم الطب بالعربية كان هو الأصل، في عصر لم يكن للعرب فيه حول ولا طول. وغني عن البيان أن اللغة العربية الفصحى، هي التي نقلت العلوم الطبية عن ابن رشد، وابن سينا، ورياضيات الخوارزمي، وغيرهم من العلماء الذين ترجمت أعمالهم إلى اليونانية وغيرها من اللغات، بل إن العربية كانت لغة تدريس العلوم والرياضيات، زمن الفارابي، وابن سينا، وابن النفيس، وجابر بن حيان.
وطلع علينا القرن التاسع عشر وقد انقطع سند العلوم على البلاد العربية، وبَطُلَ إعمال الفكر والعرب في غَفْلَة عن الغرب، قَلّمَا يعرفون ما أتاه في نهضة خلال أربعة قرون مَضَت، فكان أن أُصيبت اللغة العربية بنكبة حقيقية، تمثلت بعزلها عن تدريس العلوم الحديثة، وبفرض اللغات الأجنبية، وعَمَدَ المفوضون من أعداء العروبة على ترسيخ فكرة عَجْز اللغة العربية عن تدريس أي علم حديث . وها نحن نتوارى إلى الخلف، لنجد أن اللغات الأوربية مسيطرة على الميادين العلمية، ولنجد أنفسنا في أيامنا هذه تلاميذ للفرنسيين، نتلقى عنهم العلم والتكنولوجيا، ونَتّخذهم قُدْوَة لنا. وفي الوقت الذي يسعى فيه أنصار الفرنكفونية بالمغرب ترسيخ في أذهان التلاميذ أن الفرنسية لغة التحضر والتمدن ولغة التفوق والنجاح الدراسيين، تفيد المعطيات والأرقام أن “الفرنسية شهدت تراجعا وتقهقرا على المستوى العالمي، بل وداخل المجتمع الفرنسي نفسه أمام الغزو اللغوي الإنجليزي رغم ما تنفقه فرنسا من أموال ضخمة تقدر بـ65 مليار أورو سنويا للتعليم”.
إن محنة العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة، بل محنتها الحقيقية هي في انهزام أبنائها نفسيا أمام الزحف اللغوي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية. ومن المؤسف أن المغاربة يركضون، على نحو مفجع صوب تعلم اللغات الأجنبية، بينما تتسارع مُعَدلات هجرتهم للعربية، حتى أن إهانة العربية والحَطَّ من شأنها أصبح سلوكا عاما في المجتمع. ولعل إنشاء جمعيات لحماية اللغة العربية بالمغرب، لا يعني سوى أن لغتنا الرسمية بنص الدستور، موشكة، شأنها شأن الحيوانات الناذرة على الإنقراض. فلو منحها أصحابها المكانة اللائقة بها وأكرموها لما حلت بها تلك المصيبة، حتى بات الناس يعتقدون أن اللغات الأجنبية هي لغات الانفتاح والتقدم، أما العربية فهي لغة التراث والقدم. كيف لا يحدث ذلك ولازال بيننا من يدافع عن النشاز وينتصر للغة الأجنبي، فيما البعض الآخر يدعي أن اللغة العربية ليست لغة علوم، وهذا افتراء فاضح، وإلا فبأي لغة اكتشف الخوارزمي الجبر، والكندي الفلك، وابن زهر الدورة الدموية الصغرى؟، وبأي لغة قامت نهضة الأندلس التي نقلت بلغتها العربية علوم العرب والإغريق إلى أوربا؟