القدس الإسلامية: الأصل والامتداد
هوية بريس – د. محمد ويلالي
يعيش العالم الإسلامي – هذه الأيام – موجة من الاحتجاجات والتنديدات، وعقد اللقاءات والمشاورات، ضد القرارات الاستكبارية الجائرة، التي تريد أن تجعل من مدينة القدس عاصمة لليهود، تُنقل إليها السفارات، وتنظم فيها التحالفات، وتدار منها المؤامرات ضد إخواننا الفلسطينيين، الذين يكاد لهم، ويراد لهم أن تدور الدائرة عليهم، ليصيروا شتاتا كما كان اليهود شتاتا، تصنع لهم ملاجئ في الدول المجاورة، وينقلون إلى الحدود الموحشة، كما تنقل البضاعة الكاسدة للتخلص منها، وربما القضاء عليها.
ويتذرع اليهود بأن القدس بلدهم الأصلي، وأنهم هُجروا منها عبر اضطهاد الأمم التي تعاقبت على حكم فلسطين لهم، وأن العرب هم الطارئون الوافدون، وقد آن الأوان ليرجع أهل الأرض إلى أرضهم، وأن يطرد الطارئون من مساكنهم. وانتصر لهم بعض من ينتسبون إلى المسلمين، ممن باعوا قضية أمتهم الكبرى، وتزلفوا بإذلال لأسيادهم يبتغون عندهم العزة، وحظا من الدنيا، غير آبهين بحقائق التاريخ التي يثبت – من خلالها – عقلاء العلماء المحققين على أن القدس عربية إسلامية.
تعتبر مدينة القدس واحدة من أقدم مدن العالم، حيث يرجع تاريخ تأسيسها إلى قرابة خمسة آلاف سنة. ولقد دلت الدراسات النزيهة الموثقة، أن سكان القدس الأصليين قبيلة منحدرة من الجزيرة العربية، يسمى أهلها باليَبُوسِيين، وهي بطن من بطون الكنعانيين، وهو سبب تسميتها بـ”أرض كنعان” -كما في التوراة-. قاموا بتأسيسها ما بين 3000 و2500 قبل الميلاد، وسموها “يَبُوس”، ولعلها التسمية الأصل للقدس.
وكان اليَبوسيون أهل حضارة، فأثثوا القدس بعمارة جديدة، وزينوها بأبنية حديثة، وعاشوا فيها رخاء وازدهارا، وبنوا إلى جانبها قرابة 119 مدينة، لازالت أسماء بعضها إلى اليوم، مثل أريحا، وبيت لحم، وعكا. وكانت لغتهم -اللغة الكنعانية- هي اللغة السائدة، وهي لغة عربية قديمة، كان يتكلم بها أهل الجزيرة العربية قبل هجرتهم. ليتبين أن فلسطين بعامة، وبيت المقدس بخاصة عربية في نشأتها، ولغتها، وحضارتها، وأن حق ملكيتها التاريخية ترجع إلى العرب.
وامتد تاريخ القدس أزيد من ألفي سنة، إلى أن استولى عليها الحكم الفرعوني في القرن السادس عشر أو الرابع عشر. ثم اقتحمها اليهود، وحكموها ما بين (977 و586 ق.م)، وعاثوا فيها فسادا وتدميرا كعادتهم، ليحتلها البابليون من (586 إلى537 ق.م)، ويطردوا من فيها من اليهود إلى بابل، بعد أن هزم الملك البابلي “نبوخذ نصر الثاني” آخر ملوك اليهود. ثم أعقبه الحكم الفارسي ما بين(537 و 333 ق.م)، حيث سمح الملك الفارسي بعودة اليهود من بابل إلى القدس. ثم أعقبه الحكم اليوناني، الذي دام ما بين (333 و 63 ق.م)، عندما استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين برمتها، ليأتي الدور في حكم القدس على الرومان ما بين (63 ق.م. و636م)، الذين وجدوا من اليهود الذين بقوا في بالقدس تمردا وشغبا وعصيانا، مما جعل الحاكم الروماني يحرق المدينة، ويأسر اليهود. حتى إذا استقرت الأحوال، عاود اليهود عصيانهم، لتحرق المدينة المقدسة – بسببهم – مرتين، ويطردوا منها، ويغير اسمها إلى “إيلياء”. وبعد معارك بين الرومان والفرس، استقرت القدس في أيدي الرومانيين حتى جاء الفتح الإسلامي.
وقبل الهجرة النبوية بسنة -تقريبا-، عرفت القدس حدثا تاريخيا سيغير مجرى تاريخ هذه المدينة، حين زارها نبينا صلى الله عليه وسلمليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، القصة التي وثقها كتاب ربنا. قال -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم -: “أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ..“.
ويتمثل إذعان الأنبياء وتسليمهم لانتقال القدس إلى المسلمين، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بيت المقدس إماما بالأنبياء جميعهم، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “.. وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ – يَعْنِي نَفْسَهُ -، فَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَأَمَمْتُهُمْ”. وهو حديث يقوي رواية ابن عباس رضي الله عنه قال: “فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، قَامَ يُصَلِّي، فَالْتَفَتَ، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ“.
وكثير من الأنبياء كان لهم أثر وبصمات ببيت المقدس، ووقعت لهم به أحداث، ذكر القرآن الكريم منها الكثير. من ذلك قوله -تعالى-: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ). قال مقاتل بن سليمان: هي بيت المقدس. وكذلك قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، هي: بيت المقدس. ورفع الله عيسى بن مريم – عليه السلام – من بيت المقدس. وفي هذه الأرض المقدسة مهبطه قبل قيام الساعة. وفيها ينفخ في الصور يوم القيامة. وفيها قوله -تعالى-: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نَصْبٍ يُوفِضُونَ)، قيل: النصب هي صخرة بيت المقدس. وكذلك قوله -تعالى-: (يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)، قيل: إنه ينادي من صخرة بيت المقدس. ومن أهل التفسير من ذهب إلى أن الأرض في قول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، هي الأرض المقدسة، ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وبيت المقدس ممنوع على الدجال. ويهلك يأجوج ومأجوج دونه. وقد تاب الله على داود عليه السلام به. وصدق إبراهيم الرؤيا به. وكلّم عيسى الناس في المهد به. وتقاد الجنة يوم القيامة إليه. ومنه يتفرق الناس إلى الجنة أو إلى النار. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “البيت المقدس بنته الأنبياء، وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلّى فيه نبي، أو قام فيه مَلَك”.
وحظيت القدس بإقامة العديد من الصحابة الكرام، الذين دفنوا بها، منهم: عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأبو ريحانة الأزدي. ومر بها عدد كبير من كبار الصحابة ممن حرصوا على الصلاة في المسجد الأقصى، منهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وبلال بن أبي رباح، وأم المؤمنين صفية – رضي الله عنهم جميعًا -. كما حظيت بإقامة الكثير من العباد والزهاد والتابعين مثل: عمر بن عبد العزيز، ومالك بن دينار.. وكل هذا يدلنا على إسلامية القدس، وأنها عاصمة المسلمين. ويكفي أن يكون المسجد الأقصى قبلة لصلاة المسلمين، وأحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها.
ودخل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس سنة 15هـ، بعد أن انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح على الروم، واشترط البطريرك “صفرونيوس” أن يتسلم عمر المدينة بنفسه، فكتب معهم “العهدة العمرية”، وهي وثيقة منحتهم الحرية الدينية مقابل الجزية. وتغير اسم المدينة من إيلياء إلى القدس، ونصت الوثيقة ألا يساكنهم أحد من يهود.
وبعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي، بدأ الضعف يدب إلى المسلمين، بسبب اختلافاتهم، نتج عنها دخول الصليبيين إلى القدس، ليقتلوا قرابة 70 ألفاً من المسلمين، ولينتهكوا المقدسات الإسلامية، بل أصبحت القدس مملكة لاتينية تُحكَم من قبل ملك كاثوليكي.
ثم استطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الصليبيين في معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها.
وبعد وفاة صلاح الدين، عاد الصليبيون من جديد، وسيطروا على القدس 11 عاماً، حتى استردها بشكل نهائي الملك الصالح: نجم الدين أيوب.
وتعرضت المدينة – مرة أخرى – للغزو المغولي، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259م.
لم يكن اليهود غافلين عن كل هذه المحطات التاريخية، فتحينوا الفرصة في 3 دجنبر 1948، وبمعونة الدول المستعمرة، فانقضوا من جديد على القدس، وبسطوا سيطرتهم على فلسطين، في سبيل تحقيق حلمهم بفلسطين الكبرى، ثم السيطرة على العالم – كما يعدهم بذلك توراتهم المزور، وتلمودهم الملفق، لينتهي الأمر بالسعي لجعل القدس عاصمة لليهود.
أهيمُ بقاع القدس ما هبّت الصَّبا * فتلك رِباع الأنس في زمن الصِّبا
وما زلتُ في شوقي إليها مواصلا * سلامي على تلك المعاهد والربى