القديم والحديث… المعركة التي لم تمت
هوية بريس – كمال بوضى
إن السؤال الذي يطرح نفسه في كل مرة، هو لماذا ينظر بعين القداسة كلما تعلق الأمر بما هو قديم، وفي المقابل ينظر بعين الدناسة والخروج عن الحق، إذا تعلق الأمر بالحديث أو الجديد في ميادين الفكر والثقافة؟
وهذه القضية ليست وليدة اليوم ،بل ترجع أصولها إلى العصور الإسلامية الأولى. ففي العهد العباسي طرحت مسألة القديم والحديث في الشعر، واشتد اللجاج بين المتخاصمين، نظرا لتطور الحضارة العربية والانفتاح على أنساق ثقافية لم يكن للعرب عهد بها، فظهر بذلك أنصار القديم وهم الذين يمجدون الشعر الجاهلي ويعتبرونه الأصل الذي لا ينبغي الزيغ عنه، وأنصار الحديث أو المحدث الذين رأوا أن الوقت قد حان للنزوع نحو التجديد وإحداث تغييرات جذرية تمس تغيير نمط القصيدة العربية، ومن ثم الخروج عن سلطة القديم الذي ظل قائم البنيان، لعقود طويلة، مما ساهم في بروز ما يعرف بشعراء البديع أمثال بشار بن برد وأبي تمام…
إن الأمر لم يقف عند حدود مفاضلة أو ممايزة بين فريقين، بل تعداه إلى خطر نشوب حروب ثقافية وصراعات إيديولوجية في خضم التحولات الطارئة التي كان يعرفها السياق العربي.
وفي العصر الحديث طرحت قضية القديم والحديث، خاصة في مصر ،وقامت حولها معارك ثقافية وفكرية شرسة، التي دارت رحاها بين فريقين (التيار المحافظ والتيار المجدد).ومن أبرز الأمثلة التي ظلت حية شاهدة على هذا الصراع ،ما وقع بين طه حسين و مصطفى صادق الرافعي، باعتبارهما كانا يدافعان عن تياران مختلفان: التيار المحافظ الذي يرى في القديم الكمال والمتانة، ويعتبر أن ما استجد واستحدث ،هو انسلاخ من الثقافة الإسلامية و سعي مع دعاة الحداثة المغرضة ،وتأثر بمناهج غربية قائمة على الشك في الأصول .أما التيار المجدد فيرى في نفسه السبيل الوحيد والأوحد لنهضة فكرية ،معتبرا أن القديم تشوبه شوائب وتحوم حوله عديد من الشبه التي يلزم تقويم إعوجاجها، وأن السياق الثقافي الحالي تجاوز الصرامة الأدبية والفكرية. ونمثل لهذا الصراع بالقضية التي طرحها طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي” ،فقد أكد على فكرة مفادها “أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام ،فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وأن ما نقرؤه على أنه شعر امرؤ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء ،وإنما هو انتحال الرواة واختلاف الإعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص او إنتزاع المفسرين والمحدثين والمتكلمين”. ولسنا في سياق الرد على قول طه حسين لأن الحق ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
والذي حمله على القول بهذا الرأي، هو دراسته في أوروبا وشدة تأثره بمناهجها، خاصة المنهج الديكارتي القائم على الشك. مما جعل طه حسين عرضة للنقد من طرف التيار المحافظ معتبرا شكه في الشعر الجاهلي الذي روته وتناقلته أجيال عديدة ،واجتمعت على أصله الصحيح الذي لا تعترضه أباطيل أو أكاذيب ،هو في الحقيقة شك في النص القرآني والأصول الثابتة.
ومن الذين انبروا للرد عليه الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابه تحث راية القرآن.
إذن فهذه القضية تلخص وتجلي ملامح الصراع القائم بين القديم والحديث في سياق تاريخي محدد. ولعل الأمر الذي جعلني اكشف النقاب عن هذه القضية، هو كثرة تردادها على مسامعي من طرف بعض الزملاء أثناء دراستي الجامعية. فلا يكاد يمر يوم حتى أسمع هذه الثنائية ،وكثيرا ما جعلتني أدخل في نقاشات طويلة أحاول فيها أن أبين وجهة نظري من هذه المسألة، كما أنني لمحت البعض يضيق صدره حرجا، كلما سمع بشيء حديث، غير كامن في وعائه الفكري.
لأقول في الختام، إن لكل مرحلة خصوصياتها وثوابتها، فالقديم يشكل جزءا منا، لا يمكن لأحد الانسلاخ منه ،أما الحديث/ الجديد فقد انبثق لضرورات أملتها ظروف وسياقات محددة، ترتبط بالتطور الذي وسم عالمنا مع بروز الانفجار المعرفي والثقافي وتغير معالم الحضارة العربية، وعليه فالموازنة بينها لا تنفع في شيء، بقدر ما تؤدي إلى خلق الصراعات والدخول في مشاحنات كلامية نحن في غنى عنها.
فهل الانتصار لفريق ما والطعن في الآخر، سيؤدي إلى حصول نهضة فكرية يشرأب لها المثقف العربي، الجواب سيكون حتما بلا، لأن الأصل هو استيعاب القديم جيدا ،بغية تمثل الجديد، وأخذ ما يوافق ويخدم الفكر الإسلامي والثقافة العربية، ورفض ما يحطهما ويسعى للنيل منهما. مادمنا في وضعية تحتاج إلى من يعيد لهذه الأمة قيمتها وشموخها الذي غاب عنها منذ أزمنة غابرة.
شكرا