القرآن يقتحم حصون الغرب ..
هوية بريس – د. عبد الله الشارف
لقد أتى على أوربا دهر كانت فيه القراءة والكتابة حكرا على أصحاب الكنيسة والحكام ومن في حاشيتهما. بل إن الاشتغال بالعلوم كان محرما باستثناء علم اللاهوت الذي هو من اختصاص القساوسة والرهبان.
وتاريخ الصراع بين دهاقنة الكنيسة والعلماء الأحرار المتمردين، تاريخ ملئ بالمآسي والمصائب؛ حيث ملئت السجون بكل من سولت له نفسه نشر أفكار أونظريات علمية لا ترضى الكنيسة عنها. وكثير من هؤلاء العلماء قتلوا أو عذبوا حتى الموت.
وعندما كانت الشعوب المسيحية تتخبط في ظلمات الجهل، كانت رايات العلم والمعرفة تخفق عالية في سماء البلاد الإسلامية وعلى ربوعها؛ من المشرق إلى المغرب والأندلس. ولقد ظلت الكنيسة قرونا طويلة وهي تحكم قبضتها على رعاياها المقهورين، وتمنع نور الحضارة الإسلامية من أن يتسرب إلى بلدانها، إلى أن بزغ ما سمي بحركة النهضة الأوربية التي استلهمت التراث اليوناني الأدبي والفلسفي، والتراث العلمي الإسلامي المترجم بعد استرجاع المسيحيين لصقلية والنصف الشمالي للأندلس؛ حيث طفقت مراكز الترجمة ونقل العلوم الإسلامية، تتأسس وتنتشر في كثير من المدن المسترجعة.
وكان القرآن الكريم من بين الكتب التي ترجمت إلى اللغة اللاتينية، إلا أن ترجمته لم تكن تخلو من التحريف المقصود، فضلا عن أن كل الترجمات كانت تزعم أن نبينا محمدا صلوات الله وسلامه عليه، هو الذي كتب القرآن، وذلك قصد الحيلولة دون إعجاب المسيحيين بالإسلام أو تصديقه.
وقد قام المستشرقون الأوربيون طوال أربعة قرون أو أكثر، بأعمال الترجمة والبحث والتنقيب في كتب ومخطوطات التراث الإسلامي، بغية تشويه حقائق الإسلام الساطعة، وهم يخدمون بذلك سياسة الكنيسة الرامية إلى صد المسيحيين عن الإسلام.
لكن مع بداية عصر الاستعمار واحتكاك المستعمرين الاوربيين بالمسلمين واطلاعهم على عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم، بالإضافة إلى تراجع نفود الكنيسة وسلطانها لصالح العلم والعلمانية والحرية، بدأت الرؤية تتغير؛ حيث تبين لكثير من الغربيين أن الإسلام الذي اطلعوا عليه واحتكوا بأهله غير الإسلام الذي حدثتهم عنه الكنيسة خلال قرون من الزمن. بل إن بعضهم لم يخف إعجابه بحضارة المسلمين وما قامت به من جهود في نشر العلم والمعرفة. وهكذا بدأت حقيقة الإسلام الناصعة تستولي على قلوب الباحثين الأوربيين، فأسلم كثير من العلماء والمستشرقين وغيرهم.
وبعد نهاية فترة الاستعمار وبداية هجرة المسلمين للعمل في أوربا، ازدادت معرفة الأوربيين بالإسلام من خلال احتكاكهم بالجاليات المسلمة وتفاعلهم معها. ثم أعقب ذلك أحداث الصحوة الإسلامية والثورة الإيرانية، وغيرها من الأحداث التي جعلت من الإسلام الحدث الثقافي والديني والسياسي الأكثر هيمنة على الإعلام وتحديا للثقافة الغربية.
ومن باب المعرفة وحب الاستطلاع، أو بحثا عن علاج للقلق والفراغ الروحي، وجد كثير من الغربيين أيضا ضالتهم في الإسلام وشرعوا يدخلون فيه أفواجا أفواجا.
هذا وإذا كان الفتح الإسلامي قديما، قد توقف عند حدود فرنسا والنمسا، فإن الفتح الإسلامي الجديد يشق الآن طريقة في البلدان الغربية المسيحية بالقرآن. إن هذا القرآن العظيم بدأ يقتحم قلوب وبيوت المسيحيين، ويتحداهم بقوته وعظمته وإعجازه. وما هي إلا عقود قليلة حتى يفرح المسلمون إن شاء الله، شرقا وغرب، بالفتح الإسلامي القرآني للبلاد الغربية.