القرار الإداري المعلق تنفيذه بأمد في إدارة الجمارك
هوية بريس – خالد شهيم
الأصل في صحة القرار الإداري، أن يصدر مبرءا من العيوب التي قد تعتريه. وهي عيوب لا يكون مردها إلى مؤسسة الإدارة بقدر ما هي نابعة عن تهور المتصرف باسمها، إما بفعل جهله بالقانون، أو بدافع آخر لا يمت للمصلحة العامة بأي صلة، كدافع الانتقام مثلا، أو بغية تحقيق مصلحة خاصة أو ما إلى ذلك.
و من هذه العيوب ما يعرف بعيب مخالفة الشكل، الذي اعتبره الفقهاء كصورة معينة تفرغ فيه الإدارة إرادتها حال إصداره، من غير تقيد ولا التزام بنوعية الشكل هاته، إلا ما تم النص عليه صراحة بموجب القانون، كالإجراء الشكلي المتعلق بضرورة انعقاد المجلس التأديبي قبل توقيع العقوبات الإدارية. ومن تم يكون مفهوم عيب الشكل مثلما ورد في تعريف لبعض الفقهاء، هو “عدم احترام القواعد الإجرائية أو الشكلية المقررة في القوانين واللوائح لإصدار القرارات الإدارية، سواء كان ذلك بإهمال تلك القواعد كلية أو بمخالفتها جزئيا.”
نفاذ القرارات الإدارية
القرار الإداري ينفذ كقاعدة عامة من تاريخ إفصاح الإدارة عن إرادتها، أي من تاريخ صدوره ممن يملكه، مثلما أكد على ذلك مجلس الدولة المصري في حكمه الصادر بتاريخ 12 ديسمبر 1950 الذي قال بصدده:« إن الأوامر الإدارية ليس لها أشكال ولا أنواع تحصرها، بل هي مجرد تعبير من الموظف المختص عن إرادته في التصرف على وجه معين في أمر معين ولغرض من أغراض وظيفته وفي حدود اختصاصه .. ويكون للأمر الإداري قوام بمجرد صدوره بطريقة قاطعة وتنفيذية.»
وإذا كان الفقه قد ميز، في إطار نفاذ القرارات من تاريخ صدورها، بين القرارات البسيطة والقرارات المعلقة على شرط، فإن هذا التمييز لم يحط علما بكل القرارات التي قد تخرج عن نطاق المألوف بما ينزع عنها المشروعية المتطلبة قانونا، وفي هذا الإطار يكون قرار مدير إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة، بتعيين أحد المسؤولين محط جدل من حيث إرجاء تنفيذ القرار إلى مضي ستة أشهر من تاريخ إصداره، الشيء الذي يحتم علينا التطرق لنفاذ القرارات الإدارية بأثر رجعي، قبل مناقشة نفاذها بعد أمد من صدورها.
رجعية القرارات الإدارية
من المسلم به فقها وتشريعا وقضاء أن القرارات الإدارية الفردية بالخصوص لا يجوز سريانها على الماضي، إلا في حدود بعض الاسثناءات التي سنأتي على ذكرها، لما في هذه الرجعية من تجاوز للحقوق وللعدالة الطبيعية، إذ يقول مجلس الدولة المصري في حكمه الصادر في 25 ديسمبر 1950:«إن المساس بالحقوق المكتسبة لا يكون إلا بقانون ينص على الأثر الرجعي طبقا للمادة 27 من الدستور، حتى ولو كانت تلك الحقوق مستمدة من قرارات تنظيمية عامة تصدرها الإدارة بما لها من سلطة عامة في حدود وظيفتها التنفيذية بمقتضى القوانين، ولم تكن تلك الحقوق مستمدة مباشرة من نصوص القوانين، لأن الأصل طبقا للقانون الطبيعي هو احترام الحقوق المكتسبة، فهذا ما تقضي به العدالة الطبيعية، ويستلزمه الصالح العام، إذ ليس من العدل في شيء أن تهدد الحقوق، كما لا يتفق والمصلحة العامة أن يفقد الناس الثقة والاطمئنان على استقرار حقوقهم، لذلك كان نص المادة 27 من الدستور مؤكدا لذلك الأصل الطبيعي من حيث عدم جواز انعطاف أثر القوانين على الماضي…»
ولقد نص دستور المملكة على هذا المبدأ عندما قال في الفقرة الأخيرة من الفصل السادس: «ليس للقانون أثر رجعي»
على أن الاستثناءات الواردة على مبدأ الرجعية تبقى محصورة في نطاق ضيق مراعاة للحقوق المكتسبة كما سبق القول، نذكر منها:
– وجود نص تشريعي يبيح الرجعية،حيث يحق للإدارة إثر ذلك أن تصدر قرارها بأثر رجعي كما في حالة سحب نوع معين من القرارات ابتداء من تاريخ معين في الماضي، أو مثل قرار الترقية الذي ينصرف مفعوله بأثر رجعي يستحق معه الموظف الزيادة في الراتب ابتداء من تاريخ سابق؛
– وجود حكم قضائي يتيح الرجعية، حيث يسري حكم الإلغاء على القرار الإداري فيجعله عديما كأن لم يكن ملقيا بآثاره على الماضي والمستقبل في آن معا، ومثاله إذا ألغي قرار النقل التعسفي الصادر عن مدير الموارد البشرية، فإن هذا الأخير يكون ملزما بقوة القانون على سحب قراره التعسفي مع إرجاع الحالة إلى ما كانت عليه، لا من حيث المركز الذي كان يشغله الطاعن، ولا من حيث الامتياز الذي كان مخولا له؛
– وجود القانون الأصلح للمتهم، حيث، كما يقول الفقيه سليمان الطماوي، “يجب عند صدور القرار التأديبي عن المخالفة التي ارتكبها العامل مراعاة تطبيق القانون الساري وقت صدور القرار التأديبي لا القانون الذي كان ساريا وقت وقوع المخالفة. ومقتضى ذلك أن يكون الجزاء الموقع من بين الجزاءات الواردة في القانون الجديد، وذلك إعمالا للأثر المباشر لقانون.”
القرارات الإدارية النافذة بعد أمد من صدورها
يقوم التمييز بهذا الخصوص ما بين القرارات التنظيمية والقرارات الفردية، حيث يجوز تبعا لذلك إرجاء آثار القرارات التنظيمية إلى تاريخ لاحق في المستقبل ما دامت هذه القرارات لا تؤثر في المراكز القانونية للمخاطبين بها من الأفراد ولا تولد حقوقا مكتسبة، لأنها لا تحدث إلا مراكز نظامية عامة، فإذا ما أصدرت الوزارة هذا اليوم لائحة تنظيمية ليتم تنفيذها بعد مرور شهرين أو سنة مثلا، فإن ذلك لن يحول دون الحق في تعديل اللائحة أو تغييرها من طرف السلطة الموالية حينئذ بما يتناسب وسير المرافق العامة، وبالتالي فإن الجهة الإدارية التي أصدرت القرار التنظيمي بقصد تنفيذه بعد مدة زمنية كيفما كانت، لا تكون والحالة هاته، مغتصبة لاختصاصات الجهة الإدارية التي تليها في تداول السلطة،
أما بخصوص القرارات الفردية، فلا يجوز إرجاء تنفيذها إلى وقت لاحق بعد صدورها، كما هو الشأن في نازلة الحال عندما أرجأ مدير عام إدارة الجمارك سريان قرار تعيينه أحد المدراء إلى ستة أشهر من تاريخ إصداره، وذلك للاعتبارات التالية:
أولا: لكون القرار الفردي يؤثر في مركز المخاطب به بشكل لا يمكن للسلطة التي تحل في المستقبل محل السلطة التي أصدرت القرار، بأن تسحبه أو تبدله أو تغيره مما يجعل سلطتها مقيدة في هذا الإطار بعكس القرارات التنظيمية التي تملك فيها سلطة مطلقة كما سبق القول؛
ثانيا: لكون إصدار القرار الفردي مع إرجاء آثاره إلى تاريخ لاحق في المستقبل، يتضمن اعتداء على اختصاص السلطة الموالية المتجسدة ضمن مثالنا هذا في المدير العام الموالي إذا ما تم تنصيبه في الفترة الممتدة ما بين تاريخ الإصدار وتاريخ سريان التنفيذ؛
ثالثا: لأن في قرارات التعيين المُبْتَسرة les nominations anticipées التي تصدر قبل خلو الوظيفة دليل الانحراف والمحسوبية، كما يقول الفقيه “گيستون جيز” ، زيادة على عيب الاختصاص الزمني الواضح والجلي؛
رابعا: لأن إرجاء تنفيذ التعيين إلى تاريخ لاحق في المستقبل، قد يندرج ضمن الوعد بالتعيين، وهو ما سبق لمجلس الدولة الفرنسي أن قضى ببطلانه، مثل حكمه ببطلان قرار بالإحالة إلى المعاش صدر لينفذ بعد سنة تقريبا؛
خامسا: لتعذر وجود المصلحة العامة في قرارات التعيين المُبْتَسرة anticipées حيث لا سبيل للتحجج بفقدان الرجل الكفء مثلا أو ضياع حقوق عامة كما هو الشأن في نوعية البضاعة التي تعرض للبيع المسبق خوفا من انتقاص قيمتها لسبب من الأسباب؛
سادسا: لأن التعيين المبتسر لا يقصد به إلا تأمين حصول الأفراد على الوظيفة أو المنصب قبل خلوه مما يشوب التعيين بعيب الانحراف؛
سابعا: لأن الاستثناء الذي أجازه بعض الفقهاء إنما ينصرف إلى ضرورة استمرار المرفق العام كأن يجاور الشخص المعين تعيينا مسبقا المسؤول المحال قريبا على المعاش من أجل الإفادة منه لتعذر وجود الكفاءة المناسبة، وهو ما لا نجده لدى الإدارة الجمركية التي تتوفر على استراتيجية لتكوين المسؤولين في مركز التكوين الجمركي بنسليمان؛
ثامنا: لأن القرار لم يبين الأسباب التي أدت إلى إصداره بتلك الكيفية؛
تاسعا: لأن القرار المذكور ليس من القرارات الإدارية المعلقة على شرط كما في حالة تعيين مهندس مع إرجاء آثار القرار إلى تاريخ الانتهاء من أدائه الخدمة العسكرية.
لكل هذه الأسباب نرى أن القرار الإداري الفردي القاضي بالتعيين مع إرجاء آثاره إلى وقت لاحق، لم يكن ليصادف الصواب، مما يجعله قابلا للطعن فيه بالإلغاء لعدم مشروعيته.
ما أحوجنا إلى مثل هذه الدراسات القانونية في الوقت الراهن. تطور الإدارة بِ و لمسايرة التقدم التكنولوجي لا يعني أن تصبح هذه الإدارة رهينة المعطيات التقنية المحضة. بل على من يبرمج هذه المعطيات التقنية أن يجعل منها أداة تحترم و تخضع للقوانين الجاري بها العمل. لأن كل شيء بالإدارة العمومية له قاعدة قانونية و قبل أن يوقع أي مسؤول إداري على أي قرار، يجب عليه احترام القوانين و الإجراءات الجاري بها العمل. و أن يجعل نصب عينيه:
١-“لا أحد يعذر بجهله للقانون”؛
٢-“لا اجتهاد مع وجود النصوص القانونية”.
كثيرة هي الأخطاء الإدارية لكن أخطاء الموظف البسيط هي التي تخضع للمحاسبة