القيم الأسرية دعامة استقرار الأسرة
هوية بريس-د. سعد الدين العثماني
تقديم حول القيم
الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى والأساس، عريقة في القدم، في ظلها تتم التربية والتنشئة الأساسيتين للأبناء، بل هي أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية وأكثرها تأثيرا. وتعرف مدونة الأسرة المغربية الزواج في مادتها الرابعة كالآتي: “الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين”.
أما القيم فيمكن تعريفها اصطلاحاً بأنّها: مجموعة من المثل والمعايير والأحكام العامة السائدة في المجتمع أو بين مجموعة بشرية، والتي على أساسها يتعامل أفراده مع الأشخاص والمواقف والأشياء، بحيث تحدد الصواب والخطأ، والمرغوب فيه منها والمرفوض[1].
والقيم الاجتماعية هي تلك القيم التي توجه سلوك الأفراد في مجتمع ما، وتحسم خيارهم أمام مواقف معينة، وتتوارثها الأجيال عن طريق وسائل التنشئة الاجتماعية وفي مقدمتها الأسرة. لذلك تحدث القرآن الكريم عن وظيفة الأسرة في توريث قيم المجتمع ومبادئه والوقاية من البعد عن الدين والانزلاق إلى العصيان، وذلك في قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة” (التحريم/6).
وهذه القيم – كما يقول د. زكي نجيب محمود – تقوم في نفس الإنسان بالدور الذي يقوم به الربان في السفينة، يجريها ويرسيها عن قصد مرسوم، إلى هدف معلوم. ففهم الإنسان على حقيقته هو فهم القيم التي تمسك بزمامه وتوجهه[2].
والقيم بهذا التعريف تلتمس لذاتها وتكون مطلقة لا يحدها زمان ولا مكان، فهي تطلب باعتبارها غايات لذاتها لا وسائل لتحقيق غايات[3]. وذلك مثل ما يتحدثون عن الحق والخير والجمال باعتبارها غايات لذاتها.
ومن المهم التمييز بين القيم والأخلاق، وبين القيم والمقاصد الشرعية.
فمفهوما القيم والأخلاق متداخلان، وكثيرون يجعلونهما شيئا واحدا. والذي نختاره هنا هو إطلاق “القيم” على المثل العليا أو ما يسمى القيم الأساسية أو الفضائل، بينما القيم العملياتية أو التطبيقية أو الفرعية هي أدخل ما تكون في الأخلاق.
كما أننا نرجح أن القيم هي روح المقاصد وبوصلتها، بالمستوى ذاته التي تعتبر المقاصد روح الأعمال. كما أن المقاصد لا تعدو أن تكون بلورة للمثاليات والقيم الكامنة وراءها. ويمكن لبعض القيم أن تكون أيضا في سياقات معينة مقاصد شرعية. فالعدل قيمة عليا، لكن العدل أيضا مقصد تهدف عدد من الأحكام الشرعية إلى تحقيقه والمحافظة عليه.
وفي كل مجتمع يشترك أبناؤه في منظومة قيم معينة، تقوم هذه الأخيرة بدور تنظيم السلوك الاجتماعي. وهي تمثل بالتالي معيارا وإطارا مرجعيا للفرد في تفاعله داخل الجماعة، وتؤثر في سلوكه العملي.
والقيم الأساسية في المجتمع المسلم مرتبطة بالعقائد الإسلامية، وتستمد أساسا من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية[4]. وهذا الذي يعطيها من حيث العموم الثبات والاستقرار، مقابل النسبية والتغير المستمر عند فقدان مرجعية فوق “الفرد”. ويمكن أن تكون تلك القيم قيما مشتركة، يتقاسمها المسلمون مع المجتمعات غير المسلمة، وقد تكون قيما خاصة، يتميز بها عن المجتمعات غير المسلمة، بعضها أو كلها.
كما أن عددا من تفاصيل تلك القيم قد تكون مختلفة ومتباينة حسب تنوع ثقافات الشعوب المسلمة، أو حسب تطور واقع تلك المجتمعات وتفاعلها مع المجتمعات الأخرى.
ومن المهم أيضا الإشارة إلى أن علماء الاجتماع يتحدثون عن وجود نسق للقيم في مجتمع ما، وهو مجموعة مترابطة من القيم، منظمة وفق أولويات وترتيب هرمي، تنظم سلوك الفرد وتصرفاته، دون وعي منه في الغالب.
ومن سمات العالم المعاصر مع انتشار العولمة الكاسحة أن القيم متعددة ومتضاربة، وهو ما يطرح تحديا للشعوب المسلمة في الحفاظ على الثابت من قيمها، وتوفير شروط استمرار الأمة من خلال استمرار المبادئ والقيم المؤسسة لها.
القيم الأسرية
نعني بالقيم الأسرية: القيم الاجتماعية التي تشكل إطارا مرجعيا معياريا لإنشاء الأسرة واستمرارها، وتشكل مثلا عليا يمتاح منها أفراد الأسرة سلوكهم. وقد يطلق عليها أيضا المبادئ أو الأسس. وهي تشكل منظومة متكاملة مع باقي القيم المشكلة لمنظومة القيم الاجتماعية، مثل العدل، والصدق، والأمانة، وحب الخير.
والقيم الأسرية إطار من المثاليات يوجه نحو أهداف تأسيس الأسرة وضمان استقرارها ونجاحها.
وإذا كانت القيم من حيث العموم تعبر – من حيث المبدأ أو في بعض تفاصيل تمثلها في الواقع – عن خصائص حضارية مجتمعية، فإن القيم الأسرية هي القيم الأكثر تعبيرا عن تلك الخصائص.
والحديث عن القيم الأسرية ينطلق من أن الأسرة ليست مجرد كيان مادي وملتقى مكاني يتم فيه تلبية الحاجات الحياتية والجسدية والمادية فحسب، بل هي أيضا – وبالأساس – كيان معنوي، أساسه “ميثاق غليظ”، كما قال الله تعالى: “وأخذن منكم ميثاقا غليظا” (النساء/21)، ووظيفته رعاية النشئ ونقل قيم الإيمان ومبادئ الدين وثقافة المجتمع، وتوفير الشعور بالأمان والاستقرار.
وإن الحديث عن القيم المؤسسة للأسرة من منظور إسلامي لا يلبي فقط حاجة مبدئية وعقدية، لكنه أيضا يكشف جزءا من أسباب وعوامل العزوف عن الزواج في مجتمعاتنا، وقد نجد في ترسيخ تلك القيم أرضية قوية لمعالجة هذه الآفة المتزايدة مع مرور الوقت. كما أن اختلاف تلك القيم واختلاف مرجعيتها، يؤدي تلقائيا إلى اختلاف تشخيص الظاهرة وتقييمها، وإلى اختلاف الحلول المقترحة لمعالجتها.
إن العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية عوامل مؤثرة، لها مكانتها في نشوء وتفاقم ظاهرة العزوف، لكن العوامل الثقافية أيضا لها مكانتها، وقد تكون هي الأرضية المسهلة لفعالية العوامل الأخرى، وجعلها مؤثرة في الواقع. وفي مقدمة هذه العوامل الثقافية تأتي القيم الأسرية.
وفي هذه المقالة الموجزة لن نتطرق إلا إلى أهم تلك القيم وعلاقتها بموضوع العزوف عن الزواج.
وهي في نظرنا أربع قيم وردت في القرآن الكريم نصا، هي: قيمة العفة، وقيمة المودة، وقيمة الرحمة، وقيمة المساواة أو التوازن في الحقوق والواجبات. ورأينا أن الوعي بهذه القيم والعمل على تمثلها والتنشئة عليها، يعتبر من أهم مداخل معالجة ظاهرة العزوف عن الزواج، ومعالجة ظواهر أخرى سلبية في حياة الأسرة والمجتمع. وهذا بطبيعة الحال لا يلغي أهمية مداخل أخرى في معالجة تلك الظواهر.
القيمة الأولى – قيمة العفة
وهي أهم القيم الأسرية، وأكثرها تأثيرا على تأسيس الأسرة أول مرة، وعلى استمرارها واستقرارها بعد ذلك.
ويعرف الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ) العفة بأنها: “حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفّف ھو المتعاطي لذلك بضربٍ من الممارسة والقهر”[5]. فالعفة هي ملكة لدى الإنسان تجعله يبتعد عما تشتهيه النفس إذا كان حراما أو كان مما لا يحسن فعله.
وقريب من ذلك التعريف قول الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 هـ) بأن العفة “الكَفُّ عمَّا لا يحِل”[6]، وقول ابن منظور (ت 711هـ): “والعِفّة الكَفُّ عما لا يَحِلّ ويَجْمُلُ”.
ويواصل الراغب الأصبهاني كلامه بعد أن عرف العفة، بالقول بأنها “ضبط النفس عن الملاذ”. ثم أوضح أسسها قائلا: “وعماد عفة الجوارح كلها أن لا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص بكل واحدِ منهما (أي شهوتي البطن والفرج) إلا فيما يسوغه العقل والشرع دون الشهوة والهوى”.[7] وجعلها فضيلة أساسية تنبع منها فضائل كثيرة، وبتعبير آخر: جعلها قيمة أساسية تنبع منها أخلاق كثيرة، يقول: “وهي أس الفضائل من القناعة والعفة والزهد وغنى النفس والسخاء”.
وتتعلق (العفة) بمختلف مجالات الحياة الاجتماعية، مثل عفة الجوارح عما لا يليق من القول والفعل، وعفة المحتاج عن التذلل للآخرين، والتعفف عن المال الحرام أو الذي فيه شبهة، والتعفف عن الحرص في طلب الجاه والسلطة، وغيرها. لكن أكثر معانيها تداولا التعفف في إتيان الحرام واللاأخلاقي من العلاقات الجنسية، وهو الذي يعنينا هنا في سياق القيم الأسرية.
وانطلاقا من الأهمية القصوى لقيمة “العفة ” في بناء الأسرة واستقرارها اهتمت ﺑﻬا النصوص القرآنية والنبوية بشكل كبير.
فأعلى القرآن الكريم قيمة الاستعفاف فقال: “وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله” (النور/31)، أي وليجتهد في العفة من لا يستطيعون الزواج حتى تكون عندهم الاستطاعة.
كما جعل القرآن العلاقات الجنسية داخلة في دائرة النظام العام بسبب تأثيراتها الاجتماعية القوية – سلبا وإيجابا -. وجعل حق المجتمع أو الحق العام فيها غالبا. لذلك حرم الإسلام الزنى، أي ممارسة العلاقات الجنسية خارج الزواج، واعتبره فاحشة وذنبا كبيرا: “ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا”(الإسراء/32). وفي المقابل جعل الجنس نعمة من نعم الله يثاب عليه الإنسان إذا أتاه في الحلال. والحديث في هذا المجال مشهور، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: “وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”[8].
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أراد العفاف فالله معينه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف”[9].
وقال صلى الله عليه وسلم: “ثلاثةٌ لا ترى أعينُهم النارَ: عينٌ حرستْ في سبيلِ الله، وعينٌ بَكَتْ من خشيةِ الله، وعين كفَّتْ عن محارمِ الله”.[10]
وهكذا تكرر حث الرسول عليه السلام على الترفع على شهوات النفس وصيانتها عن الحرام وسؤال لله تعالى العفاف، ومنه قوله صلى لله عليه وسلم :”ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه اللهَّ”[11].
كما حثت الأحاديث على الزواج وجعلته من سنن المرسلين التي يقتدى فيها بهم، وحذرت من مخالفتها: “أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، ولكني أَصُوم وَأفْطر، وأَنَام وأصلي، وأتزوج النِّسَاء، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني”[12]، وحث النبي صلى الله عليه وسلم من لم يستطع أن يحصن نفسه بالزواج، على الصوم، وخاطب الشباب – وهي فئة تتسم بالحيوية وقوة الرغبات – فقال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء”[13]. والوجاء هو الحفظ والوقاية.
وتستند قيمة العفة هذه في الإسلام إلى قيمة عليا، هي أعلى قيم الدين وأسها، وهي قيمة الإيمان. لذلك جعلها القرآن الكريم في آيات عديدة من صفات المؤمنين ومن صفات عباد الرحمن. كما قال صلى لله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “لا يزني الزاني حين يَزْنِي وهو مؤمن”[14].
وإلى قريب من هذا المعنى يشير تقي الدين ابن تيمية بقوله: “فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة لما قدّم عليها لذة تبغضها وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصاً لله واجداً لحلاوة العبادة والذكر الصارف لقلبه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، بخلاف ما إذا عُدِمَ هذه الحلاوة الإيمانية، فإنه حينئذ يميل إلى شيءٍ من المحرمات “[15].
وانسجاما مع ذلك سعى الإسلام إلى إيجاد جو اجتماعي جاد غير مثير للغرائز. فحض –على عكس الموقف الحضاري الغربي – على عدم إبداء المفاتن: “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها” (النور/31). وشرع لذلك كثيرا من الأحكام المعروفة في القرآن والسنة.
ومن ذلك أن الله جل وعلا أرشد المسلمين والمسلمات إلى غض البصر عن المحرمات قال سبحانه {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن اللّه خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها…}.
وقيمة العفة من القيم التي لم تعد معتبرة في المنظومة الحضارية الغربية المعاصرة. ومرد ذلك بداية انفصال الإنسان الغربي من حيث العموم عن الوحي، والتحلل من أي حلال أو حرام، وتحرره من أي معايير مستندة إلى الدين، وفقدانه لأي أهداف إيمانية ودينية للحياة. ومن ثم أضحت اللذة هي الهدف من الحياة وهي معيار السعادة، وسادت النزعة الفردية التي جعلت المتحكم في سلوك الفرد أهواؤه ولذاته وليس الدافع الديني أو الخلقي أو الاجتماعي، “وتضخم (بل تغول) قطاع صناعة اللذة، وهيمنه على الحياة الخاصة التي تم استيعابها في رقعة الحياة العامة”[16].
وقد أدت تلك المقدمات إلى اعتبار الممارسة الجنسية داخلة في السلوك الفردي الخاص، للشخص حريته الكاملة فيه، وليس للمجتمع أن يتدخل فيه بضبط أو تقييد. كما صاحب ذلك اعتبار تصرف الفرد – رجلا أو امرأة – في جسده حرا طليقا.
ولقد كان من نتائج ذلك أن أصبح نظام العلاقات الجنسية متعددة الشركاء في المنظومة الغربية “نموذجا تتحرر وتتفتح من خلاله الشخصية الإنسانية”[17]، وأضحى المخلصون في حياتهم الزوجية في كثير من الأوساط الغربية عاجزين عن “التجرؤ على التصريح به”[18].
كما برز التفنن في عرض جسد المرأة وزينتها، واعتبار ذلك “رأسمالا” يباع ويشترى ويستثمر فيه. وانتشرت مؤسسات صناعة المتعة وتجارات الزينة والتجميل والإغراء. كما أضحى الجنس نفسه تجارة تشجع، وبضاعة تستهلك، ونشاطا اقتصاديا مقننا.
لقد شهد هذا المسار التخلي عن قيمة العفة، و”انفصال الجنس عن القيم الأخلاقية والاجتماعية، بحيث أصبح الجنس مرجعية ذاته”[19]، ومن ثم تآكل الأسرة وتناقص دورها في نقل القيم.
إن موقف الشريعة الإسلامية يقف على النقيض من هذا الموقف الحضاري الغربي. فالعفة قيمة عليا في العلاقات الاجتماعية في الإسلام، والمحافظة على العرض مقصد من مقاصد شريعته. وهذا يجعل الزواج جزءا من الفطرة الفردية و”الاجتماعية” التي فطر الله الناس عليها. وإعلاء شأن هذه القيمة أول خطوة من خطوات معالجة ظاهرة العزوف عن الزواج وأرضية صلبة أيضا لمعالجة عقبات وإشكالات استمراره ونجاحه.
القيمة الثانية – قيمة المودة
هذه القيمة الثانية من القيم الأسرية، وهي الواردة في قوله تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إِليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الروم/ 21). والمودة من الود وهو الحب، وتودد إليه تحبب. وهناك من يذهب إلى أن المودة أخص من المحبة، وأنها محبة وزيادة. يضاف إليها التحبب والإيثار. وكان الفيروزآبادي لا يرى للمحبة حدا ولا تعريفا لظهور ذلك وجلائه، يقول: “ولا تحد المحبّة بحد أوضـح منها، والحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبّة بوصف أظهر من المحبّة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها”[20].
وتتضمن الآية الكريمة من سورة الروم إشارة إلى أن هذه المودة مما جبل عليه الإنسان، انجذابا نحو الجنس الآخر. فالإشارات بعبارات: “خلق لكم” و”من أنفسكم” و”وجعل بينكم”، كلها تحيل على جعل كوني، يقضي بكون تلك الصفات فطرة جبل عليها الجنسان من حيث العموم. فالجنسان من كيان واحد ومن أصل واحد، ليحن كل جزء إلى جزئه الآخر، ويشتاق إليه، بفعل الانجذاب والتكامل بينهما.
وهذا تأكيد على أن “نظام الأسرة” ضرورة فطرية تلبي حاجة نفسية واجتماعية لا يلبيها أي شيء آخر.
ومفهوم المودة يحيل على عواطف تتوّلد بين الزوجين، تشكل الأصل الذي تقوم عليه الأسرة، وبقوتها تتقوى عوامل الاستقرار. وترقى المودة إلى مستوى “القيمة”، لتكون واحدة من المثل العليا في حياة الأفراد في المجتمع ككل، وليس في الأسرة وحدها. لكنها في الأسرة أشمل وأكثر خصوصية، تضم مختلف المعاني العاطفية والنفسية والشعورية، وهو ما عبر عنه القرآن في الآية الكريمة: “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن” (البقرة/ 187). قال عبد الله بن عباس وغيره بأن معناه: “هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن”[21]. وهي لمسة رقيقة تتضمن معاني كثيرة، مثل القرب والالتصاق والستر والراحة والارتواء والدفء والسرور والمتعة[22].
وتتفرع عن هذه القيمة الأسرية المهمة عدد من الأخلاق والسلوكات.
منها حسن المعاشرة، وفي الحديث الصحيح: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”. وحسن المعاشرة ينمي عاطفة الحب الحقيقي بين الزوجين، مما يعزز الألفة والأنس بينهما، وينمي الإحساس بالراحة والاطمئنان. وحسن المعاشرة يقع على النقيض من سلوكات الاحتقار أو الضغط أو التعنيف.
ومنها التسامح وغض الطرف عن الهفوات وعدم تتبع العثرات، والصبر في مواقف الانفعال والغضب. وفي الحديث الصحيح: “لا يفرك مؤمن مؤمنة، إذا كره منها خلقا رضي منها آخر”[23]. وهو تحذير من التسرع في بغض الزوجة لمجرد هفوة أو رد فعل سلبي، فبجوار كل صفة سلبية هناك صفات إيجابية كثيرة. وهذا مثل قول الشاعر:
وإذا الحبيبُ أتى بذنب واحدٍ … جاءت محاسنُه بألف شفيعِ
ومنها الثقة المتبادلة بين الزوجين، والبعد عن سوء الظن وحمل الأمور على أحسن محاملها.
القيمة الثالثة – قيمة الرحمة
والرحمة، من فعل رحم، ومعناها: الرقة والعطف والرأفة[24]. وهي حَالَة وجدانية تعكس رقة في الْقلب، وَتَكون سببا في العطف والإِحسان[25].
وقد جاء مفهوم الرحمة ومشتقاته في القرآن الكريم والسنة النبوية مئات المرات. ومن أكثر تلك الآيات علاقة بموضوعنا قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”. فالرحمة قيمة عليا في المنظور الإسلامي. وهي هنا تكمل قيمة المودة، لذلك قال ابن عباس: “المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء”، وقال التابعي المُفسّر إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (ت 127 هـ): “المودة المحبة والرحمة الشفقة”[26].
والرحمة تتضمن معاني وأخلاقا متعددة مثل: سعة الصدر والتسامح والصفح والحنو والألفة والرأفة والشفقة والمعروف والإحسان وصلة الرحم والبذل والعطاء[27]
وتنسحب قيمتا المودة والرحمة على الحياة الأسرية لترتقي عن أن تكون مجرد كيان مادي وملتقى مكاني يتم فيه تلبية الحاجات الجسدية والمادية، إلى مستوى كيان معنوي سام، أساسه “ميثاق غليظ”، كما قال الله تعالى: “وأخذن منكم ميثاقا غليظا” (النساء/21)، وظيفته رعاية النشئ ونقل قيم الإيمان ومبادئ الدين وثقافة المجتمع، وتوفير الشعور بالأمان والسكن والاستقرار.
وقد أول بعض المفسرين الميثاق الغليظ في الآية على أنه الحقوق المقررة للنساء على الرجال، فقال قتادة: “هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”، قال: “وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح: آالله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان”[28].
القيمة الرابعة – المساواة
فالرجل والمرأة في نصوص الشرع متساويان، شقيقان لا يجوز معاملة أحدهما بالتمييز أو التفضيل أو المحاباة. لذلك قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (البقرة:228). وقد علق ابن كثير على الآية بقوله: “ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف”. كما استنبط محمد رشيد رضا من الآية أن الإسلام جعل القاعدة الأساسية هي المساواة بين الزوجين[29]. واعتبرها “كلمة جليلة جدّا، جمعت، على إيجازها ما لا يؤدى بالتفصيل إلا في سفر كبير. فهي قاعدةً كلّية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرا واحدا غبر عنه بقوله: }وللرجال عليهن درجة{. وتلك الجملة أيضا تعطي الرجل ميزانا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال. فإذا همّ بمطالبتها بأمر يتذكّر أنّه يجب عليه مثله. وقد قال عبد الله بن عباس: إني أحبُّ أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي، لأن الله تعالى ذكره يقول: “ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف”[30].
فمقتضى “قيمة المساواة” التوازن في الحقوق والواجبات بين الزوجين، وأن “كلًّا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره ما لَا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين باْلآخر ويتخذه عبدا يستذله ويستخدمه في مصالحه، ولا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة الَّتي لَا تكون سعيدة إِلَا باحترام كل من الزوجين الْاخر والقيام بحقوقه”.
وتتفرع عن قيمة المساواة أخلاق وسلوكات عدة منها: الاحترام، والتعاون، والحوار، والتشارك في اتخاذ القرار، وتقسيم العمل والمهام الأسرية
محصل الكلام
إن هذه السمات الأربعة: العفة والمودة والرحمة والمساواة، يجب أن ترقى في وجداننا وواقعنا الاجتماعي لتكون قيما مؤسسة ومثلا موجهة لحياتنا الأسرية. وبتوفرها سيسهل تطبيق مختلف الوصفات والعلاجات والاستدراكات الأخرى لمعالجة ظاهرة العزوف عن الزواج. وبدونها ستكون تلك العلاجات محدودة الأثر في الواقع.
ومن مهام مؤسسات التنشئة الاجتماعية التربية على هذه القيم وبثها في وجدان النشء الجديد. إن التحديات التي تعيشها الأسرة المغربية تستلزم المزيد من التفصيل في القيم الأربعة، واستيعاب شبكة باقي القيم الأسرية، وحسبنا هنا هذه الإشارات المقتضبة حسب ما سمح به المقام.
[1] – انظر استعراضا مستفيضا لتعريف القيم لدى: كمال التابعي: الاتجاهات المعاصرة في دراسة القيم والتنمية، ص 15 – 44، عبد اللطيف محمد خليفة: ارتقاء القيم (دراسة نفسية)، ص 36 وما بعدها، عبد الفتاح إسماعيل: القيم السياسية في الإسلام، ص 12 – 15
[2] – عن : صلاح قنصوة: نظرية القيمة في الفكر المعاصر، ص 4.
[3] – توفيق الطويل: أسس الفلسفة، ط3، ص 305
[4] – انظر في العلاقة بين القيم والمعتقدات: عبد اللطيف محمد خليفة، ارتقاء القيم، ص 47 – 48
[5] – مفردات ألفاظ القرآن، ص 440
[6] – كتاب العين، 1/ 92
[7] – الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 224
[8] – أخرجه مسلم في صحيحه (ك الزكاة/ ب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف)
[9] – أخرجه الترمذي (ك فضائل الجهاد/ ب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون الله إياهم ) والنسائي (ك النكاح/ ب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف ) وغيرهما
[10] – أخرجه الطبراني في: المعجم الكبير وغيره، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1231): حسن لغيره.
[11] – أخرجه البخاري (ك الزكاة/ ب الاستعفاف عن المسألة)، ومسلم (ك الذكر والدعاء …/ ب التعوذ من شر ما عمل …)
[12] – أخرجه البخاري (ك النكاح/ ب الترغيب في النكاح …)
[13] – أخرجه البخاري (ك النكاح/ ب من لم يستطع الباءة فليصم) وغيره.
[14] – مسلم (ك الإيمان/ ب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي …)
[15] – شرح حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، ص …………………….
[16] – عبد الوهاب المسيري: دراسات معرفية في الحضارة الغربية، ص 110
[17] – Tony Anatrella : Le sexe oublié, Flammarion, 1990.
[18] – Idem ;
[19] – عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق، ص 119
[20] – بصائر ذوي التمييز، 2/ 416
[21] – أبو جعفر الطبري: جامع البيان في تفسير آي القرآن، 3/ 492
[22] – قارن ب: سيد قطب: في ظلال القرآن، ……..، عبد العظيم المطعني: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، 2/ 241.
[23] – أخرجه مسلم في صحيحه (ك الرضاع/ ب الوصية بالنساء)
[24] – معجم مقاييس اللغة، 2/ 498
[25] – أبو البقاء الكفوي: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ص 471
[26] – أبو عبد الله القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 14/ 17
[27] – قارن مثلا ب: مجد الدين الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، 3/ 53 – 57
[28] – أبو جعفر الطبري: جامع البيان، 8/ 127.
[29] – المنار، 5/ 446. وفصلنا قليلا في أصل المساواة في العلاقات بين الجنسين في كتابنا: قضية المرأة ونفسية الاستبداد.
[30] – جامع البيان، 4/ 532